السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
ما يخلفه الميت من الحقوق، والأموال الثابتة مطلقاً . ومن شواهده قوله تعالى : ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤﱪ النساء :٧ .
التَّرِكَةُ: ما يَتْرُكُهُ الشَّخْصُ ويَدَعُهُ ويُبْقِيهِ بَعْدَهُ، يُقالُ: تَرَكْتُ الشَّيْءَ، أَتْرُكُهُ، تَرْكاً، أيْ: خَلَّيتُهُ وخلَّفْتُهُ وَرائِي. والتَّرِكَةُ: الشَّيْءُ المَتْروكُ، مَأْخُوذَةٌ من التَّرْكِ، وهو: المُفارَقَةُ، يُقالُ: تَرَكْتُ الـمَنْزِلَ، تَرْكاً، أيْ: رَحَلْتُ عنه وفارَقْتُهُ. ويأتي بِمعنى الإِبْقاءِ والرَّفْضِ، والجَمْعُ: تَرِكاتٌ.
يَرِد مُصْطلَح (تَرِكَة) في الفقه في كتاب الـمَوارِيثِ، باب: شُروط الإِرْثِ، وباب: الإِرْث بِالتَّقْديرِ.
ترك
كُلُّ مالٍ أو حَقِّ يُـخَلِّفُهُ الشَّخْصُ بعد مَوْتِهِ.
التَّركَةُ: هي كُلُّ ما يَتْرُكُهُ الـمَيِّتُ من الأَمْوالِ والحُقوقِ، فَيَدْخُلُ في ذلك ما كان له مِنْ مالٍ أثْناءَ حَياتِهِ، وما خَلَّفَهُ بعد مَـماتِهِ مِنْ مالٍ، أو حَقٍّ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وخِيارِ الشَّرْطِ والرُّؤْيَةِ في البَيْعِ، كما يَدْخُلُ في ذلك الـمَنافِعُ أيضاً، فتكون لِلْوَرَثَةِ مِن بعدِهِ، إلا إذا كانت الـمَنْفَعَةُ مُؤَقَّتَةً بِـمُدَّةِ حَياتِهِ، كَالوَصِيَّةِ.
التَّرِكَةُ: ما يَتْرُكُهُ الشَّخْصُ ويَدَعُهُ ويُبْقِيهِ بَعْدَهُ.
ما يخلفه الميت من الحقوق، والأموال الثابتة مطلقاً.
* المحكم والمحيط الأعظم : (6/766)
* المفردات في غريب القرآن : (ص 74)
* مختار الصحاح : (ص 83)
* التوقيف على مهمات التعاريف : (ص 172)
* مغني الـمحتاج فـي شرح الـمنهاج : (3/3)
* كشاف القناع عن متن الإقناع : (4/402)
* القاموس الفقهي : (ص 49)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (11/206)
* حاشية ابن عابدين : (5/500)
* لسان العرب : (10/405) -
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّرِكَةُ لُغَةً: اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ تَرَكَ الشَّيْءَ يَتْرُكُهُ تَرْكًا. يُقَال: تَرَكْتُ الشَّيْءَ تَرْكًا: خَلَّفْتُهُ، وَتَرِكَةُ الْمَيِّتِ: مَا يَتْرُكُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْجَمْعُ تَرِكَاتٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ: هِيَ كُل مَا يُخَلِّفُهُ الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال وَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ: هِيَ مَا يَتْرُكُهُ الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنِهِ.
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ خِلاَل التَّعْرِيفَيْنِ أَنَّ التَّرِكَةَ تَشْمَل الْحُقُوقَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهَا الْمَنَافِعُ. فِي حِينِ أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تَدْخُل فِي التَّرِكَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَحْصُرُونَ التَّرِكَةَ فِي الْمَال أَوِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ صِلَةٌ بِالْمَال فَقَطْ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي (2) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْرْثُ:
2 - الإِْرْثُ لُغَةً: الأَْصْل وَالأَْمْرُ الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الآْخَرُ عَنِ الأَْوَّل. وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُل شَيْءٍ (3) .
وَيُطْلَقُ الإِْرْثُ وَيُرَادُ بِهِ: الْمَوْرُوثُ، وَيُسَاوِيهِ عَلَى هَذَا الإِْطْلاَقُ فِي الْمَعْنَى: التَّرِكَةُ
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا (4) .
مَا تَشْمَلُهُ التَّرِكَةُ وَمَا يُورَثُ مِنْهَا:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ تَشْمَل جَمِيعَ مَا تَرَكَهُ الْمُتَوَفَّى مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ: مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ (5) . فَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمَال وَالْحَقِّ وَجَعَلَهُمَا تَرِكَةً لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا حُكْمُهُ مِنْ نَاحِيَةِ إِرْثِهِ، أَوْ عَدَمِ إِرْثِهِ وَذَلِكَ تَبَعًا لِطَبِيعَتِهِ وَهِيَ:
أ - حُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ:
وَهِيَ حُقُوقٌ شَخْصِيَّةٌ لاَ تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ صَاحِبِهَا بِحَالٍ مَا، فَهِيَ لاَ تُورَثُ عَنْهُ مُطْلَقًا، كَحَقِّ الأُْمِّ فِي الْحَضَانَةِ، وَحَقِّ الأَْبِ فِي الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَال، وَحَقِّ الْوَصِيِّ فِي الإِْشْرَافِ عَلَى مَال مَنْ تَحْتَ وِصَايَتِهِ.
ب - حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ، وَلَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِشَخْصِ الْمُوَرِّثِ نَفْسِهِ
، وَهَذِهِ لاَ تُورَثُ عَنْهُ أَيْضًا، كَرُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ، وَحَقِّ الاِنْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ يَمْلِكُهُ الْغَيْرُ، كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ أَرْضٍ يَزْرَعُهَا، أَوْ سَيَّارَةٍ يَرْكَبُهَا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لاَ يُورَثُ عَنْ صَاحِبِهِ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الأَْجَل فِي الدَّيْنِ، فَالدَّائِنُ يَمْنَحُ هَذَا الأَْجَل لِلْمَدِينِ لاِعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ يُقَدِّرُهَا الدَّائِنُ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي لاَ تُورَثُ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ يَحِل الدَّيْنُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَلاَ يَرِثُ الْوَرَثَةُ حَقَّ الأَْجَل.
ج - حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ الْمُوَرِّثِ وَإِرَادَتِهِ
، وَهِيَ تُورَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُورَثُ.
