الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
الحَجْرُ: المَنْعُ والحَظْرُ، يُقال: حَجَرَ عليه القاضِي حَجْراً: إذا مَنَعَهُ مِن التَّصَرُّفِ، فهو مَحْجورٌ عليه، ومنه سُمِّيَ العَقْلُ حِجْراً؛ لأنّهُ يَمْنَعُ مِن القَبائِحِ. ويأْتي بِمعنى التَّضْييقِ، يُقال: حَجَّرْتَ عليَّ ما وَسَّعَهُ الله، أيْ: ضَيَّقْتَ. ومِن مَعاني الحَجْرِ أيضاً: التَّخْصيصُ، والوَقْفُ، والحَجْزُ.
يَرِد مُصْطلَح (حَجْر) في كتاب البَيْعِ، باب: شُروط البَيْعِ، وفي كتاب القَضاءِ والشَّهاداتِ، باب: شُروط القاضي.
حجر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجْرُ لُغَةً الْمَنْعُ. يُقَال: حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرًا مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ (1) . وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَطِيمُ حَجَرًا لأَِنَّهُ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَدْخُل فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. وَقِيل: الْحَطِيمُ جِدَارُ الْحَجَرِ، وَالْحَجَرُ مَا حَوَاهُ الْجُدُرُ. وَسُمِّيَ الْعَقْل حِجْرًا لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبَائِحِ، قَال تَعَالَى: {هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (2) أَيْ لِذِي عَقْلٍ (3) .
وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ:
فَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ قَدْ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ لِلْغُرَمَاءِ وَعَلَى الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ لِمَصْلَحَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ مَالِهِ وَغَيْرِهَا، أَمْ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَالصَّغِيرِ، وَالسَّفِيهِ (4) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنْ نَفَاذِ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ - لاَ فِعْلِيٍّ -
فَإِنَّ عَقْدَ الْمَحْجُورِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا فَلاَ يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الإِْجَازَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الْحَجْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ لأَِنَّ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ هِيَ الَّتِي يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ فِيهَا بِالْمَنْعِ مِنْ نَفَاذِهَا. أَمَّا التَّصَرُّفُ الْفِعْلِيُّ فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ فِيهِ، لأَِنَّ الْفِعْل بَعْدَ وُقُوعِهِ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ عَنْهُ (5) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَا مُفَادُهُ: الْحَجْرُ عَلَى مَرَاتِبَ: أَقْوَى، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ أَصْل التَّصَرُّفِ بِعَدَمِ انْعِقَادِهِ (الْبُطْلاَنُ) كَتَصَرُّفِ الْمَجْنُونِ. وَمُتَوَسِّطٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ وَصْفِهِ وَهُوَ النَّفَاذُ كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ. وَضَعِيفٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ وَصْفِ وَصْفِهِ، وَهُوَ كَوْنُ النَّفَاذِ حَالًّا مِثْل تَأْخِيرِ نَفَاذِ الإِْقْرَارِ مِنَ لْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلإِْفْلاَسِ إِلَى مَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ أَدْخَل فِي التَّعْرِيفِ الْمَنْعَ عَنِ الْفِعْل، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، فَإِنَّهُ إِنْ جُعِل الْحَجْرُ هُوَ الْمَنْعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ، فَمَا وَجْهُ تَقْيِيدِهِ بِالْقَوْلِيِّ وَنَفْيِ الْفِعْلِيِّ مَعَ أَنَّ لِكُلٍّ حُكْمًا؟ وَأَمَّا مَا عَلَّل بِهِ (صَاحِبُ الدُّرِّ) مِنْ قَوْلِهِ: لأَِنَّ الْفِعْل بَعْدَ وُقُوعِهِ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، نَقُول: الْكَلاَمُ فِي مَنْعِ حُكْمِهِ لاَ مَنْعِ ذَاتِهِ، وَمِثْلُهُ: الْقَوْل، لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ بِذَاتِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بَل رَدُّ حُكْمِهِ (6) .
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَجْرَ بِأَنَّهُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ مَنْعَ مَوْصُوفِهَا مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى قُوَّتِهِ، أَوْ مِنْ نُفُوذِ تَبَرُّعِهِ بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهِ.
فَدَخَل بِالثَّانِي حَجْرُ الْمَرِيضِ وَالزَّوْجَةِ، وَدَخَل بِالأَْوَّل حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَالرَّقِيقِ فَيُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ غَيْرَ تَبَرُّعٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ فَلاَ يُمْنَعَانِ مِنَ التَّصَرُّفِ إِذَا كَانَ غَيْرَ تَبَرُّعٍ أَوْ كَانَ تَبَرُّعًا وَكَانَ بِثُلُثِ مَالِهِمَا، وَأَمَّا تَبَرُّعُهُمَا بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ فَيُمْنَعَانِ مِنْهُ (7) .
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ:
2 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا (8) }
وَقَوْلُهُ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (9) } .
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ بِالْعَدْل (10) } .
فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ السَّفِيهَ بِالْمُبَذِّرِ، وَالضَّعِيفَ بِالصَّبِيِّ وَالْكَبِيرِ الْمُخْتَل، وَاَلَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل بِالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلاَءِ يَنُوبُ عَنْهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ فَدَل عَلَى ثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ (11) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ ﵁ مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ (12) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُثْمَانَ ﵁ حَجَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ﵁ بِسَبَبِ تَبْذِيرِهِ
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْحَجْرِ:
3 - قَرَّرَ الشَّارِعُ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ يُصَابُ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ كَجُنُونٍ وَعَتَهٍ حَتَّى تَكُونَ الأَْمْوَال مَصُونَةً مِنَ الأَْيْدِي الَّتِي تَسْلُبُ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ. وَتَكُونَ مَصُونَةً أَيْضًا مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ.
وَقَرَّرَ الْحَجْرَ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي غَلْوَاءِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَالْخَلاَعَةِ وَيُبَدِّدُونَ أَمْوَالَهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَال صَوْنًا لأَِمْوَالِهِمْ، وَحِرْصًا عَلَى أَرْزَاقِ أَوْلاَدِهِمْ، وَمَنْ يَعُولُونَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ.
كَمَا شَمِل الْحَجْرُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلإِْفْتَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لاَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَضِل وَيُضِل وَتُصْبِحُ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَاءِ فُتْيَاهُ، وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِل الَّذِي يُدَاوِي الأُْمَّةَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ فَنِّ الطِّبِّ، فَتَرُوحُ أَرْوَاحٌ طَاهِرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ لِجَهْلِهِ، وَيَنْتِجُ مِنْ ذَلِكَ بَلاَءٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ جَسِيمٌ. وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، لأَِنَّهُ يُتْلِفُ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل (13) . أَسْبَابُ الْحَجْرِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصِّغَرَ وَالْجُنُونَ وَالرِّقَّ أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ وَالْمَرَضَ الْمُتَّصِل بِالْمَوْتِ أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَجْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ - فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ - وَفِي الْحَجْرِ عَلَى الْمُرْتَدِّ لِمُصْلِحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ (14) .
