الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
القراءات العشر.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُشْرُ لُغَةً: الْجُزْءُ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، وَيُجْمَعُ الْعُشْرُ عَلَى عُشُورٍ، وَأَعْشَارٍ (1) ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ الْعُشْرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: عُشْرُ التِّجَارَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ.
وَالثَّانِي: عُشْرُ الصَّدَقَاتِ، أَوْ زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ (2) .
وَيُقْتَصَرُ هُنَا عَلَى بَحْثِ عُشْرِ التِّجَارَةِ. أَمَّا عُشْرُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ فَمَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٌ)
وَعُشْرُ التِّجَارَةِ: هُوَ مَا يُفْرَضُ عَلَى أَمْوَال أَهْل الذِّمَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ إِذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ دَاخِل بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ (3) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الزَّكَاةُ:
2 - الزَّكَاةُ لُغَةً: النَّمَاءُ وَالرَّيْعُ وَالزِّيَادَةُ. وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عَلَى أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ فِي أَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْل وَالنِّصَابُ (4) ، وَتُطْلَقُ - أَيْضًا - عَلَى الْمَال الْمُخَرَّجِ.
وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي مَال الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ لِلتِّجَارَةِ أَمْ غَيْرِهَا، أَمَّا الْعُشْرُ فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ.
ب - الْجِزْيَةُ:
3 - الْجِزْيَةُ: مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لأَِمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، تَحْتَ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ وَصَوْنِهِ (5) . وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْجِزْيَةِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ، أَمَّا الْعُشْرُ فَيُوضَعُ عَلَى الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ ج - الْخَرَاجُ:
4 - الْخَرَاجُ: مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا (6) ، وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (الْجِزْيَةَ الْعُشْرِيَّةَ (2)) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْخَرَاجَ يُوضَعُ عَلَى رَقَبَةِ الأَْرْضِ، أَمَّا الْعُشْرُ فَيُوضَعُ عَلَى الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ.
د - الْخُمُسُ:
5 - الْخُمُسُ: اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَمَّسُ (7) ، وَالْخُمُسُ يَجِبُ فِي كُل مَالٍ فَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، أَمَّا الْعُشْرُ فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَنْتَقِل بِهَا التَّاجِرُ الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُسْتَأْمَنُ. هـ الْفَيْءُ:
6 - الْفَيْءُ لُغَةً: الرُّجُوعُ (8) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْل دِينِهِ مِنْ أَمْوَال مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ بِلاَ قِتَالٍ، إِمَّا بِالْجَلاَءِ، أَوْ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى جِزْيَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا (9) .
فَبَيْنَ الْفَيْءِ وَالْعُشُورِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْعُشُورِ. حُكْمُ أَخْذِ الْعُشْرِ:
7 - يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ تِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ دُخُولِهِمْ بِهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيل الْحُكْمِ سَيَأْتِي (10) أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ:
8 - اسْتَدَل الْفُقَهَاءُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول. أَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ (11)
فَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالٌ سِوَى الزَّكَاةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عُشْرُ التِّجَارَاتِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ الْعُشَّارَ لِيَأْخُذُوا الْعُشْرَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا (12) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَالتَّاجِرُ الَّذِي يَنْتَقِل بِتِجَارَتِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ يَحْتَاجُ إِلَى الأَْمَانِ، وَالْحِمَايَةِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَالدَّوْلَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ تَتَكَفَّل بِتَأْمِينِ ذَلِكَ عَبْرَ طُرُقِهَا وَمَمَرَّاتِهَا التِّجَارِيَّةِ، فَالْعُشْرُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ التَّاجِرِ هُوَ فِي مُقَابِل تِلْكَ الْحِمَايَةِ، وَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ (13) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ:
9 - الْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِهِدَايَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، إِذْ بِدُخُولِهِمْ بَعْدَ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُمْ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ لِلتِّجَارَةِ يَطَّلِعُونَ عَلَى مَحَاسِنِ الإِْسْلاَمِ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الدُّخُول فِيهِ (14)
وَالْعُشْرُ مَوْرِدٌ مَالِيٌّ تَسْتَعِينُ بِهِ الدَّوْلَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (15) .
وَالْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِزِيَادَةِ الْمَال وَنَمَائِهِ، إِذْ أَنَّ السَّمَاحَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ وَالتَّنَقُّل بِتِجَارَاتِهِمْ فِي مُقَابِل الْعُشْرِ يُؤَدِّي إِلَى تَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ وَزِيَادَتِهَا، كَمَا قَال الدَّهْلَوِيُّ؛ لأَِنَّ النُّمُوَّ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالتَّرَدُّدِ خَارِجَ الْبِلاَدِ (16) .
وَالْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِزِيَادَةِ التَّبَادُل التِّجَارِيِّ بَيْنَ الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ وَالدُّوَل الأُْخْرَى.