وَأَهَمُّ هَذِهِ الْحُقُوقِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَحَقُّ الْخِيَارَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارِ التَّعْيِينِ.وَلِلتَّفْصِيل تُنْظَرُ أَحْكَامُ (الْخِيَارِ، وَالشُّفْعَةِ)
د - حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَال الْمُوَرِّثِ، لاَ بِشَخْصِهِ وَلاَ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ،
وَهَذِهِ حُقُوقٌ تُورَثُ عَنْهُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ كَحَقِّ الرَّهْنِ، وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ الْمَعْرُوفَةِ، كَحَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ الشُّرْبِ وَحَقِّ الْمَجْرَى وَحَقِّ التَّعَلِّي.
4 - فَيَدْخُل فِي التَّرِكَةِ مَا كَانَ لِلإِْنْسَانِ حَال حَيَاتِهِ، وَخَلَّفَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، مِنْ مَالٍ أَوْ حُقُوقٍ أَوِ اخْتِصَاصٍ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْقِصَاصِ وَالْوَلاَءِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَكَذَا مَنْ أَوْصَى لَهُ بِمَنْفَعَةِ شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ كَدَارٍ مَثَلاً، كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لَهُ حَال حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةِ حَيَاتِهِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مِنَ التَّرِكَةِ أَيْضًا مَا دَخَل فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، كَصَيْدٍ وَقَعَ فِي شَبَكَةٍ نَصَبَهَا فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّ نَصْبَهُ لِلشَّبَكَةِ لِلاِصْطِيَادِ هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ،
وَكَمَا لَوْ مَاتَ عَنْ خَمْرٍ فَتَخَلَّلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ (6) .
قَال الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَال: مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَرَثَتِهِ (7) وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، بَل مِنَ الْحُقُوقِ مَا يُنْقَل إِلَى الْوَارِثِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَنْتَقِل. فَمِنْ حَقِّ الإِْنْسَانِ أَنْ يُلاَعِنَ عِنْدَ سَبَبِ اللِّعَانِ، وَأَنْ يَفِيءَ بَعْدَ الإِْيلاَءِ، وَأَنْ يَعُودَ بَعْدَ الظِّهَارِ، وَأَنْ يَخْتَارَ مِنْ نِسْوَةٍ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ وَهُنَّ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَأَنْ يَخْتَارَ إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا جَعَل الْمُتَبَايِعَانِ الْخِيَارَ لأَِجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَمْلِكَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ عَلَيْهِمَا أَوْ فَسْخَهُ، وَمِنْ حَقِّهِ مَا فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ وَالْمَنَاصِبِ كَالْقِصَاصِ وَالإِْمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَالأَْمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ. فَجَمِيعُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لاَ يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوَرِّثِ. وَالضَّابِطُ: أَنَّهُ يَنْتَقِل إِلَيْهِ كُل مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَال، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا عَنِ الْوَارِثِ فِي عِرْضِهِ بِتَخْفِيفِ أَلَمِهِ. أَمَّا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْمُوَرِّثِ وَعَقْلِهِ وَشَهَوَاتِهِ فَلاَ يَنْتَقِل لِلْوَارِثِ.
وَالسِّرُّ فِي الْفَرْقِ: أَنَّ الْوَرَثَةَ يَرِثُونَ الْمَال، فَيَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَبَعًا لَهُ، وَلاَ يَرِثُونَ عَقْلَهُ وَلاَ شَهْوَتَهُ وَلاَ نَفْسَهُ، فَلاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَمَا لاَ يُورَثُ لاَ يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَاللِّعَانُ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ غَالِبًا، وَالاِعْتِقَادَاتُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْمَال، وَالْفَيْئَةُ شَهْوَتُهُ، وَالْعَوْدُ إِرَادَتُهُ، وَاخْتِيَارُ الأُْخْتَيْنِ وَالنِّسْوَةِ إِرَبُهُ وَمَيْلُهُ، وَقَضَاؤُهُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ عَقْلُهُ وَفِكْرَتُهُ، وَرَأْيُهُ وَمَنَاصِبُهُ وَوِلاَيَاتُهُ وَآرَاؤُهُ وَاجْتِهَادَاتُهُ، وَأَفْعَالُهُ الدِّينِيَّةُ فَهُوَ دِينُهُ، وَلاَ يَنْتَقِل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِثْ مُسْتَنَدَهُ وَأَصْلَهُ، وَانْتَقَل لِلْوَارِثِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ ﵀ تَعَالَى.
ثُمَّ قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُقُوقِ الأَْمْوَال - فِيمَا يُورَثُ - إِلاَّ صُورَتَانِ فِيمَا عَلِمْتُ: حَدُّ الْقَذْفِ وَقِصَاصُ الأَْطْرَافِ وَالْجُرْحِ وَالْمَنَافِعِ فِي الأَْعْضَاءِ. فَإِنَّ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ تَنْتَقِلاَنِ لِلْوَارِثِ، وَهُمَا لَيْسَتَا بِمَالٍ، لأَِجْل شِفَاءِ غَلِيل الْوَارِثِ بِمَا دَخَل عَلَى عِرْضِهِ مِنْ قَذْفِ مُوَرِّثِهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قِصَاصُ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لاَ يُورَثُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَبْل مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ فَرْعُ زَهُوقِ النَّفْسِ، فَلاَ يَقَعُ إِلاَّ لِلْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ (8) .
5 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْمُوَرِّثِ، وَيَجِبُ لَهُ بِمَوْتِهِ، كَالدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَلِلْوَرَثَةِ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَمَا كَانَ وَاجِبًا لِلْمُوَرِّثِ فِي حَيَاتِهِ إِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ، أَوْ هُوَ فِي يَدِهِ ثَبَتَ لِلْوَرَثَةِ إِرْثُهُ، وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذْهَبِ (9) .
6 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ هِيَ الْمَال فَقَطْ، وَيَدْخُل فِيهَا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْل الْخَطَأِ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنْ عَمْدٍ، أَوْ بِانْقِلاَبِ الْقِصَاصِ بِعَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ، فَتُعْتَبَرُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، حَتَّى تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتُخْرَجَ وَصَايَاهُ، وَيَرِثُ الْبَاقِيَ وَرَثَتُهُ.