تَقْسِيمُ الْحَجْرِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ:
5 - يَنْقَسِمُ الْحَجْرُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - قِسْمٍ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (غَالِبًا) ، وَذَلِكَ كَحَجْرِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَالْمُبَذِّرِ وَغَيْرِهِمْ - عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ - فَالْحَجْرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ هَؤُلاَءِ حِفْظًا لأَِمْوَالِهِمْ مِنَ الضَّيَاعِ.
ب - قِسْمٌ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ (غَالِبًا) ، وَذَلِكَ كَحَجْرِ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ (الدَّائِنِينَ) ، وَحَجْرِ الرَّاهِنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَكَحَجْرِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ حَيْثُ لاَ دَيْنَ، وَحَجْرِ الرَّقِيقِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ (15) . أَوَّلاً - الْحَجْرُ عَلَى الصَّغِيرِ:
6 - يَبْدَأُ الصِّغَرُ مِنْ حِينِ الْوِلاَدَةِ إِلَى مَرْحَلَةِ الْبُلُوغِ، وَلِمَعْرِفَةِ مَتَى يَتِمُّ الْبُلُوغُ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُلُوغٌ) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حَتَّى يَبْلُغَ ثُمَّ يَسْتَمِرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (16) } وَذَلِكَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِقُصُورِ إِدْرَاكِهِ.
وَيَنْتَهِي الْحَجْرُ بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَيْ: أَبْصَرْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ حِفْظًا لأَِمْوَالِهِمْ وَصَلاَحِهِمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ. وَلاَ يَنْتَهِي الْحَجْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّبِيِّ وَلاَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ قَبْل وُجُودِ الأَْمْرَيْنِ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ كَمَا سَيَأْتِي.
أ - الْبُلُوغُ: الْبُلُوغُ انْتِهَاءُ فَتْرَةِ الصِّغَرِ وَالدُّخُول فِي حَدِّ الْكِبَرِ وَلَهُ أَمَارَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ إِنْ تَحَقَّقَتْ حُكِمَ بِهِ وَإِلاَّ فَيُرْجَعُ لِلسِّنِّ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُلُوغٌ) . ب - الرُّشْدُ:
الرُّشْدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) هُوَ الصَّلاَحُ فِي الْمَال فَقَطْ. وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ.
وَمَنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَلأَِنَّ الْعَدَالَةَ لاَ تُعْتَبَرُ فِي الرُّشْدِ فِي الدَّوَامِ. فَلاَ تُعْتَبَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ كَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلأَِنَّ هَذَا مُصْلِحٌ لِمَالِهِ فَأَشْبَهَ الْعَدْل، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَثَّرَ فِي تَضْيِيعِ الْمَال أَوْ حِفْظِهِ.
وَلَوْ كَانَ الرُّشْدُ صَلاَحَ الدِّينِ فَالْحَجْرُ عَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى مِنَ الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْفَاسِقُ يُنْفِقُ أَمْوَالَهُ فِي الْمَعَاصِي كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ أَوْ يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْفَسَادِ فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ وَتَضْيِيعِهِ إِيَّاهُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْكَذِبِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَإِضَاعَةِ الصَّلاَةِ مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ دُفِعَ مَالُهُ إِلَيْهِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ حِفْظُ الْمَال، وَمَالُهُ مَحْفُوظٌ بِدُونِ الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عَلَيْهِ بَعْدَ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ لَمْ يُنْزَعْ (17) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ وَالْمَال جَمِيعًا. وَالآْيَةُ عِنْدَهُمْ عَامَّةٌ لأَِنَّ كَلِمَةَ " رُشْدًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ الْمَال وَالدِّينَ، فَالرَّشِيدُ هُوَ مَنْ لاَ يَفْعَل مُحَرَّمًا يُبْطِل الْعَدَالَةَ، وَلاَ يُبَذِّرُ بِأَنْ يُضَيِّعَ الْمَال بِاحْتِمَال غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَوْ رَمْيِهِ فِي بَحْرٍ، أَوْ إِنْفَاقِهِ فِي مُحَرَّمٍ (18) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيل " رُشْدًا " فِي الآْيَةِ فَقَال الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: صَلاَحًا فِي الْعَقْل وَالدِّينِ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ: صَلاَحًا فِي الْعَقْل وَحِفْظُ الْمَال. قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّ الرَّجُل لَيَأْخُذُ بِلِحْيَتِهِ وَمَا بَلَغَ رُشْدَهُ. فَلاَ يُدْفَعُ إِلَى الْيَتِيمِ مَالُهُ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ.
وَهَكَذَا قَال الضَّحَّاكُ: لاَ يُعْطَى الْيَتِيمُ وَإِنْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهُ إِصْلاَحُ مَالِهِ.
وَقَال مُجَاهِدٌ: رُشْدًا " يَعْنِي فِي الْعَقْل خَاصَّةً.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ وَإِنْ شَاخَ لاَ يَزُول الْحَجْرُ عَنْهُ (19) .
أَثَرُ الْحَجْرِ عَلَى تَصَرُّفَاتِ الصَّغِيرِ:
7 - سَبَقَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رَشِيدًا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِي حُكْمِ تَصَرُّفَاتِهِ، هَل تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ أَمْ تَقَعُ فَاسِدَةً؟
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الصَّبِيِّ وَلاَ إِقْرَارُهُ وَلاَ عِتْقُهُ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا، وَإِذَا عَقَدَ الصَّبِيُّ عَقْدًا فِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ صَحَّ الْعَقْدُ كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَكَذَا إِذَا آجَرَ نَفْسَهُ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ الْعَمَل وَجَبَتِ الأُْجْرَةُ اسْتِحْسَانًا.
وَإِذَا عَقَدَ الصَّبِيُّ عَقْدًا يَدُورُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَكَانَ يَعْقِلُهُ (أَيْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ لَهُ) ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ صَحَّ، وَإِذَا رَدَّهُ بَطَل الْعَقْدُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَقْدُ غَبْنًا فَاحِشًا وَإِلاَّ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَعْقِلُهُ فَقَدْ بَطَل الْعَقْدُ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الصَّبِيُّ - سَوَاءٌ عَقَل أَمْ لاَ - شَيْئًا مُتَقَوِّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ ضَمِنَهُ، إِذْ لاَ حَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ، وَتَضْمِينُهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَهُوَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّكْلِيفِ فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنَ الْمَال لِلْحَال، وَإِذَا قَتَل فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِل لاَ يَضْمَنُ فِيهَا لأَِنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ قِبَل الْمَالِكِ: كَمَا إِذَا أَتْلَفَ مَا اقْتَرَضَهُ، وَمَا أُودِعَ عِنْدَهُ بِلاَ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلاَ إِذْنٍ (20) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا، وَزِيدَ فِي الأُْنْثَى دُخُول الزَّوْجِ بِهَا، وَشَهَادَةُ الْعُدُول عَلَى صَلاَحِ حَالِهَا.
وَلَوْ تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ بِمُعَاوَضَةٍ بِلاَ إِذْنِ وَلِيِّهِ كَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَهِبَةِ الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ) فَلِلْوَلِيِّ رَدُّ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ تَعَيَّنَ عَلَى الْوَلِيِّ رَدُّهُ كَإِقْرَارٍ بِدَيْنٍ.
وَلِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ رَدُّ تَصَرُّفِ نَفْسِهِ قَبْل رُشْدِهِ إِنْ رَشَدَ حَيْثُ تَرَكَهُ وَلِيُّهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ أَوْ لِسَهْوِهِ أَوْ لِلإِْعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ.
وَلَوْ حَنِثَ بَعْدَ رُشْدِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ حَال صِغَرِهِ: أَنَّهُ إِنْ فَعَل كَذَا فَزَوْجَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ، فَفَعَلَهُ بَعْدَ رُشْدِهِ فَلَهُ رَدُّهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ طَلاَقٌ وَلاَ عِتْقٌ، وَلَهُ إِمْضَاؤُهُ. وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ الْعَيْشِ كَدِرْهَمٍ مَثَلاً، وَلاَ يُرَدُّ فِعْلُهُ فِيهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
وَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ مَا أَفْسَدَ مِنْ مَال غَيْرِهِ فِي الذِّمَّةِ، فَتُؤْخَذُ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ مَالِهِ الْحَاضِرِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ أُتْبِعَ بِهَا فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وُجُودِ مَالٍ، هَذَا إِذَا لَمْ يُؤْتَمَنِ الصَّبِيُّ عَلَى مَا أَتْلَفَهُ، فَإِنِ اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لأَِنَّ مَنِ ائْتَمَنَهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى إِتْلاَفِهِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ ضَمِنَ الْمَحْجُورُ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَجْرِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ عَرَفَةَ: الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَزِدْ عَنْ شَهْرٍ فَلاَ ضَمَانَعَلَيْهِ لأَِنَّهُ كَالْعَجْمَاءِ. وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا لَمْ يَخْلِطْ فِيهَا، فَإِنْ خَلَطَ بِأَنْ تَنَاقَضَ فِيهَا أَوْ أَوْصَى بِغَيْرِ قُرْبَةٍ لَمْ تَصِحَّ.
وَإِنَّ الزَّوْجَةَ الْحُرَّةَ الرَّشِيدَةَ يُحْجَرُ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا فِي تَصَرُّفٍ زَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا وَتَبَرُّعُهَا مَاضٍ حَتَّى يُرَدَّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى الْبُلُوغِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ.
وَالصِّبَا يَسْلُبُ الْوِلاَيَةَ وَالْعِبَارَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ كَالْبَيْعِ، وَفِي الدَّيْنِ كَالإِْسْلاَمِ، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ عِبَادَةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ، لَكِنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْفَرِيضَةِ أَقَل مِنْ ثَوَابِ الْبَالِغِ عَلَى النَّافِلَةِ، وَلَعَل وَجْهَهُ عَدَمُ خِطَابِهِ بِهَا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لاَ ثَوَابَ أَصْلاً لِعَدَمِ خِطَابِهِ بِالْعِبَادَةِ، لَكِنَّهُ أُثِيبَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَلاَ يَتْرُكُهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْتُثْنِيَ كَذَلِكَ مِنَ الْمُمَيِّزِ الإِْذْنُ فِي دُخُول الدَّارِ، وَاسْتُثْنِيَ أَيْضًا إِيصَال هَدِيَّةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ مَأْمُونٍ أَيْ لَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذِبٌ.
وَلِلصَّبِيِّ تَمَلُّكُ الْمُبَاحَاتِ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرَاتِ وَيُثَابُ عَلَيْهَا كَالْمُكَلَّفِ، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ إِذَا عُيِّنَ لَهُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ (21) . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال فِي الْمُغْنِي (22) : وَالْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْحُكْمِ فِي السَّفِيهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فِيمَا أَتْلَفَاهُ مِنْ مَال غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ غَصَبَاهُ فَتَلِفَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ عَنْهُمَا فِيمَا حَصَل فِي أَيْدِيهِمَا بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ وَتَسْلِيطِهِ كَالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَالاِسْتِدَانَةِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِمَا، وَإِنْ أَتْلَفَاهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ.
مَتَى يُدْفَعُ الْمَال إِلَى الصَّغِيرِ:
8 - إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا أَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ ثُمَّ رَشَدَ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ وَفُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (23) } وَلِقَوْلِهِ ﷺ: لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ (24) . وَلاَ يُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُول مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَبِهِ قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمَذْهَبِ - وَالْحَنَابِلَةُ) .
وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ، لأَِنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ (25) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الصَّغِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى:
فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِبُلُوغِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ سَفَهٌ أَوْ يَحْجُرْهُ أَبُوهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ قَدْ مَاتَ وَعَلَيْهِ وَصِيٌّ فَلاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بِالتَّرْشِيدِ. فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مِنَ الأَْبِ (وَهُوَ الْوَصِيُّ الْمُخْتَارُ) فَلَهُ أَنْ يُرَشِّدَهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مُقَدَّمًا مِنْ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْشِيدُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِنَّ الْحَجْرَ عَلَى الصَّبِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ يَكُونُ لِبُلُوغِهِ مَعَ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا لِمَالِهِ بَعْدَهُ فَقَطْ إِنْ كَانَ ذَا أَبٍ أَوْ مَعَ فَكِّ الْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمُ (الْوَصِيُّ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْقَاضِي) إِنْ كَانَ ذَا وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ فَذُو الأَْبِ بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا لِلْمَال بَعْدَ بُلُوغِهِ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَفُكَّهُ أَبُوهُ عَنْهُ، قَال ابْن عَاشِرٍ: يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا حَجَرَ الأَْبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ عِنْوَانُ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِلْمَال إِلاَّ لِفَكِّ الأَْبِ.
وَأَمَّا فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْوَصِيِّ فَيَحْتَاجُ بِأَنْ يَقُول لِلْعُدُول: اشْهَدُوا أَنِّي فَكَكْتُ الْحَجْرَ عَنْ فُلاَنٍ وَأَطْلَقْتُ لَهُ التَّصَرُّفَ لِمَا قَامَ عِنْدِي مِنْ رُشْدِهِ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ، فَتَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْفَكِّ لاَزِمٌ لاَ يُرَدُّ. وَلاَ يَحْتَاجُ لإِِذْنِ الْحَاكِمِ فِي الْفَكِّ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ وَلاَ يَكُونَ لَهُ أَبٌ وَلاَ وَصِيٌّ، وَهُوَ الْمُهْمَل، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّشْدِ إِلاَّ إِنْ تَبَيَّنَ سَفَهُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَبٍ فَإِنَّهَا إِذَا بَلَغَتْ تَبْقَى فِي حِجْرِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُل بِهَا زَوْجُهَا وَتَبْقَى مُدَّةً بَعْدَ الدُّخُول.
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ عَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَعْوَامٍ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا حُسْنُ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَال وَشَهَادَةُ الْعُدُول بِذَلِكَ.