قَال السَّرَخْسِيُّ: إِنَّا إِذَا عَامَلْنَاهُمْ بِمِثْل مَا يُعَامِلُونَنَا بِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى مَقْصُودِ الأَْمَانِ وَاتِّصَال التِّجَارَاتِ (17) .
الأَْشْخَاصُ الَّذِينَ تُعَشَّرُ أَمْوَالُهُمْ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ تِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلُوا بِهَا دَارَ الإِْسْلاَمِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَوَّلاً: الْمُسْتَأْمَنُونَ:
11 - الْمُسْتَأْمَنُ هُوَ الَّذِي يَقْدَمُ بِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا، وَهَؤُلاَءِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: رُسُلٌ، تُجَّارٌ، وَمُسْتَجِيرُونَ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِمُ الإِْسْلاَمُ وَالْقُرْآنُ، وَطَالِبُو حَاجَةٍ مِنْ زِيَارَةٍ وَغَيْرِهَا (18) .
فَمَنْ دَخَل مِنْ هَؤُلاَءِ بِتِجَارَةٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُ مَذَاهِبَ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ بِمَال التِّجَارَةِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُ مَالِهِ إِذَا بَلَغَ الْمَال نِصَابًا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا، فَإِنْ عُلِمَ مِقْدَارُ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا أُخِذَ مِنْهُمْ مِثْلُهُ مُجَازَاةً، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ أَخْذُهُمُ الْكُل فَلاَ نَأْخُذُ مِنْهُمُ الْكُل بَل نَتْرُكُ لَهُمْ مَا يُبَلِّغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ إِبْقَاءً لِلأَْمَانِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لاَ يَأْخُذُونَ مِنَّا لاَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ لِيَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّنَا أَحَقُّ بِالْمَكَارِمِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ مَال صَبِيٍّ حَرْبِيٍّ إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَمْوَال صِبْيَانِنَا (19) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ بِمَال التِّجَارَةِ إِلَى بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ عَلَى شَيْءٍ يُعْطِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَلَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْعُشْرِ، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ عَدَمِ تَعْيِينِ جُزْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ، إِلاَّ أَنْ يُؤَدِّيَ الإِْمَامَ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَخْذِ أَقَل فَيَقْتَصِرَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ (20) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشَرَطَ الإِْمَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُشْرَ تِجَارَتِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل أَخَذَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ بَل عَقَدَ لَهُمُ الأَْمَانَ عَلَى دِمَائِهِمْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا إِنْ دَخَلُوا بِأَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ بِشَرْطٍ أَوْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَؤُلاَءِ الْمُسْتَأْمَنُونَ مِنْ قَوْمٍ يُعَشِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ دَخَلُوا بِلاَدَهُمْ أَوْ يُخَمِّسُونَهُمْ (21) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَل بِلاَدَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ وَاتَّجَرَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تِجَارَتِهِ الْعُشْرُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ أَكَانَ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ أَعَشَّرُوا أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلَتْ إِلَيْهِمْ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ عُمَرَ ﵁ أَخَذَ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ، وَاشْتُهِرَ وَلَمْ يُنْكَرْ، عَمِل بِهِ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَذَكَرَ الْمُوَفَّقُ أَنَّ لِلإِْمَامِ تَرْكَ الْعُشْرِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ (22) .
ثَانِيًا: أَهْل الذِّمَّةِ:
12 - أَهْل الذِّمَّةِ: هُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّصَارَى، وَالْيَهُودِ، وَالْمَجُوسِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بِمُوجَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا انْتَقَل الذِّمِّيُّ بِتِجَارَتِهِ إِلَى غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي أُقِرَّ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ: كَالشَّامِيِّ يَنْتَقِل إِلَى مِصْرَ أَوِ الْعِرَاقِ أَوِ الْحِجَازِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ إِنِ اتَّجَرَ نِصْفَ الْعُشْرِ فِي تِجَارَتِهِ يُؤَدِّيهِ فِي الْعَامِ مَرَّةً، كَمَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُ زَكَاةَ تِجَارَتِهِ وَهِيَ رُبْعُ الْعُشْرِ فِي كُل عَامٍ، فَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سِيَّانِ إِلاَّ فِي مِقْدَارِ الْعُشْرِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا يَدْفَعُهُ الذِّمِّيُّ هُوَ جِزْيَةٌ فِي مَالِهِ، كَمَا يُسَمَّى خَرَاجُ أَرْضِهِ جِزْيَةً، فَالْجِزْيَةُ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ: جِزْيَةُ مَالٍ، وَجِزْيَةُ أَرْضٍ، وَجِزْيَةُ رَأْسٍ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ بَعْضِهَا سُقُوطُ بَاقِيهَا إِلاَّ فِي بَنِي تَغْلِبَ (23) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّينَ لِهَذَا الاِنْتِقَال؛ لأَِنَّهُمْ عُوهِدُوا عَلَى التِّجَارَةِ وَتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ بِآفَاقِهِمُ الَّتِي اسْتَوْطَنُوهَا، فَإِذَا طَلَبُوا تَنْمِيَةَ أَمْوَالِهِمْ بِالتِّجَارَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ حَقُّ غَيْرِ الْجِزْيَةِ الَّتِي صُولِحُوا عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يَجْلِبُونَهُ إِلَى مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَةِ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا إِلَيْهِ (24) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ سِوَى الْجِزْيَةِ إِنِ اتَّجَرُوا فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الإِْمَامُ عَلَيْهِمْ مَعَ الْجِزْيَةِ شَيْئًا مِنْ تِجَارَتِهِمْ، فَإِنْ دَخَلُوا بِلاَدَ الْحِجَازِ فَيَنْظُرُ إِنْ كَانَ لِنَقْل طَعَامٍ أَوْ نَحْوِهِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْل الْحِجَازِ أَذِنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لاَ حَاجَةَ بِأَهْل الْحِجَازِ إِلَيْهَا كَالْعِطْرِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ عِوَضًا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ، وَكَانَ عُمَرُ ﵁ يَشْتَرِطُ الْعُشْرَ فِي بَعْضِ الأَْمْتِعَةِ كَالْقَطِيفَةِ، وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَنْ دَخَل دَارَ الْحِجَازِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ (25) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ يَجُزْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي السَّنَةِ (26) .