وَلاَ تَدْخُل الْحُقُوقُ فِي التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً بِالْحَدِيثِ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ لاَ يَكُونُ دَلِيلاً. وَلأَِنَّ الْحُقُوقَ لَيْسَتْ أَمْوَالاً، وَلاَ يُورَثُ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَال أَوْ فِي مَعْنَى الْمَال، مِثْل حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ وَالتَّعَلِّي وَحَقِّ الْبَقَاءِ فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ فَلاَ يُعْتَبَرُ تَرِكَةً، كَحَقِّ الْخِيَارِ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمُوَرِّثُ وَكَانَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْخِيَارِ - كَمَا سَبَقَ - وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِمَا أُوصِيَ لَهُ بِهِ، وَمَاتَ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي حَدَّدَهَا الْمُوصِي (10) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا) أَنَّ الأَْصْل هُوَ أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ وَالأَْمْوَال، إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى مُفَارَقَةِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِلْمَال.
وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الأَْصْل هُوَ أَنْ يُورَثَ الْمَال دُونَ الْحُقُوقِ، إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلُهُ مِنْ إِلْحَاقِ الْحُقُوقِ بِالأَْمْوَال.
فَمَوْضِعُ الْخِلاَفِ: هَل الأَْصْل أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ كَالأَْمْوَال أَوْ لاَ؟
وَكُل وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُشْبِهُ مِنْ هَذَا مَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ خَصْمُهُ مِنْهَا بِمَا يُسَلِّمُهُ مِنْهَا لَهُ، وَيَحْتَجَّ عَلَى خَصْمِهِ (11) .
الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالتَّرِكَةِ أَرْبَعَةٌ:
وَهِيَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ لِلدَّفْنِ، وَقَضَاءُ دُيُونِهِ إِنْ مَاتَ مَدِينًا، وَتَنْفِيذُ مَا يَكُونُ أَوْصَى بِهِ قَبْل مَوْتِهِ مِنْ وَصَايَا، ثُمَّ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ، وَصَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا خَمْسَةٌ بِالاِسْتِقْرَاءِ. قَال الدَّرْدِيرُ: وَغَايَتُهَا - أَيِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ - خَمْسَةٌ: حَقٌّ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْمَيِّتِ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْغَيْرِ، وَحَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْوَارِثِ.
وَالْحَصْرُ فِي هَذِهِ اسْتِقْرَائِيٌّ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ تَتَبَّعُوا ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ، لاَ عَقْلِيٌّ كَمَا قِيل.
وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: وَالْحُقُوقُ هَاهُنَا خَمْسَةٌ بِالاِسْتِقْرَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ إِمَّا لِلْمَيِّتِ، أَوْ عَلَيْهِ، أَوْ لاَ.
الأَْوَّل: التَّجْهِيزُ، وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ وَهُوَ الدَّيْنُ الْمُطْلَقُ أَوْ لاَ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ: إِمَّا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ، أَوِ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ الْمِيرَاثُ (12) .
أَحْكَامُ التَّرِكَةِ:
لِلتَّرِكَةِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
مِلْكِيَّةُ التَّرِكَةِ:
تَنْتَقِل مِلْكِيَّةُ التَّرِكَةِ جَبْرًا إِلَى الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا الاِنْتِقَال شُرُوطٌ (13) :
الشَّرْطُ الأَْوَّل - مَوْتُ الْمُوَرِّثِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ انْتِقَال التَّرِكَةِ مِنَ الْمُوَرِّثِ إِلَى الْوَارِثِ يَكُونُ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا أَوْ تَقْدِيرًا.
فَالْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ: هُوَ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ إِمَّا بِالْمُعَايَنَةِ، كَمَا إِذَا شُوهِدَ مَيِّتًا، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ السَّمَاعِ. وَالْمَوْتُ الْحُكْمِيُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْقَاضِي إِمَّا مَعَ احْتِمَال الْحَيَاةِ أَوْ تَيَقُّنِهَا.
مِثَال الأَْوَّل: الْحُكْمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ.
وَمِثَال الثَّانِي: حُكْمُ الْقَاضِي عَلَى الْمُرْتَدِّ بِاعْتِبَارِهِ فِي حُكْمِ الأَْمْوَاتِ إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَتُقَسَّمُ التَّرِكَةُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ.
وَالْمَوْتُ التَّقْدِيرِيُّ: هُوَ إِلْحَاقُ الشَّخْصِ بِالْمَوْتَى تَقْدِيرًا، كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَل عَنْ أُمِّهِ بِجِنَايَةٍ، بِأَنْ يَضْرِبَ شَخْصٌ امْرَأَةً حَامِلاً، فَتُلْقِي جَنِينًا مَيِّتًا، فَتَجِبُ الْغُرَّةُ، وَتُقَدَّرُ بِنِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرْثِ هَذَا الْجَنِينِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ حَيَاتُهُ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّمَلُّكِ بِالإِْرْثِ، وَلاَ يُورَثُ عَنْهُ إِلاَّ الدِّيَةُ فَقَطْ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ؛ لأَِنَّهُ يَقْدِرُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْجِنَايَةِ، وَأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبِهَا (14) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (إِرْثٌ، جَنِينٌ، جِنَايَةٌ، مَوْتٌ) .
الشَّرْطُ الثَّانِي - حَيَاةُ الْوَارِثِ:
9 - تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، أَوْ إِلْحَاقِهِ بِالأَْحْيَاءِ تَقْدِيرًا، فَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْمُسْتَقِرَّةُ الثَّابِتَةُ لِلإِْنْسَانِ الْمُشَاهَدَةُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ.
وَالْحَيَاةُ التَّقْدِيرِيَّةُ هِيَ الثَّابِتَةُ تَقْدِيرًا لِلْجَنِينِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، فَإِذَا انْفَصَل حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ - وَلَوْ نُطْفَةً - فَيُقَدَّرُ وُجُودُهُ حَيًّا حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ بِوِلاَدَتِهِ حَيًّا (15) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٍ) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ - الْعِلْمُ بِجِهَةِ الْمِيرَاثِ:
10 - يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلإِْرْثِ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلاَءٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْحْكَامَ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تُعَيَّنَ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، مَعَ الْعِلْمِ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ الْوَارِثُ فِيهَا مَعَ الْمُوَرِّثِ (16) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٍ) .
أَسْبَابُ انْتِقَال التَّرِكَةِ:
11 - أَسْبَابُ انْتِقَال التَّرِكَةِ أَرْبَعَةٌ، اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْهَا وَهِيَ: النِّكَاحُ وَالْوَلاَءُ وَالْقَرَابَةُ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ جِهَةَ الإِْسْلاَمِ وَهِيَ: بَيْتُ الْمَال، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَكُل سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ يُفِيدُ الإِْرْثَ عَلَى الاِسْتِقْلاَل (17) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ) .