الثَّانِي: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ لاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهَا إِلاَّ بِهَذِهِ الأَْرْبَعَةِ (وَهِيَ بُلُوغُهَا، وَالدُّخُول بِهَا، وَبَقَاؤُهَا مُدَّةً بَعْدَ الدُّخُول، وَثُبُوتُ حُسْنِ التَّصَرُّفِ بِشَهَادَةِ الْعُدُول) وَفَكَّ الْوَصِيُّ أَوِ الْمُقَدَّمُ. فَإِنْ لَمْ يَفُكَّا الْحَجْرَ عَنْهَا بِتَرْشِيدِهَا كَانَ تَصَرُّفُهَا مَرْدُودًا وَلَوْعَنَسَتْ أَوْ دَخَل بِهَا الزَّوْجُ وَطَالَتْ إِقَامَتُهَا عِنْدَهُ (26) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَهُ (أَيْ قَبْل بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ) وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ مَتَى بَلَغَ الْمُدَّةَ وَلَوْ كَانَ مُفْسِدًا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} وَالْمُرَادُ بِالْيَتِيمِ هُنَا مَنْ بَلَغَ، وَسُمِّيَ فِي الآْيَةِ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْبُلُوغِ، وَلأَِنَّهُ فِي أَوَّل أَحْوَال الْبُلُوغِ قَدْ لاَ يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، لأَِنَّهُ حَال كَمَال لُبِّهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَال: يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُل إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَال أَهْل الطَّبَائِعِ (الأَْطِبَّاءُ) : مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ فِيهَا جَدًّا، لأَِنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا الْغُلاَمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا، حَتَّى لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ مُبَذِّرًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ مَالُهُ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا فَلاَ يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَال، وَلأَِنَّ مَنْعَ الْمَال عَنْهُ عَلَى سَبِيل التَّأْدِيبِ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَالاِشْتِغَال بِالتَّأْدِيبِ عِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَال بَعْدَهُ (27) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَجْنُونِ:
9 - الْجُنُونُ هُوَ اخْتِلاَل الْعَقْل بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا (28) .
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا (29) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَمْ طَارِئًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَوِيًّا أَمْ ضَعِيفًا، وَالْقَوِيُّ: الْمُطْبِقُ، وَالضَّعِيفُ: غَيْرُهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ فَهُوَ يُزِيل أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ إِنْ كَانَ مُطْبِقًا، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ آثَارُهَا الشَّرْعِيَّةُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُنُونُ مُتَقَطِّعًا فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ فِي حَال الإِْفَاقَةِ وَلاَ يَنْفِي أَصْل الْوُجُوبِ (30) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَحُكْمُهُ كَمُمَيِّزٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِثْلُهُ فِي الْمِنَحِ وَالدُّرَرِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ وَكَذَا الْمِعْرَاجُ حَيْثُ فَسَّرَ الْمَغْلُوبَ بِاَلَّذِي لاَ يَعْقِل أَصْلاً. ثُمَّ قَال: وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنِ الْمَجْنُونِ الَّذِي يَعْقِل الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْعَاقِل وَهَذَا هُوَ الْمَعْتُوهُ.
وَجَعَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ فِي حَال إِفَاقَتِهِ كَالْعَاقِل، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْعَاقِل الْبَالِغُ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ حَيْثُ قَال: إِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِلشَّارِحِ (الْحَصْكَفِيِّ صَاحِبِ الدُّرِّ) أَنْ يَقُول: فَحُكْمُهُ كَعَاقِلٍ أَيْ: فِي حَال إِفَاقَتِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ لِيَظْهَرَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْمَغْلُوبِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ حَيْثُ كَانَ غَيْرُ الْمَغْلُوبِ كَمُمَيِّزٍ لاَ يَصِحُّ طَلاَقُهُ وَلاَ إِعْتَاقُهُ كَالْمَغْلُوبِ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الْمَجْنُونُ شَيْئًا مُقَوَّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ ضَمِنَهُ إِذْ لاَ حَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ (31) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلاَّ إِذَا أَتْلَفَ شَيْئًا فَفِي مَالِهِ، وَالدِّيَةُ إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ كَالْمَال (32) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بِالْجُنُونِ تَنْسَلِبُ الْوِلاَيَاتُ الثَّابِتَةُ بِالشَّرْعِ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، أَوِ التَّفْوِيضِ كَالإِْيصَاءِ وَالْقَضَاءِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَل أَمْرَ نَفْسِهِ فَأَمْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى.
وَلاَ تُعْتَبَرُ عِبَارَةُ الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُ أَمْ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَالإِْسْلاَمِ وَالْمُعَامَلاَتِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ.
وَأَمَّا أَفْعَالُهُ فَمِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ كَإِحْبَالِهِ وَإِتْلاَفِهِ مَال غَيْرِهِ وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ بِوَطْئِهِ، وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى إِرْضَاعِهِ وَالْتِقَاطِهِ وَاحْتِطَابِهِ وَاصْطِيَادِهِ، وَعَمْدُهُ عَمْدٌ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ: حَيْثُ كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ (33) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ سَبَقَ كَلاَمُهُمْ عَلَى الْمَجْنُونِ فِي الْكَلاَمِ عَلَى الصَّبِيِّ.
وَيَرْتَفِعُ حَجْرُ الْمَجْنُونِ بِالإِْفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى فَكٍّ فَتُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ (ر: جُنُونٌ) . الْحَجْرُ عَلَى الْمَعْتُوهِ:
10 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَفْسِيرِ الْمَعْتُوهِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيل فِيهِ: هُوَ مَنْ كَانَ قَلِيل الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلاَمِ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَضْرِبُ وَلاَ يَشْتِمُ كَمَا يَفْعَل الْمَجْنُونُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ تَفْسِيرًا لِلْعَتَهِ فِي الاِصْطِلاَحِ.
وَالْمَعْتُوهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَفِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْعَاقِل.
أَمَّا إِذَا أَفَاقَ فَإِنَّهُ كَالْبَالِغِ الْعَاقِل فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (34) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِحُكْمِ تَصَرُّفَاتِ الْمَعْتُوهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٌ) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا كَانَ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ وَالأَْذْرَعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ زَال عَقْلُهُ فَمَجْنُونٌ وَإِلاَّ فَهُوَ مُكَلَّفٌ (35) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضًا لِلْمَسْأَلَةِ. الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ:
أ - السَّفَهُ:
11 - السَّفَهُ لُغَةً: هُوَ نَقْصٌ فِي الْعَقْل، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ، وَسَفِهَ الْحَقَّ جَهِلَهُ، وَسَفَّهْتُهُ تَسْفِيهًا: نَسَبْتُهُ إِلَى السَّفَهِ، أَوْ قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ سَفِيهٌ.
وَهُوَ سَفِيهٌ، وَالأُْنْثَى سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سُفَهَاءُ (36) .
وَأَمَّا اصْطِلاَحًا فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَال وَتَضْيِيعُهُ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ أَوِ الْعَقْل، كَالتَّبْذِيرِ وَالإِْسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَاتٍ لاَ لِغَرَضٍ، أَوْ لِغَرَضٍ لاَ يَعُدُّهُ الْعُقَلاَءُ مِنْ أَهْل الدِّيَانَةِ غَرَضًا، كَدَفْعِ الْمَال إِلَى الْمُغَنِّينَ وَاللَّعَّابِينَ وَشِرَاءِ الْحَمَامِ الطَّيَّارِ بِثَمَنٍ غَالٍ، وَالْغَبْنِ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ غَيْرِ مَحْمَدَةٍ (أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ) .