تَعْشِيرُ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ:
13 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ عُرُوضِ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُشْرِ الْمُقَرَّرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ، لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ. (27) شُرُوطُ مَنْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ:
14 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لأَِخْذِ الْعُشْرِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَمِنَ الذِّمِّيِّينَ عِدَّةَ شُرُوطٍ وَهِيَ:
أ - الْبُلُوغُ:
15 - اشْتَرَطَ الْحَنِيفَةُ الْبُلُوغَ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَالُوا: يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ كُل تَاجِرٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِجِزْيَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِمَال التِّجَارَةِ، لِتَوَسُّعِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ وَانْتِفَاعِهِ بِالتِّجَارَةِ بِهَا، فَيَسْتَوِي فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ (28) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَمُقْتَضَى إِطْلاَقِ نُصُوصِهِمْ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَالْعُشُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَرْجِعُهَا إِلَى الشَّرْطِ وَالاِتِّفَاقِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الإِْمَامُ أَخْذَهَا مِنَ التُّجَّارِ أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ مَالِكُهَا صَغِيرًا، وَعِلَّةُ أَخْذِ الْعُشُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الاِنْتِفَاعُ بِبِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي أَمْوَال الصَّغِيرِ (29) . ب - الْعَقْل:
16 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَقْل لِوُجُوبِ الْعُشْرِ، فَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنَ الْمَجْنُونِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ (30) .
وَمُقْتَضَى إِطْلاَقِ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ مَال الْمَجْنُونِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ إِذَا انْتَقَل بِهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَال وَلَيْسَ بِالشَّخْصِ (31) .
ج - الذُّكُورَةُ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلاَقِ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِحَاجَةِ أَمْوَال الْمَرْأَةِ إِلَى الْحِمَايَةِ؛ وَلأَِنَّ الأَْحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
وَاشْتَرَطَ أَبُو يَعْلَى لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي أَمْوَال غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الذُّكُورَةَ، فَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنَ الْمَرْأَةِ - ذِمِّيَّةً كَانَتْ أَوْ حَرْبِيَّةً -؛ لأَِنَّهَا مَحْقُونَةُ الدَّمِ، وَلَهَا الْمُقَامُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَلَمْ تُعَشَّرْ تِجَارَتُهَا كَالْمُسْلِمِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَتُهَا بِالْحِجَازِ فَتُعَشَّرُ كَالرَّجُل؛ لأَِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ الإِْقَامَةِ بِالْحِجَازِ (32) .