مَوَانِعُ انْتِقَال التَّرِكَةِ بِالإِْرْثِ:
12 - مَوَانِعُ انْتِقَال التَّرِكَةِ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ ثَلاَثَةٌ: الرِّقُّ، وَالْقَتْل، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلاَثَةٍ: وَهِيَ الرِّدَّةُ، وَاخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ، وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ (18) .
وَهُنَاكَ مَوَانِعُ أُخْرَى لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ) .
انْتِقَال التَّرِكَةِ:
13 - لاَ يُشْتَرَطُ لاِنْتِقَال التَّرِكَةِ إِلَى الْوَارِثِ قَبُول الْوِرَاثَةِ، وَلاَ إِلَى أَنْ يَتَرَوَّى قَبْل أَنْ يَقْبَلَهَا، بَل إِنَّهَا تَئُول إِلَيْهِ جَبْرًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ مِنْهُ.
وَقَدْ تَكُونُ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنَ الدُّيُونِ، وَقَدْ تَكُونُ مَدِينَةً. وَالدَّيْنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ لاَ،
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّرِكَةَ تَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ، إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا دَيْنٌ مِنْ حِينِ وَفَاةِ الْمَيِّتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي انْتِقَال التَّرِكَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الدَّيْنُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ أَمْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا.
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى أَنْ يُسَدِّدَ الدَّيْنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لَهَا أَمْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (19)
ج - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَغْرَقَةٍ بِهِ.
فَإِنِ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَبْقَى أَمْوَال التَّرِكَةِ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، وَلاَ تَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ،
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، فَالرَّأْيُ الرَّاجِحُ أَنَّ أَمْوَال التَّرِكَةِ تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَذِهِ الأَْمْوَال عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي. قَال السَّرَخْسِيُّ: الدَّيْنُ إِذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا فَكَذَلِكَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأَْوَّل.
وَفِي قَوْلِهِ الآْخِرِ: لاَ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ بِحَالٍ، لأَِنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي الْمَال، وَالْمَال كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَيِّتِ فِي حَال حَيَاتِهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالدَّيْنِ كَالْمَرْهُونِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ، قَال: وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
فَقَدْ جَعَل اللَّهُ تَعَالَى أَوَانَ الْمِيرَاثِ مَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْحُكْمُ لاَ يَسْبِقُ أَوَانَهُ فَيَكُونُ حَال الدَّيْنِ كَحَال حَيَاةِ الْمُوَرِّثِ فِي الْمَعْنَى. ثُمَّ الْوَارِثُ يَخْلُفُهُ فِيمَا يَفْضُل مِنْ حَاجَتِهِ، فَأَمَّا الْمَشْغُول بِحَاجَتِهِ فَلاَ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِتَرِكَتِهِ فَالْمَال مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ، وَقِيَامُ الأَْصْل يَمْنَعُ ظُهُورَ حُكْمِ الْخَلَفِ.
وَلاَ نَقُول: يَبْقَى مَمْلُوكًا بِغَيْرِ مَالِكٍ، وَلَكِنْ تَبْقَى مَالِكِيَّةُ الْمَدْيُونِ فِي مَالِهِ حُكْمًا لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ.
وَخِلاَفَةُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ نَاقِصَةٌ فِي حَال تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ، وَهِيَ صُورِيَّةٌ إِذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لاَ يَعْنِي أَنَّهُ لاَ قِيمَةَ لِهَذِهِ الْخِلاَفَةِ، بَل لَهَا شَأْنُهَا، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ.
قَال ابْنُ قَاضِي سَمَاوَةَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لِلْوَرَثَةِأَخْذُ التَّرِكَةِ لأَِنْفُسِهِمْ وَدَفْعُ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ مِنْ مَالِهِمْ.
وَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِدَيْنٍ أَوْ غَيْرَ مُسْتَغْرَقَةٍ، فَأَدَّاهُ الْوَرَثَةُ لاِسْتِخْلاَصِ التَّرِكَةِ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى قَبُولِهِ؛ إِذْ لَهُمُ الاِسْتِخْلاَصُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوهَا، بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ.
وَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ فَالْخَصْمُ فِي إِثْبَاتِ الدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ وَارِثُهُ؛ لأَِنَّهُ خَلَفُهُ، فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي يَتَقَدَّمُ بِهَا الدَّائِنُ عَلَيْهِ. (20)
أَثَرُ الْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي انْتِقَال التَّرِكَةِ:
14 - أ - نَمَاءُ التَّرِكَةِ أَوْ نِتَاجُهَا إِذَا حَصَل بَيْنَ الْوَفَاةِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ، هَل تُضَمُّ إِلَى التَّرِكَةِ لِمَصْلَحَةِ الدَّائِنِينَ أَمْ هِيَ لِلْوَرَثَةِ؟
وَذَلِكَ كَأُجْرَةِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، أَوْ أَرْضٍ زِرَاعِيَّةٍ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَدَابَّةٍ وَلَدَتْ أَوْ سَمِنَتْ فَزَادَتْ قِيمَتُهَا، وَكَشَجَرٍ صَارَ لَهُ ثَمَرٌ. كُل ذَلِكَ نَمَاءٌ أَوْ زِيَادَةٌ فِي التَّرِكَةِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّرِكَةَ قَبْل وَفَاءِ الدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا هَل تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ أَمْ لاَ؟ فَمَنْ قَال: تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ قَال: إِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْوَارِثِ وَلَيْسَتْ لِلدَّائِنِ، وَمَنْ قَال بِعَدَمِ انْتِقَالِهَا ضُمَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى التَّرِكَةِ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ انْتَقَل إِلَى الْوَرَثَةِ.
ب - صَيْدٌ وَقَعَ فِي شَبَكَةٍ أَعَدَّهَا الْمُوَرِّثُ حَال حَيَاتِهِ، وَوُقُوعُ الصَّيْدِ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَعَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَيْنٌ، وَصَيْدٌ، وَإِرْثٌ) .
وَقْتُ انْتِقَال التَّرِكَةِ:
يَخْتَلِفُ وَقْتُ وِرَاثَةِ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ بِنَاءً عَلَى مَا يَسْبِقُ الْوَفَاةَ.