وَأَصْل الْمُسَامَحَاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ أَنَّ الإِْسْرَافَ حَرَامٌ كَالإِْسْرَافِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلِذَا كَانَ مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَبْذِيرُ الْمَال وَتَضْيِيعُهُ وَلَوْ فِي الْخَيْرِ كَأَنْ يَصْرِفَهُ كُلَّهُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (37) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ (أَيْ: صَرْفُ الْمَال فِي غَيْرِ مَا يُرَادُ لَهُ شَرْعًا) بِصَرْفِ الْمَال فِي مَعْصِيَةٍ كَخَمْرٍ وَقِمَارٍ، أَوْ بِصَرْفِهِ فِي مُعَامَلَةٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ (خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ) بِلاَ مَصْلَحَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَأْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالاَةٍ، أَوْ صَرْفُهُ فِي شَهَوَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ عَلَى خِلاَفِ عَادَةِ مِثْلِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمُشْرَبِهِ وَمَلْبُوسِهِ وَمَرْكُوبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَوْ بِإِتْلاَفِهِ هَدَرًا كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ يَرْمِيَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ مِرْحَاضٍ، كَمَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ السُّفَهَاءِ يَطْرَحُونَ الأَْطْعِمَةَ وَالأَْشْرِبَةَ فِيمَا ذُكِرَ وَلاَ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا (38) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، فَقَال: التَّبْذِيرُ: الْجَهْل بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ، وَالسَّرَفُ: الْجَهْل بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ. وَكَلاَمُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرَادُفَهُمَا.
وَعَلَى كُل حَالٍ فَإِنَّ السَّفِيهَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الَّذِي يُضَيِّعُ مَالَهُ بِاحْتِمَال غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ وَنَحْوِهَا إِذَا كَانَ جَاهِلاً بِهَا - أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْمُعَامَلَةِ فَأَعْطَى أَكْثَر مِنْ ثَمَنِهَا فَإِنَّ الزَّائِدَ صَدَقَةٌ خَفِيَّةٌ مَحْمُودَةٌ، أَيْ إِنْ كَانَ التَّعَامُل مَعَ مُحْتَاجٍ وَإِلاَّ فَهِبَةٌ.
وَمِنَ السَّفَهِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَرْمِيَ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِي مُحَرَّمٍ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَرْفَ الْمَال فِي الصَّدَقَةِ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ، وَالْمَطَاعِمِ وَالْمُلاَبِسِ الَّتِي لاَ تَلِيقُ بِحَالِهِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ. أَمَّا فِي الأُْولَى وَهُوَ الصَّرْفُ فِي الصَّدَقَةِ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ فَلأَِنَّ لَهُ فِي الصَّرْفِ فِي الْخَيْرِ عِوَضًا، وَهُوَ الثَّوَابُ، فَإِنَّهُ لاَ سَرَفَ فِي الْخَيْرِ كَمَا لاَ خَيْرَ فِي السَّرَفِ. وَحَقِيقَةُ السَّرَفِ: مَا لاَ يُكْسِبُ حَمْدًا فِي الْعَاجِل وَلاَ أَجْرًا فِي الآْجِل.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَذِّرًا إِنْ بَلَغَ مُفْرِطًا فِي الإِْنْفَاقِ. فَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُقْتَصِدًا فَلاَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ الصَّرْفُ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمُلاَبِسِ فَلأَِنَّ الْمَال يُتَّخَذُ لِيُنْتَفَعَ بِهِ وَيُلْتَذَّ بِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ تَبْذِيرًا عَادَةً (39) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ الْمُبَذِّرُ لَهُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ مِنْ أَهْل الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُل مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا (40) . ب - حُكْمُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إِذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّفَهِ أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَبِهَذَا قَال الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (41) } .
فَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا دَامَ سَفِيهًا، وَأَمَرَنَا بِالدَّفْعِ إِنْ وُجِدَ مِنْهُ الرُّشْدُ، إِذْ لاَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ قَبْل وُجُودِهِ، وَلأَِنَّ مَنْعَ مَالِهِ لِعِلَّةِ السَّفَهِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ مَا بَقِيَتِ الْعِلَّةُ، صَغِيرًا كَانَ السَّفِيهُ أَوْ كَبِيرًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ ﵊ خُذُوا عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ (42)
وَأَوْرَدَ ابْنُ قُدَامَةَ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ابْتَاعَ بَيْعًا، فَقَال عَلِيٌّ ﵁: لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْكَ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ، فَقَال: قَدِ ابْتَعْتُ بَيْعًا وَإِنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ الْحَجْرَ عَلَيَّ. فَقَال الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْبَيْعِ.
فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ، فَقَال: إِنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدِ ابْتَاعَ بَيْعَ كَذَا فَاحْجُرْ عَلَيْهِ. فَقَال الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ فِي الْبَيْعِ، فَقَال عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ؟
ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ فَتَكُونُ إِجْمَاعًا حِينَئِذٍ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا سَفِيهٌ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا فَإِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي اقْتَضَتِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا سَفَهُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلأَِنَّ السَّفَهَ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ مَنَعَ دَفْعَ مَالِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا حَدَثَ أَوْجَبَ انْتِزَاعَ الْمَال كَالْجُنُونِ، وَفِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ صِيَانَةٌ لِمَالِهِ وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُبْتَدَأُ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ بِسَبَبِ السَّفَهِ لِمَا سَبَقَ (43) .
الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمٍ حَاكِمٍ، كَمَا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ أَيْضًا، لأَِنَّ الْحَجْرَ إِذَا كَانَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لاَ يَزُول إِلاَّ بِهِ، وَلأَِنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ فِي مَعْرِفَتِهِ وَزَوَال تَبْذِيرِهِ فَكَانَ كَابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ لاَ يَحْتَاجُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لأَِنَّ فَسَادَهُ فِي مَالِهِ يَحْجُرُهُ وَصَلاَحُهُ فِيهِ يُطْلِقُهُ. وَإِنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَال، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ فِيمَا لَوْ بَاعَ السَّفِيهُ قَبْل قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ (44) .
تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ السَّفِيهِ فِي مَالِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ (45) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَهٌ، وَوِلاَيَةٌ) . الْحَجْرُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ:
15 - ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلاَمَةِ قَلْبِهِ وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.
وَيَخْتَلِفُ عَنِ السَّفِيهِ بِأَنَّ السَّفِيهَ مُفْسِدٌ لِمَالِهِ وَمُتَابِعٌ لِهَوَاهُ، أَمَّا ذُو الْغَفْلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ لِمَالِهِ وَلاَ يَقْصِدُ الْفَسَادَ.