الأَْمْوَال الَّتِي تَخْضَعُ لِلْعُشْرِ:
18 - لاَ يَجِبُ الْعُشْرُ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ: كَالأَْقْمِشَةِ وَالزَّيْتِ وَالْحُبُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَّا الأَْمْتِعَةُ الشَّخْصِيَّةُ وَمَا لَيْسَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ فَلاَ عُشْرَ فِيهِ، رَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: كُنْتُ أُعَشِّرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁، وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عُشُورَ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا اتَّجَرُوا فِيهِ (33) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ:
19 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ عِدَّةَ شُرُوطٍ وَهِيَ:
أ - الاِنْتِقَال بِهَا:
20 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ لاَ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي أَمْوَالِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلاَّ إِذَا انْتَقَل بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ (34) . ب - أَنْ يَكُونَ الْمَال مِمَّا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلاً:
21 - اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي أَمْوَال التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلاً كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالأَْقْمِشَةِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلاً فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ: كَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْفَاكِهَةِ وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بَالِغَةً لِلنِّصَابِ؛ لأَِنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَيَّ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُل مَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ أَوْ لاَ يَبْقَى: كَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْمْوَال مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحِمَايَةِ كَغَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَال التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لاَ عَيْنُهُ (35)
ج - النِّصَابُ:
22 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي تُعَشَّرُ النِّصَابَ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ بِالشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ لَهُ نِصَابٌ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِي مِقْدَارِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِنْ فِضَّةٍ؛ لأَِنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَيُؤْخَذُ عَلَى شَرَائِطِ الزَّكَاةِ وَمِنْهَا النِّصَابُ، وَمِقْدَارُ نِصَابِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ؛ فَلأَِنَّ مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ قَلِيلٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِيَصِل إِلَى مَأْمَنِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ ﵁: " خُذْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، وَخُذْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبُعَ الْعُشْرِ مِنْ كُل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ (36) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَ التَّاجِرُ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ الْمَأْخُوذَ مَالٌ يَبْلُغُ وَاجِبُهُ نِصْفَ دِينَارٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (37) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّاجِرِ الذِّمِّيِّ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ (38) .
وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّاجِرِ الذِّمِّيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ مَالٌ يَبْلُغُ نِصْفَ دِينَارٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (39) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّصَابِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الذِّمِّيُّ أَوِ الْحَرْبِيُّ، فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيل الأَْمْوَال وَكَثِيرِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَال: سُنَّةُ عُمَرَ ﵁ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ كُل عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَمِمَّنْ لاَ ذِمَّةَ لَهُ كُل عَشَرَةِ دَرَاهِمَ دِرْهَمٌ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْعُشْرَ حَقٌّ عَلَى الذِّمِّيِّ أَوِ الْحَرْبِيِّ، فَوَجَبَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَنَصِيبِ الْمَالِكِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي عَامَلَهُ عَلَيْهَا، وَبِأَنَّ الْعُشْرَ الَّذِي يُؤْخَذُ فَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ (40) .
د - الْفَرَاغُ مِنَ الدَّيْنِ:
23 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ لأَِخْذِ الْعُشْرِ مِنَ التَّاجِرِ الذِّمِّيِّ أَلاَّ تَكُونَ أَمْوَالُهُ مَشْغُولَةً بِدَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يُعْتَبَرُ لَهُ النِّصَابُ وَالْحَوْل فَيَمْنَعُهُ الدَّيْنُ كَالزَّكَاةِ
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُول قَوْل الذِّمِّيِّ إِذَا ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل دَارِنَا فَيُصَدَّقُ بِالْحَلِفِ كَمَا يُصَدَّقُ الْمُسْلِمُ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا التَّاجِرُ الْحَرْبِيُّ فَلاَ يُشْتَرَطُ لِتَعْشِيرِ أَمْوَالِهِ التِّجَارِيَّةِ هَذَا الشَّرْطُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْمِلْكِ وَمِلْكُ الْحَرْبِيِّ نَاقِصٌ وَلأَِنَّ دَيْنَهُ لاَ مُطَالِبَ لَهُ فِي دَارِنَا (41) .
مِقْدَارُ الْعُشْرِ:
24 - يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعُشْرِ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ الَّذِينَ يَخْضَعُونَ لَهُ، فَهُوَ عَلَى الذِّمِّيِّ يُخَالِفُ مَا عَلَى الْحَرْبِيِّ.
أَوَّلاً: الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الذِّمِّيِّ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي مَال الذِّمِّيِّ هُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ (42) ، لِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁: يُؤْخَذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي مَال الذِّمِّيِّ الْعُشْرُ كَامِلاً، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَجْلِبُهُ مِنْ طَعَامٍ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَال: كُنْتُ غُلاَمًا عَامِلاً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁، فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يَخْضَعُ لِهَذَا التَّخْفِيفِ، فَقِيل: الْحِنْطَةُ وَالزَّيْتُ، وَلَكِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ جَمِيعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَالْحُبُوبِ وَالأَْدْهَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَشْرُوطِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْعُشُورِ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الإِْمَامِ (43) .
ثَانِيًا: الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الْحَرْبِيِّ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْحَرْبِيِّ مِثْل مَا يَأْخُذُهُ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْعُشْرَ أَخَذْنَا مِنْ تُجَّارِهِمُ الْعُشْرَ، وَإِنْ أَخَذُوا نِصْفَ الْعُشْرِ أَخَذْنَا مِنْ تُجَّارِهِمْ مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: خُذْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الإِْسْلاَمِ فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَفِي حَالَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِهِمُ الْعُشْرُ (44) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الذِّمَّةِ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ إِذَا مَرُّوا بِتِجَارَةٍ عَلَى الْعَاشِرِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ وَنِصْفُ الْعُشْرِ إِذَا جَلَبُوا الطَّعَامَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا بِالنِّسْبَةِ لِتُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْعُشْرِ إِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ (45) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْعُشُورِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ التَّاجِرِ الْحَرْبِيِّ مَتْرُوكٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ حَسَبَ مَا تَقْضِي بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَخْذَ الْعُشْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ عَدَمُ أَخْذِ شَيْءٍ إِذَا جَلَبَ الْحَرْبِيُّ بِضَاعَةً يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ (46) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ عَشَّرُوا أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلَتْ إِلَيْهِمْ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ أَخَذَ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَمْ يُنْكَرْ وَعَمِل بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ (47) .
الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ:
27 - تَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ الَّذِينَ يَخْضَعُونَ لَهُ.
أَوَّلاً - الذِّمِّيُّ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الذِّمَّةِ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْجِزْيَةِ فَهِيَ لاَ تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ وَلأَِنَّ الأَْخْذَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِئْصَال الْمَال (48) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الذِّمَّةِ كُلَّمَا اخْتَلَفُوا إِلَى آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مِرَارًا إِذَا كَانَ اخْتِلاَفُهُ مِنْ قِطَاعٍ إِلَى آخَرَ؛ لأَِنَّ عِلَّةَ الأَْخْذِ مِنْهُمُ الاِنْتِفَاعُ وَالْحِمَايَةُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي كُل حَالٍ يَخْتَلِفُونَ بِهِ (49) .
ثَانِيًا: الْحَرْبِيُّ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ بِعَقْدِ أَمَانٍ وَدَفَعَ عُشْرَ تِجَارَتِهِ فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الأَْمَانِ الَّتِي تَقِل عَنْ سَنَةٍ؛ لأَِنَّ بِلاَدَ الإِْسْلاَمِ كَالْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَادَ فِي السَّنَةِ بِمَالٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي عَشَرَهُ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَنْفُقْ تِجَارَتُهُ الَّتِي عَشَرَهَا ثُمَّ رَجَعَ بِهَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى بِهَا، هَل تُعَشَّرُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّمَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ عَادَ بِنَفْسِ الْمَال أَوْ بِمَالٍ آخَرَ سِوَاهُ؛ لأَِنَّ الأَْمَانَ الأَْوَّل قَدِ انْتَهَى بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَقَدْ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْعُشْرِ؛ وَلأَِنَّ الأَْخْذَ مِنْهُمْ بَعْدَ دُخُول دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُفْضِي إِلَى اسْتِئْصَال الْمَال.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ، إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ لاَ يُؤْخَذُ مِنَ التَّاجِرِ الْحَرْبِيِّ سِوَى مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ وَلَوْ تَرَدَّدَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ كَالذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنَ التِّجَارَةِ فَلاَ يُؤْخَذُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ كَالزَّكَاةِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَجِزْيَةِ الرُّءُوسِ (50) .
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ:
30 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ وَقْتَ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الإِْسْلاَمِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ مُرُورِهِ بِعَاشِرِ الإِْقْلِيمِ الْمُنْتَقِل إِلَيْهِ، سَوَاءٌ بَاعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ بِضَاعَةٍ أَوْ لَمْ يَبِعْ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ لَهُ حَقُّ الْوُصُول وَالْحِمَايَةِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ الَّذِي يَنْتَقِل بِبِضَاعَتِهِ مِنْ أُفُقٍ إِلَى آخَرَ عِنْدَ بَيْعِ مَا بِيَدِهِ مِنْ بِضَاعَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَبِعْ شَيْئًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لِحَقِّ الاِنْتِفَاعِ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الإِْسْلاَمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ شَرْطِ الإِْمَامِ، فَإِنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْبِضَاعَةِ، أَوْ عِنْدَ الدُّخُول كَانَ الْوَقْتُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ وَبِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ مُرُورِهِ بِالْعَاشِرِ سَوَاءٌ بَاعَ أَوْ لَمْ يَبِعْ، وَإِنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ كَانَ وَقْتُ الاِسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ يَبِيعُوا الْبِضَاعَةَ فَإِنْ كَسَدَتْ وَلَمْ يَبِيعُوا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُحَصِّل الثَّمَنَ (51) .
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ:
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ مِنَ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الأَْئِمَّةُ وَالْوُلاَةُ؛ لأَِنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ بِالإِْمَامِ وَالْوُلاَةِ، فَصَارَ هَذَا الْمَال آمِنًا بِرِعَايَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ، فَثَبَتَ حَقُّ أَخْذِ الْعُشْرِ لَهُمْ (52) .
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ:
32 - إِذَا كَانَ الإِْمَامُ أَوِ الْوَالِي هُوَ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ فَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِي اسْتِيفَائِهَا، وَمِنَ الطُّرُقِ الْمُتَّبَعَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشُورِ، وَالْقُبَالَةُ (التَّضْمِينُ) .