وَهُنَا يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالاَتٍ ثَلاَثٍ:
أ - الْحَالَةُ الأُْولَى:
15 - مَنْ مَاتَ دُونَ سَابِقِ مَرَضٍ ظَاهِرٍ، وَذَلِكَ كَأَنْ مَاتَ فَجْأَةً بِالسَّكْتَةِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ فِي حَادِثٍ مَثَلاً.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ وَقْتَ خِلاَفَةِ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ هُوَ نَفْسُ وَقْتِ الْمَوْتِ، وَبِلاَ خِلاَفٍ يُعْتَدُّ بِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
قَال الْفَنَارِيُّ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَخْلُفُ الْوَارِثُ مُوَرِّثَهُ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَعَلَيْهِ مَشَايِخُ بَلْخٍ؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا مَالِكٌ لِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ، فَلَوْ مَلَكَهَا الْوَارِثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَدَّى إِلَى أَنْ يَصِيرَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَمْلُوكًا لِشَخْصَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍمِلْكُ الْوَارِثِ يَتَعَقَّبُ الْمَوْتَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَتَعَقَّبُ، بَل يَتَحَقَّقُ إِذَا اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْ مَالِهِ بِتَجْهِيزِهِ وَأَدَاءِ دَيْنِهِ؛ لأَِنَّ كُل جُزْءٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ بِتَقْدِيرِ هَلاَكِ الْبَاقِي.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ قَبْل مَوْتِهِ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ، وَعَلَيْهِ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ؛ لأَِنَّ الإِْرْثَ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ أَوْ تَنْتَهِي عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا، فَبِأَيِّ سَبَبٍ يَجْرِي الإِْرْثُ بَيْنَهُمَا.
وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَجْرِي الإِْرْثُ مَعَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ - كَمَا ذَكَرَهُ شَارِحُ الْفَرَائِضِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَاخْتَارَهُ - لأَِنَّ انْتِقَال الشَّيْءِ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مُقَارِنٌ لِزَوَال مِلْكِ الْمُوَرِّثِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَحِينَ يَتِمُّ يَحْصُل الاِنْتِقَال وَالإِْرْثُ. (21)
ب - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
16 - هِيَ حَالَةُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَاتَّصَلَتِ الْوَفَاةُ بِهِ.
وَقَدْ عَرَّفَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِأَنَّهُ: الْمَرَضُ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْمَوْتُ فِي الأَْكْثَرِ، الَّذِي يَعْجِزُ الْمَرِيضُ عَنْ رَوِيَّةِ مَصَالِحِهِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَيَعْجِزُهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَصَالِحِ الدَّاخِلِيَّةِ فِي دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْحَال قَبْل مُرُورِ سَنَةٍ، كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنِ امْتَدَّ مَرَضُهُ دَائِمًا عَلَى حَالٍ، وَمَضَى عَلَيْهِ سَنَةٌ يَكُونُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ كَتَصَرُّفَاتِ الصَّحِيحِ، مَا لَمْ يَشْتَدَّ مَرَضُهُ وَيَتَغَيَّرْ حَالُهُ، وَلَكِنْ لَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ وَمَاتَ، يُعَدُّ حَالُهُ اعْتِبَارًا مِنْ وَقْتِ التَّغَيُّرِ إِلَى الْوَفَاةِ مَرَضَ مَوْتٍ.
وَيُلْحَقُ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ: الْحَامِل إِذَا أَتَمَّتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَدَخَلَتْ فِي السَّابِعِ، وَالْمَحْبُوسُ لِلْقَتْل، وَحَاضِرُ صَفِّ الْقِتَال وَإِنْ لَمْ يُصَبْ بِجُرْحٍ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ. وَنَحْوُهُ تَصْرِيحُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَامِل إِذَا ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ. (22)
17 - وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ انْتِقَال تَرِكَةِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، يَكُونُ عَقِبَ الْمَوْتِ بِلاَ تَرَاخٍ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا.
وَقَال بَعْضُ مُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ فِي ثُلُثَيْ تَرِكَةِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَكُونُ مِنْ حِينِ ابْتِدَاءِ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ وَدَلِيلُهُ يُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ.
قَالُوا: وَلأَِجْل هَذَا مُنِعَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ، وَتَرِثُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ لَوْ طَلَّقَهَا بَائِنًا فِيهِ (23) . الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ صَوْنًا لِلتَّرِكَةِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ:
18 - إِذَا شَعَرَ الْمَرِيضُ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ رُبَّمَا تَنْطَلِقُ يَدُهُ فِي التَّبَرُّعَاتِ رَجَاءَ اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَهُ فِي حَال صِحَّتِهِ، وَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَبْدِيدِ مَالِهِ وَحِرْمَانِ الْوَرَثَةِ، فَشُرِعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَاَلَّذِي يُحْجَرُ فِيهِ عَلَى الْمَرِيضِ هُوَ تَبَرُّعَاتُهُ فَقَطْ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ حَيْثُ لاَ دَيْنَ. (24)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ فِي التَّبَرُّعِ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَبَيْعِ الْمُحَابَاةِ فِيمَا يَزِيدُ عَنْ ثُلُثِ مَالِهِ، أَيْ أَنَّ حُكْمَ تَبَرُّعَاتِهِ حُكْمُ وَصِيَّتِهِ: تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ،
فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ صَحَّ تَبَرُّعُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ تَبَرُّعُ الْمَرِيضِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَال الْبَاقِي بَعْدَ التَّبَرُّعِ مَأْمُونًا، أَيْ لاَ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، وَهُوَ الْعَقَارُ كَدَارٍ وَأَرْضٍ وَشَجَرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَلاَ يَنْفُذُ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ وَلَوْ بِدُونِ الثُّلُثِ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُهُ مِنْ مَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ، كَمَا يُمْنَعُ مِنَ الزَّوَاجِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (25) . قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْمَرِيضُ لاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي تَدَاوِيهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَلاَ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ وَلَوْ بِكُل مَالِهِ. وَأَمَّا التَّبَرُّعَاتُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ فِيهَا بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ (26) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَرَضِ الْمَوْتِ) .
ج - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ:
19 - وَهِيَ حَالَةُ التَّرِكَةِ الْمَدِينَةِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِي " انْتِقَال التَّرِكَةِ ".
زَوَائِدُ التَّرِكَةِ:
20 - الْمُرَادُ بِزَوَائِدِ التَّرِكَةِ نَمَاءُ أَعْيَانِهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ حُكْمَ هَذِهِ الزَّوَائِدِ، آخِذِينَ بِعَيْنِ الاِعْتِبَارِ مَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنَ الدُّيُونِ أَوْ مَدِينَةً بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ.
فَإِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ غَيْرَ مَدِينَةٍ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّرِكَةَ بِزَوَائِدِهَا لِلْوَرَثَةِ، كُلٌّ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي الْمِيرَاثِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مَدِينَةً بِدِينٍ مُسْتَغْرِقٍ أَوْ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَائِدِهَا هَل تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، وَمِنْ ثَمَّ تُصْرَفُ لِلدَّائِنِينَ؟ أَمْ تَنْتَقِل لِلْوَرَثَةِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ - وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ نَمَاءَ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ بِزِيَادَتِهَا الْمُتَوَلِّدَةِ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ، كَمَا أَنَّ نَفَقَاتِ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ، مِنْ حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ وَمَصْرُوفَاتِ حَمْلٍ وَنَقْلٍ وَطَعَامِ حَيَوَانٍ تَكُونُ فِي التَّرِكَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الدَّيْنِ غَيْرِ الْمُسْتَغْرِقِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ - إِلَى أَنَّ زَوَائِدَ التَّرِكَةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا دَيْنٌ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ، وَعَلَيْهِمْ مَا تَحْتَاجُهُ مِنْ نَفَقَاتٍ. (27)
تَرْتِيبُ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ:
21 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالتَّرِكَةِ لَيْسَتْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَهَا مُقَدَّمٌ عَلَى بَعْضٍ، فَيُقَدَّمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ، ثُمَّ أَدَاءُ الدَّيْنِ، ثُمَّ تَنْفِيذُ وَصَايَاهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ.
أَوَّلاً: تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ:
22 - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنْ تَعَلُّقِ دَيْنٍ بِعَيْنِهَا قَبْل الْوَفَاةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّل الْحُقُوقِ مَرْتَبَةً وَأَقْوَاهَا هُوَ: تَجْهِيزُهُ لِلدَّفْنِ وَالْقِيَامُ بِتَكْفِينِهِ وَبِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ ﷺ فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ (28) وَلَمْ يَسْأَل هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ أَمْ لاَ؟ لأَِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ إِلَى الْوَارِثِ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْمُوَرِّثُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا تُرِكَ لِلْمُفْلِسِ الْحَيِّ ثِيَابٌ تَلِيقُ بِهِ فَالْمَيِّتُ أَوْلَى أَنْ يُسْتَرَ وَيُوَارَى؛ لأَِنَّ الْحَيَّ يُعَالِجُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَفَّنَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ مُصْعَبًا ﵁ فِي - بُرْدَةٍ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا، وَكَفَّنَ حَمْزَةَ ﵁ أَيْضًا، وَلَمْ يَسْأَل عَنْ دَيْنٍ قَدْ يَكُونُ عَلَى أَحَدِهِمَا قَبْل التَّكْفِينِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِأَعْيَانِهَا قَبْل الْوَفَاةِ، كَأَنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ، أَوْ شَيْءٌ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ، كَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ، وَكَانَ حَقُّ الْبَائِعِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَبِيعِ نَفْسِهِ الَّذِي لاَ يَزَال تَحْتَ يَدِهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الدَّيْنُ مُتَقَدِّمًا فِي الدَّفْعِ عَلَى تَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ بَعْدَ تَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ. (29)
وَالتَّفْصِيل فِي (جَنَائِزُ، وَدَيْنٌ) .
ثَانِيًا: أَدَاءُ الدَّيْنِ:
23 - يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَدَاءُ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ - عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (30)
وَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ، لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، وَالْوَاجِبُ يُؤَدَّى قَبْل التَّبَرُّعِ.
وَعَنِ الإِْمَامِ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ قَال: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْل الدَّيْنِ، وَقَدْ شَهِدْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ بَدَأَ بِالدَّيْنِ قَبْل الْوَصِيَّةِ (31) وَهَذِهِ الدُّيُونُ أَوِ الْحُقُوقُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا: مَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ.
وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ لِلْعِبَادِ، كَدَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ.
وَهَذِهِ الدُّيُونُ بِشَطْرَيْهَا، إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهَا. وَمِنْهَا: دُيُونٌ مُطْلَقَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّمَّةِ وَحْدَهَا.
24 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسَوَّارٌ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ الدُّيُونَ الَّتِي عَلَى الْمَيِّتِ تَحُل بِمَوْتِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَال لاَ يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلاَ ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا، وَلاَ رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الأَْعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ؛ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلاَ نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ أَمَّا الْمَيِّتُ فَلأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، (32) وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهُ، وَقَدْ تَتْلَفُ الْعَيْنُ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ، وَأَمَّا الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِالأَْعْيَانِ وَلاَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ فَلاَ يَسْقُطُ حَظُّ الْمَيِّتِ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّ الدُّيُونَ عَلَى الْمَيِّتِ لاَ تَحُل بِمَوْتِهِ، إِذَا وَثِقَ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ عَلَى أَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِل مُبْطِلاً لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلاَفَةِ وَعَلاَمَةٌ عَلَى الْوِرَاثَةِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ (33) ، فَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَال الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَدَاءَ الدَّيْنِ وَالْتِزَامَهُ لِلْغَرِيمِ وَيَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَال لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ، فَأَنَّهُمْ قَدْ لاَ يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: أَنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِل إِلَى ذِمَمِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْتِزَامَهُمْ لَهُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الإِْنْسَانَ دَيْنٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَلَمْ يَتَعَاطَ سَبَبَهُ، وَلَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ لِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ لَلَزِمَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً (34) .
25 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ الدَّيْنَيْنِ يُؤَدَّى أَوَّلاً إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهُمَا. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، أَوْ لاِسْتِغْنَاءِ اللَّهِ وَحَاجَةِ النَّاسِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَقْدِيمِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ دُيُونِهِ عَلَى حُقُوقِ الآْدَمِيِّ إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ: دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (35) وَقَوْلِهِ: اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ. (36) وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ وَفَاءَ الدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِبَعْضِهَا، كَالدَّيْنِ الْمَرْهُونِ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَهَا الدَّيْنُ الْمُطْلَقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمُتَوَفَّى، وَلاَ فَرْقَ فِي التَّقْدِيمِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ الْعَبْدِ. (37)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ، وَدَيْنٌ) .
تَعَلُّقُ دَيْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّرِكَةِ:
26 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، عَلَى خِلاَفٍ سَبَقَ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى دَيْنِ الآْدَمِيِّ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنَ التَّرِكَةِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.