وَلَمْ نَجِدْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَا الْغَفْلَةِ يُحْجَرُ عَلَيْهِ سِوَى الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ أَدْرَجَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْوَصْفَ فِي السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ يَثْبُتُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ كَالسَّفِيهِ أَيْ: مِنْ حِينِ قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمِنْ حِينِ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْغَفْلَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَزُول الْحَجْرُ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَبِزَوَال الْغَفْلَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ،
وَقَدْ شُرِعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَنَظَرًا لَهُ، فَقَدْ طَلَبَ أَهْل حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ لأََنْكَرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ طَلَبَهُمْ. وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ كَانَ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: احْجُرْ عَلَى فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لاَ أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَالرَسُول اللَّهِ ﷺ إِنْ كُنْت غَيْرَ تَارِكٍ الْبَيْعَ فَقُل: هَاءَ وَهَاءَ وَلاَ خِلاَبَةَ (46) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحْجَرُ عَلَى الْغَافِل بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ وَإِنَّمَا قَال لَهُ: قُل: لاَ خِلاَبَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ. وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لأََجَابَهُمْ إِلَيْهِ (47) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ:
16 - سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ إِفْلاَسٍ الْكَلاَمُ عَنِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا - فِي الْجُمْلَةِ - مَا يُغْنِي عَنْ إِِعَادَتِهِ هُنَا، ابْتِدَاءً مِنَ الْفِقْرَةِ (48) وَمَا بَعْدَهَا (49) . وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ هُوَ حَجْرٌ لَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِفْلاَسٌ) (وَغَيْبَةٌ) .
الْحَجْرُ عَلَى الْفَاسِقِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَفِيهًا مُبَذِّرًا لِمَالِهِ لاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ مُجَرَّدَ الْفِسْقِ فَقَطْ لاَ يُوجِبُ الْحَجْرَ، لأَِنَّ الأَْوَّلِينَ لَمْ يَحْجُرُوا عَلَى الْفَسَقَةِ، وَلأَِنَّ الْفِسْقَ لاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ إِتْلاَفُ الْمَال وَلاَ عَدَمُ إِتْلاَفِهِ (أَيْ لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ الْفِسْقِ وَإِتْلاَفِ الْمَال) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالاِسْتِدَامَةِ بِأَنْ بَلَغَ فَاسِقًا.
وَالْفَاسِقُ مَنْ يَفْعَل مُحَرَّمًا يُبْطِل الْعَدَالَةَ مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ إِصْرَارٍ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَلَمْ تَغْلِبْ طَاعَاتُهُ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُحَرَّمِ عَمَّا يَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ لإِِخْلاَلِهِ بِالْمُرُوءَةِ، كَالأَْكْل فِي السُّوقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الرُّشْدَ لأَِنَّ الإِْخْلاَل بِالْمُرُوءَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ (50) .
الْحَجْرُ عَلَى تَبَرُّعَاتِ الزَّوْجَةِ:
18 - الْمَرْأَةُ لَهَا ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَهَا أَنْ تَتَبَرَّعَ مِنْ مَالِهَا مَتَى شَاءَتْ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (51) } وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُمْ (ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا) وَإِطْلاَقِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيّكُنَّ وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِل صَدَقَتَهُنَّ وَلَمْ يَسْأَل وَلَمْ يَسْتَفْصِل، وَأَتَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى اسْمُهَا زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ عَنِ الصَّدَقَةِ هَل يَجْزِيهِنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَأَيْتَامٍ لَهُنَّ؟ فَقَال: نَعَمْ (52) وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُنَّ هَذَا الشَّرْطَ، وَلأَِنَّ مَنْ وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ لِرُشْدٍ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْغُلاَمِ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ وَلاَ حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ كَأُخْتِهَا (53) .
19 - وَذَهَبَ مَالِكٌ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِصَالِحِ زَوْجِهَا فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ أَوْ وَلِيِّهِ إذَا كَانَ سَفِيهًا.
فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ أَنْ تُعْتِقَ جَارِيَةً لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا فَحَنِثَتْ وَلَهَا زَوْجٌ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا. أَنَّهُ قَال: لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا عِتْقٌ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ بِحُلِيٍّ لَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِهَذَا، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا. فَهَل اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِلَى كَعْبٍ فَقَال: هَل أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَال: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ (54) .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: لاَ يَجُوزُ لاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا (55) وَلأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهَا. فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا (56) وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْل مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ. فَإِذَا أُعْسِرَ بِالنَّفَقَةِ أَنْظَرَتْهُ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَال الْمَرِيضِ، وَلأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّل لِلزَّوْجِ. وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ بَاقٍ فِيمَنْ طُلِّقَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا.
وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ لأَِبِيهَا وَنَحْوِهِ، إِذِ الْحَجْرُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ. وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ إِعْطَاؤُهَا الْمَال عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا مِنْ نَفَقَةِ أَبَوَيْهَا، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَتْ بِالثُّلُثِ فَأَقَل. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي جَوَازِ إِقْرَاضِهَا مَالاً زَائِدًا عَنِ الثُّلُثِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا قَوْلاَنِ:
وَجْهُ الْقَوْل بِالْجَوَازِ أَنَّهَا تَأْخُذُ عِوَضَهُ وَهُوَ رَدُّ السَّلَفِ، فَكَانَ كَبَيْعِهَا. وَوَجْهُ الْقَوْل بِالْمَنْعِ أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْهِبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْمَعْرُوفِ، وَلأَِنَّهَا تَخْرُجُ لِمُطَالَبَتِهَا بِمَا أَقْرَضَتْهُ، وَهُوَ ضَرَرٌ عَلَى الزَّوْجِ.
وَأَمَّا دَفْعُهَا الْمَال قِرَاضًا لِعَامِلٍ فَلَيْسَ فِيهِ الْقَوْلاَنِ لأَِنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ.
هَذَا وَإِنَّ تَبَرُّعَهَا بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِهَا جَائِزٌ حَتَّى يَرُدَّ الزَّوْجُ جَمِيعَهُ أَوْ مَا شَاءَ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقِيل: مَرْدُودٌ حَتَّى يُجِيزَهُ الزَّوْجُ.
وَلِلزَّوْجِ رَدُّ الْجَمِيعِ إِنْ تَبَرَّعَتْ بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ الزَّائِدُ يَسِيرًا، مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا، أَوْ لأَِنَّهَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ.
وَلِلزَّوْجِ إِمْضَاءُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ رَدُّ الزَّائِدِ فَقَطْ. وَإِذَا تَبَرَّعَتِ الزَّوْجَةُ بِثُلُثِ مَالِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَبَرَّعَ مَرَّةً أُخْرَى بِثُلُثٍ آخَرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَهُمَا بِعَامٍ عَلَى قَوْل ابْنِ سَهْلٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قِيل: وَهُوَ الرَّاجِحُ، أَوْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى قَوْل أَصْبَغَ، وَنَحْوُهُ لاِبْنِ عَرَفَةَ (57) . الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
20 - مَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْمَوْتُ فِي الأَْكْثَرِ الَّذِي يُعْجِزُ الْمَرِيضَ عَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَيُعْجِزُهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَصَالِحِ الدَّاخِلَةِ فِي دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى تِلْكَ الْحَال قَبْل مُرُورِ سَنَةٍ صَاحِبَ فِرَاشٍ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ (58) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ الطِّبُّ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ بِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَغْلِبْ، فَالْمَدَارُ عَلَى كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَوْتُ مِنْهُ شَهِيرًا لاَ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْهُ غَلَبَةُ الْمَوْتِ بِهِ (59) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ تُحْجَرُ عَلَيْهِ تَبَرُّعَاتُهُ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ حَيْثُ لاَ دَيْنَ، وَإِذَا تَبَرَّعَ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يُمْنَعُ مِمَّا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْكِسْوَةِ وَالتَّدَاوِي.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالْمُقَاتِل فِي الصَّفِّ وَالْمَحْبُوسِ لِلْقَتْل وَنَحْوِهِمَا (60) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَرَضٌ، مَوْتٌ، وَصِيَّةٌ) .