الطَّرِيقَةُ الأُْولَى: الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشْرِ:
33 - الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشْرِ وِلاَيَةٌ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الإِْمَامِ يَتِمُّ بِمُقْتَضَاهَا اسْتِيفَاءُ الْعُشْرِ وَقَبْضُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى عَامِل الْعُشْرِ الْعَاشِرُ وَهُوَ: مَنْ يُنَصِّبْهُ الإِْمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الْعُشْرَ الشَّامِل لِرُبُعِهِ وَنِصْفِهِ.
وَلِلْعَاشِرِ وَظِيفَتَانِ هُمَا: الْجِبَايَةُ وَالْحِمَايَةُ، فَهُوَ يَجْبِي الْعُشْرَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ عُشْرًا لُغَوِيًّا أَوْ رُبُعَهُ أَوْ نِصْفَهُ، وَهُوَ يَحْمِي التُّجَّارَ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ (53) .
حُكْمُ الْعَمَل عَلَى الْعُشُورِ:
34 - الْعَمَل عَلَى الْعُشْرِ مِنَ الأَْعْمَال الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي عَمِل بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَحَرَّجَ مِنْهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِل أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ﵁ عَلَى هَذَا الْعَمَل، فَقَال لَهُ: أَتَسْتَعْمِلُنِي عَلَى الْمَكْسِ مِنْ عَمَلِكَ؟ فَقَال: أَلاَ تَرْضَى أَنْ أُقَلِّدَكَ مَا قَلَّدَنِيهِ رَسُول اللَّهِ؟ ﷺ.
وَكَانَ أَوَّل عَاشِرٍ فِي الإِْسْلاَمِ زِيَادَ بْنَ حُدَيْرٍ الأَْسَدِيَّ الَّذِي بَعَثَهُ عُمَرُ ﵁ عَلَى عُشُورِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبُعَ الْعُشْرِ وَمِنْ أَهْل الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْمُرُورِ بِأَمْوَال التِّجَارَةِ خَاصَّةً (54) .
شُرُوطُ الْعَاشِرِ:
35 - كَانَتْ مُهِمَّةُ الْعَاشِرِ لاَ تَقْتَصِرُ عَلَى جِبَايَةِ الْعُشْرِ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ، وَأَهْل الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا تَشْتَمِل فَضْلاً عَنْ ذَلِكَ عَلَى جِبَايَةِ الزَّكَاةِ وَحِمَايَةِ التُّجَّارِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يُؤَهِّلُهُ لِلْقِيَامِ بِهَذَا الْعَمَل، وَمِنْ ذَلِكَ: الإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْعُشْرِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى حِمَايَةِ التُّجَّارِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ؛ لأَِنَّ الْجِبَايَةَ بِالْحِمَايَةِ (55) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (عَامِلٌ ف 6) .
مَا يُرَاعِيهِ الْعَاشِرُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ:
36 - عَلَى الْعَاشِرِ أَنْ يُرَاعِيَ عِنْدَ أَخْذِهِ الْعُشْرَ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ: أ - أَنْ لاَ يَتَعَدَّى عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ، فَلاَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَثِل مَا أَمَرَهُ بِهِ الْحَاكِمُ (56) .
ب - أَنْ لاَ يُكَرِّرَ أَخْذَ الْعُشْرِ. فَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ أَنَّهُ مَدَّ حَبْلاً عَلَى الْفُرَاتِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ فَأَخَذَ مِنْهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَبَاعَ سِلْعَتَهُ فَلَمَّا رَجَعَ مَرَّ عَلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، فَقَال: كُلَّمَا مَرَرْتُ عَلَيْكَ تَأْخُذُ مِنِّي؟ قَال: نَعَمْ، فَرَحَل الرَّجُل إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَجَدَهُ بِمَكَّةَ يَخْطُبُ النَّاسَ، قَال فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ مَرَرْتُ عَلَى زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ فَأَخَذَ مِنِّي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ فَبِعْتُ سِلْعَتِي، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنِّي، قَال: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ عَلَيْكَ فِي مَالِكَ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ نَزَل، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِيَّ، وَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَلَّمْتُكَ فِي زِيَادٍ، فَقَال: وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفِيُّ قَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَكَ (57) .
ج - أَنْ يَكْتُبَ الْعَاشِرُ كِتَابًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ، فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِهِ الْخَرَاجُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى رُزَيْقِ بْنِ حَيَّانَ وَكَانَ عَلَى مَكْسِ مِصْرَ - يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُمْ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْحَوْل (58) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَاشِرَ لاَ يَكْتُبُ بَرَاءَةً بِمَا يَأْخُذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الذِّمَّةِ كَمَا يَكْتُبُ إِلَى تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ أَخْذَ الْعُشْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ دُخُول الْحَرْبِيِّ دَارَ الإِْسْلاَمِ وَاخْتِلاَفِ الذِّمِّيِّ بِتِجَارَتِهِ عَلَى الْعَاشِرِ (59) .