قَال الْفَنَارِيُّ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ: إِنَّ أَدَاءَ دَيْنِ اللَّهِ عِبَادَةٌ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ وَفِعْلٍ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَمَا فِي الإِْيصَاءِ لِتَحَقُّقِ أَدَائِهَا مُخْتَارًا، فَيَظْهَرُ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنِ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَفِعْل الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالأَْمْرِ وَالنَّهْيِ لاَ يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلاَ أَمْرٍ بِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَمْتَثِل، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْعِصْيَانِ، فَلَيْسَ فِعْل الْوَارِثِ الْفِعْل الْمَأْمُورَ بِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ، بِخِلاَفِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا وُصُولُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا لاَ غَيْرُ، وَلِهَذَا لَوْ ظَفِرَ بِهِ الْغَرِيمُ يَأْخُذُهُ، وَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. ثُمَّ الإِْيصَاءُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّعٌ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِعْلٌ لاَ مَالٌ، وَالأَْفْعَال تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهَا بِالتَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ التَّرِكَةَ مَالٌ يَصْلُحُ لاِسْتِيفَاءِ الْمَال مِنْهَا لاَ لاِسْتِيفَاءِ الْفِعْل. أَلاَ يُرَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لاَ يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ، فَصَارَتِ الْحُقُوقُ الْمَذْكُورَةُكَالسَّاقِطِ فِي حَقِّ الدُّنْيَا؛ لأَِنَّهَا لَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ أَدَاؤُهَا، فَكَانَ الإِْيصَاءُ بِأَدَائِهَا تَبَرُّعًا، فَيُعْتَبَرُ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ مِنَ الثُّلُثِ بِخِلاَفِ دُيُونِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّةَ الْمَال لاَ الْفِعْل؛ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إِلَى الأَْمْوَال. وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الإِْيصَاءَ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَالإِْيصَاءُ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لَيْسَ بِلاَزِمٍ، فَلاَ وَجْهَ لِقِيَاسِ الإِْيصَاءِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الإِْيصَاءِ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، فَتَأَمَّل. (38)
هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بَعْدَ وَفَاءِ دَيْنِ الْعَبْدِ يَبْدَأُ بِوَفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَدَّمُ هَدْيُ التَّمَتُّعِ إِنْ مَاتَ الْحَاجُّ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا أَيْضًا، كَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَصَوْمٍ وَظِهَارٍ وَقَتْلٍ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، كُل ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ فَتَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَمِثْل مَا تَقَدَّمَ: زَكَاةُ النَّقْدَيْنِ الَّتِي حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ وَجَبَتْ وَلاَ سَاعِيَ لأَِخْذِهَا وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَتْ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنٍ، فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْل الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ تُقْضَى دُيُونُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّتِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لآِدَمِيٍّ، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لأَِنَّهَا حَقُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. هَذَا وَإِنَّ مَحَل تَأْخِيرِ الدَّيْنِ عَنْ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقٌّ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقٌّ قُدِّمَ عَلَى التَّجْهِيزِ، وَذَلِكَ كَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيمَا قَبْل مَوْتِهِ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مُؤَنِ التَّجْهِيزِ، بَل عَلَى كُل حَقٍّ تَعَلَّقَ بِهَا فَكَانَتْ كَالْمَرْهُونِ بِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوَفَّى حَقَّ مُرْتَهِنٍ بِقَدْرِ الرَّهْنِ، ثُمَّ إِنْ فَضَل لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ.
ثُمَّ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْ تَسْدِيدِ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ، تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْعْيَانِ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَهَا الدَّيْنُ أَمْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ.
فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ، وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِاللَّهِ تَعَالَى وَدَيْنِ الآْدَمِيِّ، يَتَحَاصُّونَ بِنِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَال الْمُفْلِسِ. (39)
وَالتَّفْصِيل فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجٍّ، وَدَيْنٍ، وَإِرْثٍ) .
دَيْنُ الآْدَمِيِّ:
27 - دَيْنُ الآْدَمِيِّ هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ إِخْرَاجَ هَذَا الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى الْوَرَثَةِ قَبْل تَوْزِيعِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (40) وَعَلَى ذَلِكَ الإِْجْمَاعُ، وَذَلِكَ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، أَوْ حَتَّى تَبْرُدَ جِلْدَتُهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي نَوْعِ تَعَلُّقِ دَيْنِ الآْدَمِيِّ بَيْنَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِذِمَّةِ الْمُتَوَفَّى، وَفِي دَيْنِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِي ضِيقِ التَّرِكَةِ عَنْ تَسْدِيدِ الدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي.
نَوْعُ التَّعَلُّقِ:
الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ لاَ. أ - الدَّيْنُ الْمُتَعَلِّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ:
28 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنَ الدُّيُونِ بِمَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ، كَالدَّيْنِ الْمُوثَقِ بِرَهْنٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذِهِ الدُّيُونِ عَلَى تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، لأَِنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَال حَيَاتِهِ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ هَذَا الدَّيْنِ جَهَّزَ مِنْهُ الْمَيِّتَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُل شَيْءٌ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، كَانَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ. (41)
ب - الدُّيُونُ الْمُطْلَقَةُ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ الْمُطْلَقَةَ، وَهِيَ الَّتِي لاَ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ تُؤَخَّرُ عَنْ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ دُفِعَ لِلدَّائِنِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (دَيْنٌ وَإِرْثٌ)
ج - دَيْنُ الصِّحَّةِ وَدَيْنُ الْمَرَضِ:
30 - دَيْنُ الصِّحَّةِ: هُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ مُطْلَقًا، أَيْ فِي حَال الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ عَلَى السَّوَاءِ. وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِالإِْقْرَارِ فِي حَال الصِّحَّةِ وَكَذَا الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِنُكُول الْمُتَوَفَّى فِي زَمَانِ صِحَّتِهِ.
وَدَيْنُ الْمَرَضِ: هُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ، كَإِقْرَارِ مَنْ خَرَجَ لِلْمُبَارَزَةِ، أَوْ خَرَجَ لِلْقَتْل قِصَاصًا، أَوْ لِيُرْجَمَ.