الْحَجْرُ عَلَى الرَّاهِنِ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الرَّاهِنَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ ضَمَانًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ) .
الْحَجْرُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَرْضِ الْحَجْرِ عَلَى ثَلاَثَةٍ وَهُمُ: الْمُفْتِي الْمَاجِنُ، وَالطَّبِيبُ الْجَاهِل، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ.
أ - الْمُفْتِي الْمَاجِنُ: هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَل الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ تَعْلِيمِ الْحِيَل بِقَصْدِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَمِثْلُهُ الَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ.
ب - الطَّبِيبُ الْجَاهِل: هُوَ الَّذِي يَسْقِي الْمَرْضَى دَوَاءً مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ضَرَرِهِ. ج - الْمُكَارِي الْمُفْلِسُ: هُوَ الَّذِي يُكْرِي إِبِلاً وَلَيْسَ لَهُ إِبِلٌ وَلاَ مَالٌ لِيَشْتَرِيَهَا بِهِ، وَإِذَا جَاءَ أَوَانُ الْخُرُوجِ يُخْفِي نَفْسَهُ.وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ عَلَى هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ حَقِيقَةُ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الأَْدْوِيَةَ نَفَذَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ، لأَِنَّ الأَْوَّل مُفْسِدٌ لِلأَْدْيَانِ، وَالثَّانِيَ مُفْسِدٌ لَلأَْبَدَانِ، وَالثَّالِثَ مُفْسِدٌ لِلأَْمْوَال. فَمَنْعُ هَؤُلاَءِ الْمُفْسِدِينَ دَفْعُ ضَرَرٍ لاَحِقٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَهُوَ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (61) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمُرْتَدِّ:
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ تَرِكَتَهُ فَيْءٌ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِئَلاَّ يُفَوِّتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (62) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
__________
(1) الفقهاء يحذفون الصلة تخفيفا لكثرة الاستعمال، ويقولون: محجور، وهو سائغ. المصباح.
(2) سورة الفجر / 5
(3) القاموس المحيط ولسان العرب والمصباح المنير، وتبيين الحقائق 5 / 190.
(4) مغني المحتاج 2 / 165، وأسنى المطالب 2 / 205، والمغني 4 / 505، وكشاف القناع 3 / 416.
(5) ابن عابدين 5 / 89، وتبيين الحقائق 5 / 190، وتكملة البحر 8 / 88.
(6) ابن عابدين 5 / 89، وتبيين الحقائق 5 / 190، وتكملة البحر 8 / 88.
(7) الدسوقي 3 / 292، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 381 ط دار المعارف.
(8) سورة النساء / 5.
(9) سورة النساء / 6.
(10) سورة البقرة / 282.
(11) مغني المحتاج 2 / 165.
(12) حديث كعب بن مالك: أن النبي ﷺ حجر على معاذ. . . أخرجه الدارقطني (4 / 231 - ط دار المحاسن) ، وصوب عبد الحق الأشبيلي: إرساله، كذا في التلخيص لابن حجر (3 / 37 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(13) حكمة التشريع وفلسفته للجرجاوي 257.
(14) البحر الرائق 8 / 88، والشرح الصغير 3 / 381، وما بعدها ط دار المعارف بمصر ومغني المحتاج 2 / 165 وشرح منتهى الإرادات 2 / 273 - 274.
(15) المصادر السابقة.
(16) سورة النساء / 6.
(17) المغني 4 / 516 - 517 والقوانين الفقهية ص 211.
(18) مغني المحتاج 2 / 168.
(19) تفسير القرطبي 5 / 37 ط وزارة التربية والتعليم.
(20) ابن عابدين 5 / 90 - 92.
(21) مغني المحتاج 2 / 166، والروضة 4 / 177، وحاشية الجمل 3 / 336، وشرح البهجة 3 / 122، 125.
(22) المغني 4 / 521.
(23) سورة النساء / 9.
(24) حديث: " لا يتم بعد احتلام " أخرجه أبو داود (3 / 293 - 294 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب، وفي إسناده مقال، ولكنه صحيح لطرقه. التلخيص لابن حجر (3 / 101 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(25) تبيين الحقائق 5 / 195 وبداية المجتهد 2 / 277، ومغني المحتاج 2 / 166، 170، والمغني 4 / 457.
(26) حاشية الدسوقي 3 / 296 وما بعدها، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 3 / 382 - 383 ط دار المعارف بمصر، والقوانين الفقهية ص 211 ط دار القلم.
(27) ابن عابدين 5 / 94، وتبيين الحقائق 5 / 195، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 49، والشرح الصغير 3 / 393، ومغني المحتاج 2 / 170، والمغني 4 / 518.
(28) التعريفات للجرجاني.
(29) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 381.
(30) ابن عابدين 5 / 90 - 91، والشرح الصغير 3 / 381، والقوانين الفقهية ص 325، ومغني المحتاج 2 / 165 - 166، وكشاف القناع 3 / 417 - 442.
(31) ابن عابدين 5 / 90 - 91.
(32) الشرح الصغير 3 / 381، 388، وانظر الموسوعة الفقهية 1 / 255 مصطلح: (إتلاف) .
(33) مغني المحتاج 2 / 165 - 166.
(34) ابن عابدين 5 / 90 - 91، 110، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 5 / 191.
(35) حاشية الجمل 3 / 335، وشرح الروض 4 / 345.
(36) المصباح المنير مادة: (سفه) .
(37) ابن عابدين 5 / 92.
(38) الشرح الصغير 3 / 393.
(39) مغني المحتاج 2 / 168 - 169.
(40) المغني 4 / 506، 517، وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 443.
(41) سورة النساء / 5، 6.
(42) حديث: " خذوا على يد سفهائكم " أخرجه الطبراني في الكبير من حديث النعمان بن بشير كما في الجامع الصغير للسيوطي (3 / 435 - بشرحه الفيض - ط المكتبة التجارية) ورمز السيوطي إليه بالضعف.
(43) ابن عابدين 5 / 92.
(44) تبيين الحقائق 5 / 195، والشرح الصغير 3 / 388 - 389، وأسنى المطالب 2 / 208، والمغني 4 / 519 - 520.
(45) ابن عابدين 5 / 93، والشرح الصغير 3 / 384 وما بعدها، والقوانين الفقهية 211، ومغني المحتاج 2 / 171، وشرح منتهى الإرادات 2 / 294.
(46) حديث أنس بن مالك. . . أخرجه أبو داود (3 / 767 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 543 - ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".
(47) تبيين الحقائق 5 / 194، 198 - 199، وابن عابدين 6 / 148 ط الحلبي والشرح الصغير 3 / 393، ومغني المحتاج 2 / 168، والمغني 4 / 516 وما بعدها.
(48)
(49) الموسوعة الفقهية 5 / 302 وما بعدها.