د - الرِّفْقُ بِأَهْل الْعُشْرِ:
37 - يَنْبَغِي لِلْعَاشِرِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْل الْعُشْرِ عِنْدَ اسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ، فَلاَ يُؤَخِّرَهُمْ وَلاَ يَظْلِمَهُمْ وَلاَ يُتْلِفَ بَضَائِعَهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَتِهَا أَوْ تَفْتِيشِهَا، وَيَقْبَل مِنْهُمْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ.
فَإِذَا أَرَادَ الْعَاشِرُ اسْتِيفَاءَ الْعُشْرِ مِنَ الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَلاَ يَتَعَيَّنُ الاِسْتِيفَاءُ مِنَ الْعَيْنِ، أَوْ مِنَ الْقِيمَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِ السِّلْعَةِ الْوَارِدَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَتَاعًا أُخِذَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَقْدًا أُخِذَ مِنْهُ، وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخَمْرَ يُؤْخَذُ مِنْ قِيمَتِهَا (60) .
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عُشْرُ مَا يَنْقَسِمُ، قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَنْقَسِمُ فَيُؤْخَذُ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَال مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا يُكَال أَوْ يُوزَنُ؛ لأَِنَّ الأَْسْوَاقَ تُحَوَّل وَتَخْتَلِفُ فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مَالاً تُحِيلُهُ الأَْسْوَاقُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ الْعَيْنُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْمَتَاعِ، بِدَلِيل فِعْل عُمَرَ ﵁ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الإِْمَامُ عَلَى أَهْل الْعُشُورِ الأَْخْذَ مِنَ الثَّمَنِ (61) .
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لاِسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ: الْقَبَالَةُ (التَّضْمِينُ)
38 - الْقَبَالَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَبَل (بِفَتْحِ الْبَاءِ) قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: " كُل مَنْ تَقَبَّل بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً، وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، فَعَمَلُهُ الْقِبَالَةُ (بِالْكَسْرِ) ، وَكِتَابُهُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الْقَبَالَةُ (بِالْفَتْحِ) .
(62) وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً إِلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عَنْ عُشُورِ أَمْوَال التِّجَارَةِ، وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَهِيَ تُسَمَّى بِالتَّضْمِينِ أَوِ الاِلْتِزَامِ.
وَقَدْ يَقَعُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُلْمٌ لأَِهْل الْعُشُورِ أَوْ غَبْنٌ لِبَيْتِ الْمَال، وَلِذَلِكَ مَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمُ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى مَنْعِهَا (63) .
مُسْقِطَاتُ الْعُشْرِ:
39 - يَسْقُطُ الْعُشْرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى أَمْوَال التِّجَارَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
أ - الإِْسْلاَمُ:
40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ الْخَاصَّ بِتِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَسْقُطُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ كُفَّارًا، فَإِذَا دَخَلُوا فِي الإِْسْلاَمِ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ الْمُوجِبُ لِلأَْخْذِ (64) .
ب - إِسْقَاطُ الإِْمَامِ لَهَا:
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطُ الْعُشُورِ عَنْ بَعْضِ التُّجَّارِ الَّذِينَ يَجْلِبُونَ بَضَائِعَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ: كَالطَّعَامِ وَالزَّيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ نَأْخُذُ مِنَ الْحَرْبِيِّ شَيْئًا إِذَا كَانَ مِنْ قَوْمٍ لاَ يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا شَيْئًا، عَمَلاً بِمَبْدَأِ الْمُجَازَاةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ بِالْمِثْل.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطَ الْعُشْرِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ (65) .
ج - انْقِطَاعُ حَقِّ الْوِلاَيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ:
42 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى: أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ وَمَرَّ بِالْعَاشِرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَعَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَعَلِمَ بِهِ لَمْ يُعَشِّرْهُ لِمَا مَضَى؛ لاِنْقِطَاعِ حَقِّ الْوِلاَيَةِ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلاَفِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّ الْعُشْرَ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِعَدَمِ عِلْمِ الْعَاشِرِ بِهِ عِنْدَ الْمُرُورِ (66)
مَصَارِفُ الْعُشْرِ:
43 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى: أَنَّ الْعُشْرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الذِّمَّةِ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ (67) .
وَتَفْصِيل مَصَارِفِ الْفَيْءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فَيْء) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، مادة: (عشر) .
(2) معالم السنن للخطابي 3 / 39، وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح القدير 2 / 171، وحاشية ابن عابدين 2 / 308، 309.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 518.
(4) المصباح المنير، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 481، والدسوقي 1 / 431.
(5) جواهر الإكليل 1 / 266، ومنح الجليل لعليش 1 / 756.
(6) الأحكام السلطانية للماوردي ص146، والأحكام السلطانية للفراء ص 162.
(7) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للأصفهاني مادة خمس، وحاشية الدسوقي 2 / 190.
(8) لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: فاء.
(9) التعريفات للجرجاني 148.
(10) الهداية 1 / 107، والفواكه الدواني 1 / 393 - 394، ومغني المحتاج 4 / 247، وأحكام أهل الذمة 1 / 167، المغني 8 / 522، وكشاف القناع 3 / 138.
(11) حديث: " إنما العشور على اليهود والنصارى. . . ". أخرجه أبو داود 3 / 434، ونقل ابن القيم عن عبد الحق الأشبيلي أنه قال: في إسناده اختلاف، ولا أعلمه من طريق يحتج به. كذا في (تهذيب السنن 4 / 253 - بهامش مختصر المنذري) .
(12) نيل الأوطار 8 / 71.
(13) المبسوط 2 / 199، وتبيين الحقائق 1 / 282، والمنتقى 2 / 178، والمغني 8 / 522.
(14) البدائع 2 / 38.
(15) البدائع 2 / 68.
(16) حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 499، وانظر المقدمة لابن خلدون ص346.
(17) المبسوط للسرخسي 2 / 199، وحاشية الشلبي 1 / 285.
(18) أحكام أهل الذمة 2 / 476.
(19) الدر المختار مع ابن عابدين 2 / 41، 42.
(20) الفواكه الدواني 1 / 394.
(21) الأم 4 / 205.
(22) كشاف القناع 3 / 138.
(23) ابن عابدين 2 / 40، والبدائع 2 / 37.
(24) بلغة المسالك لأقرب المسالك 1 / 371.
(25) روضة الطالبين 10 / 320، ومغني المحتاج 4 / 247.
(26) المغني 8 / 517.
(27) حديث: " إنما العشور على. . . ". تقدم تخريجه ف 8.
(28) الهداية 1 / 107، وأحكام أهل الذمة 1 / 167، والمغني 8 / 522، والإِنصاف 4 / 245، وكشاف القناع 3 / 138.
(29) بلغة السالك 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247.
(30) البدائع 2 / 38.
(31) بلغة السالك 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247، وأحكام أهل الذمة 1 / 167.
(32) البدائع 2 / 38، والهداية 1 / 107، والفواكه الدواني 1 / 394، روضة الطالبين 10 / 320، وأحكام أهل الذمة 1 / 167، والإنصاف 4 / 245، وكشاف القناع 3 / 138.
(33) الخراج ليحيى بن آدم ص 68.
(34) الخراج لأبي يوسف ص133، ومنح الجليل لعليش 1 / 760، والأم 4 / 281، والمغني 1 / 520.
(35) البدائع 2 / 38.
(36) بدائع الصنائع 2 / 38، وأحكام أهل الذمة 1 / 163، 170.
(37) الإنصاف 4 / 246.
(38) المغني 8 / 519.
(39) الإنصاف 4 / 246.
(40) بداية المجتهد 1 / 406، والمغني 8 / 519 - 520.
(41) الاختيار 1 / 116، والمغني 8 / 521.
(42) حاشية ابن عابدين 2 / 314، وكشاف القناع 3 / 137.
(43) الموطأ شرح الزرقاني 2 / 143، وبلغة السالك 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247.
(44) حاشية ابن عابدين 2 / 314.
(45) بلغة السالك 1 / 371.
(46) المدونة 1 / 241، وروضة الطالبين للنووي 10 / 319، ومغني المحتاج 4 / 247.
(47) كشاف القناع 3 / 138.
(48) البدائع 2 / 37، ومغني المحتاج 4 / 247، وكشاف القناع 3 / 138.
(49) منح الجليل لعليش 1 / 760، والمنتقى 2 / 178.
(50) البدائع 2 / 37، وتبيين الحقائق 1 / 285، وبلغة السالك 1 / 371، وروضة الطالبين 10 / 320، وكشاف القناع 3 / 138.
(51) الاختيار 1 / 116، والشرح الصغير للدردير 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247، وأحكام أهل الذمة 1 / 159.
(52) الجامع لأحكام القرآن 18 / 14، وشرح السير الكبير 5 / 2134، والأحكام السلطانية للماوردي ص 16.
(53) المراجع السابقة.
(54) الخراج 135.
(55) حاشية ابن عابدين 2 / 309.
(56) الرتاج على كتاب الخراج 2 / 161، 171 ط ديوان الأوقاف - بغداد 1975.
(57) الرتاج 2 / 180.
(58) الرتاج 2 / 182 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 247.
(59) المدونة 1 / 341.
(60) الخراج لأبي يوسف 132، والاختيار 1 / 116، وكشاف القناع 3 / 137 - 138.
(61) المنتقى للباجي 2 / 177، ومغني المحتاج 4 / 247.
(62) أساس البلاغة ص490، والنهاية لابن الأثير 4 / 10.
(63) حاشية ابن عابدين 2 / 311.
(64) الفواكة الدواني 1 / 395، والأحكام السلطانية للماوردي ص208، وكشاف القناع 3 / 139.
(65) ابن عابدين 5 / 39، ومنح الجليل 1 / 760، ومغني المحتاج 4 / 247، المغني 8 / 522.
(66) البدائع 2 / 37.
(67) الأحكام السلطانية للماوردي 126.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 101/ 30
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".