(50) تبيين الحقائق 5 / 198، والقوانين الفقهية ص 211، ومغني المحتاج 2 / 168 والمغني 4 / 516 - 517.
(51) سورة النساء / 6.
(52) حديث: " تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط السلفية) ومسلم (2 / 694 - ط الحلبي) من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود.
(53) المغني 4 / 514.
(54) حديث " أن امراة كعب بن مالك. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط الحلبي) والطحاوي في شرح المعاني (4 / 351 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وقال البوصيري: " إسناده يحيى، وهو غير معروف في أولاد كعب، فالإسناد لا يثبت " وقال الطحاوي (4 / 353) " حديث شاذ لا يثبت ".
(55) حديث: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بأذن زوجها " أخرجه أبو داود (3 / 816 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(56) حديث: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها وجمالها، ولدينها " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(57) الزرقاني 5 / 306 - 307، والمغني 4 / 513 - 514.
(58) مجلة الأحكام العدلية م 1595، وابن عابدين 5 / 423.
(59) الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 306.
(60) ابن عابدين 5 / 93، 423، والقوانين الفقهية ص 212، والدسوقي 3 / 306، ومغني المحتاج 2 / 165، وكشاف القناع 3 / 416.
(61) ابن عابدين 5 / 93.
(62) مغني المحتاج 2 / 165، وشرح منتهى الإرادات 2 / 274، والدسوقي 3 / 292.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 84/ 17
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجْرُ بِالْكَسْرِ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا: حِضْنُ الإِْنْسَانِ، وَهُوَ مَا دُونَ إِبْطِهِ إِلَى الْكَشْحِ، أَوِ الصَّدْرُ وَالْعَضُدَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مَا بَيْنَ يَدَيِ الإِْنْسَانِ مِنْ ثَوْبِهِ. وَيُقَال لِمَنْ فِي حِمَايَتِهِ شَخْصٌ إِنَّهُ فِي حِجْرِهِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا: أَيْ كَنَفِهِ.
وَمِنْهَا: الْعَقْل وَفِي هَذَا قَوْله تَعَالَى: {هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (1) }
وَمِنْهَا: الْحَرَامُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ (2) } .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْقِسْمُ الْخَارِجُ عَنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مَحُوطٌ مُدَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ نِصْفِ دَائِرَةٍ وَيُسَمَّى (حِجْرَ إِسْمَاعِيل) قَال ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَل إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحِجْرَ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ عَرِيشًا مِنْ أَرَاكٍ تَقْتَحِمُهُ الْعَنْزُ، وَكَانَ زَرْبًا لِغَنَمِ إِسْمَاعِيل. وَيُسَمَّى الْحَطِيمَ وَقِيل: الْحَطِيمُ هُوَ جِدَارُ الْحِجْرِ، وَقِيل مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ سِتَّةَ أَذْرُعٍ نَبَوِيَّةٍ مِنَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ. وَيَدُل لِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالأَْرْضِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حِينَ بَنَتِ الْكَعْبَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ، فَهَلُمِّي لأُِرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ حَرِيقِ الْكَعْبَةِ وَعِمَارَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَهَا ثُمَّ قَال: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُول: إِنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَقْوَى عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ (4) . قَال عَطَاءٌ: وَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أَسَاسَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ انْتَهَى (5) . وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ جَمِيعِهِ مِنَ الْبَيْتِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ (6) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂ قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْحِجْرِ فَقَال: هُوَ مِنَ الْبَيْتِ (7) . وَعَنْهَا ﵂ قَالَتْ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُل الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ ﷺ بِيَدِيِّ، فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ فَقَال: صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ دُخُول الْبَيْتِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ (8) .
اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
يَجُوزُ اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي خَارِجَ الْحِجْرِ سَوَاءٌ، أَكَانَتِ الصَّلاَةُ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً: لِحَدِيثِ: الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ (9) . أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي فِي دَاخِلِهِ فَلاَ يَصِحُّ الْفَرْضُ، كَصَلاَتِهِ فِي دَاخِل الْبَيْتِ (10) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِاسْتِقْبَال الْحِجْرِ، فَرْضًا كَانَتْ أَمْ نَفْلاً، لأَِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْبَيْتِ مَظْنُونٌ لِثُبُوتِهِ بِخَبَرِ الآْحَادِ، وَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (11) } وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَل بِنَصِّ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (12) . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عِيَاضٌ وَالْقَرَافِيُّ وَابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (13) .
وَالتَّفْصِيل فِي (طَوَافٌ، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ) .
الطَّوَافُ مِنْ دَاخِل الْحِجْرِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الطَّوَافُ مِنْ دَاخِل الْحِجْرِ، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَارِجِ الْحِجْرِ.
وَقَال مَنْ يَرَى أَنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ أَنَّ مَنْ طَافَ دَاخِل الْحِجْرِ لَمْ يَطُفْ جَمِيعَ الْبَيْتِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِقَوْل الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (14) } .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْحِجْرِ، فَقَال: هُوَ مِنَ الْبَيْتِ (15) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ: طَافَ خَارِجَ الْحِجْرِ (16) ، وَقَدْ قَال: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (17)
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ خَارِجَ السِّتَّةِ الأَْذْرُعِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْبَيْتِ. وَعِنْدَ هَؤُلاَءِ لاَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَارِجَ جَمِيعِهِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (18) . (ر: طَوَافٌ) .
__________
(1) سورة الحجر / 5.
(2) سورة الأنعام / 138.
(3) المصباح: مادة (حجر) ، وشرح الزرقاني 2 / 263.
(4) حديث: " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 439 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 969 - 970 - ط الحلبي) .
(5) شفاء الغرام للفاسي 2 / 211، وروضة الطالبين 3 / 80، وبدائع الصنائع 2 / 131، والمغني 3 / 382، ومطالب أولي النهى 1 / 375، وشرح الزرقاني 2 / 263.
(6) المصادر السابقة.
(7) حديث: " هو من البيت " أخرجه البخاري ومسلم ضمن الحديث المتقدم.
(8) حديث: " صلى في الحجر. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 526 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 216 - ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".
(9) حديث: " الحجر من البيت " سبق تخريجه (ف 2) .
(10) حاشية الدسوقي 1 / 228، وشرح الزرقاني 1 / 191، ومطالب أولي النهى 1 / 375.
(11) سورة البقرة / 144.
(12) بدائع الصنائع 2 / 131، ابن عابدين 1 / 286، والمجموع 3 / 193، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 1 / 101.
(13) شرح الزرقاني 2 / 191.
(14) سورة الحج / 29.
(15) حديث: " هو من البيت " سبق تخريجه (ف 2) .
(16) حديث: " طاف خارج الحجر " ورد من حديث عبد الله بن عباس قال: الحجر من البيت، لأن رسول الله ﷺ طاف بالبيت من ورائه. قال الله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . أخرجه الحاكم (1 / 460 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وصححه.
(17) حديث: " ولتأخذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) .
(18) روضة الطالبين 3 / 80، والمغني 3 / 382 - 383، وبدائع الصنائع 2 / 131، وشرح الزرقاني 2 / 263.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 102/ 17
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".