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى: أَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ وَدَيْنَ الْمَرَضِ سَوَاءٌ فِي الأَْدَاءِ، وَلِهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِهِمَا يَكُونُ لِكُل دَائِنٍ حِصَّةٌ مِنْهُمَا، بِنِسْبَةِ مِقْدَارِ دَيْنِهِ، بِلاَ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ دُيُونِ الصِّحَّةِ أَوْ دُيُونِ الْمَرَضِ، فَهِيَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّهُ إِنْ عَرَّفَ سَبَبَهَا لِلنَّاسِ فَهِيَ دُيُونُ الصِّحَّةِ - وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ - وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْ سَبَبَهَا فَيَكْفِي الإِْقْرَارُ فِي إِثْبَاتِهَا؛ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ، إِلاَّ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ أَوْ قَرِينَةٌ عَلَى كَذِبِهِ. وَالإِْنْسَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ هَوَاهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي حَال الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَرَضَمَظِنَّةُ التَّوْبَةِ. يَصْدُقُ فِيهِ الْكَاذِبُ، وَيَبَرُّ فِيهِ الْفَاجِرُ، وَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالإِْقْرَارِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ الَّذِي ثَبَتَ بِطَرِيقِ الإِْقْرَارِ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ بِهِ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَظِنَّةُ التَّبَرُّعِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا الَّتِي تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْوَصَايَا مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الدُّيُونِ. (42)
تَزَاحُمُ الدُّيُونِ:
31 - إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مُتَّسِعَةً لِلدُّيُونِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا، فَلاَ إِشْكَال فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ، إِذْ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهَا جَمِيعًا مِنَ التَّرِكَةِ.
أَمَّا إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ وَلَمْ تَتَّسِعْ لِجَمِيعِ الدُّيُونِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي تَقْدِيمِ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ تَقْدِيمِهِ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (دَيْنٌ، وَرَهْنٌ، وَقِسْمَةٌ) .
ثَالِثًا: الْوَصِيَّةُ:
32 - يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَنْفِيذَ مَا يُوصِي بِهِ الْمَيِّتُ يَجِيءُ بَعْدَ الدَّيْنِ وَقَبْل أَخْذِ الْوَرَثَةِ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (43) وَلاَ يَكُونُ تَنْفِيذُ مَا يُوصَى بِهِ مِنْ أَصْل الْمَال؛ لأَِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا، وَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ. وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الأَْصْل جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً.
وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ لاَ يُفِيدُ التَّقْدِيمَ فِعْلاً كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ قَبْل (ف 23) وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِأَمْرِ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَتْ تَبَرُّعًا مِنْهُ، كَيْ لاَ تَشِحَّ نُفُوسُ الْوَرَثَةِ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ التَّرِكَةِ قَبْل تَوْزِيعِهَا بَيْنَهُمْ.
وَمِنْ هُنَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَلَى الدَّيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِأَوِ الَّتِي هِيَ هُنَا لِلتَّسْوِيَةِ. (44) وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ؛ لأَِنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِحُدُودِ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ بِثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ مَثَلاً كَانَ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ نَصِيبِهِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ، لاَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ. فَإِذَا نَقَصَ الْمَال لَحِقَهُ النَّقْصُ، وَهَذَا بِخِلاَفِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَدِّمَانِ حَقًّا عَلَى الْوَصِيَّةِ وَحُقُوقِ الْوَرَثَةِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِنِسْبَةٍ شَائِعَةٍ عَلَى سَبِيل الْمُشَارَكَةِ مَعَ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ - فَلَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ قَبْل الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا، وَلاَ يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ كُل الثُّلُثِ مِنَ الْبَاقِي، بَل الْهَالِكُ يَهْلِكُ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَالْبَاقِي يَبْقَى عَلَى الْحَقَّيْنِ، بِخِلاَفِ الدَّيْنِ - فَإِنَّهُ إِذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ يُسْتَوْفَى كُل الدَّيْنِ مِنَ الْبَاقِي.
ثُمَّ إِنَّ طَرِيقَةَ حِسَابِ الْوَصِيَّةِ: أَنْ يَحْسِبَ قَدْرَ الْوَصِيَّةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ لِتَظْهَرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ، كَمَا تُحْسَبُ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ أَوَّلاً لِيَظْهَرَ الْفَاضِل لِلْعَصَبَةِ. (45)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (وَصِيَّةٍ، وَإِرْثٍ) . رَابِعًا: قِسْمَةُ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ:
33 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْوَارِثِينَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قُسِّمَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ قَبْل أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، هَل تُنْقَضُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ أَمْ تَلْزَمُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ الْمُسْتَغْرَقَةَ بِالدَّيْنِ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِ، أَوْ هِيَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يَشْغَلُهَا جَمِيعًا.
أَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَغْرَقَةِ فَإِنَّهَا تَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مِنْ حِينِ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ أَوْ يَنْتَقِل الْجُزْءُ الْفَارِغُ مِنَ الدَّيْنِ.
وَمِنْ ثَمَّ لاَ يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ اقْتِسَامُ التَّرِكَةِ مَا دَامَتْ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مِلْكَهُمْ لاَ يَظْهَرُ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (46) فَإِذَا قَسَمُوهَا نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ حِفْظًا لِحَقِّ الدَّائِنِينَ؛ لأَِنَّهُمْ قَسَمُوا مَا لاَ يَمْلِكُونَ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: الَّذِي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ، إِذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلاَ مَال لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ وَلاَ قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَال أَنْفُسِهِمْ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ ثَابِتٌ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى الشُّيُوعِ، فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى: جَوَازِ الْقِسْمَةِ اسْتِحْسَانًا، إِذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِلتَّرِكَةِ، لأَِنَّهُ قَلَّمَا تَخْلُو تَرِكَةٌ مِنْ دَيْنٍ يَسِيرٍ.
وَلاَ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَيِّتَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ ضَمِنَ الدَّيْنَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِرِضَى الدَّائِنِ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَقْسُومِ مَا يَكْفِي لأَِدَاءِ الدَّيْنِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَا نَصُّهُ:
إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ، إِلاَّ إِذَا أَدَّى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ، أَوْ أَبْرَأَهُمُ الدَّائِنُونَ مِنْهُ، أَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ مَالاً سِوَى الْمَقْسُومِ يَفِي بِالدَّيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لاَ تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ. (47)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ لِلتَّرِكَةِ يَبْدَأُ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، سَوَاءٌ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِالتَّرِكَةِ أَمْ لاَ. وَقِسْمَةُ التَّرِكَةِ مَا هِيَ إِلاَّ تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ لِحُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ وَجْهَ لِنَقْضِ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ قِيل: إِنَّهَا بَيْعٌ فَفِي نَقْضِهَا وَجْهَانِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَبْطُل الْقِسْمَةُ بِظُهُورِ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا؛ لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا بِغَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ. (48)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قِسْمَةٌ) .
نَقْضُ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ:
34 - الْمَقْصُودُ بِنَقْضِ الْقِسْمَةِ: إِبْطَالُهَا بَعْدَ تَمَامِهَا، وَتُنْقَضُ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ: -
أ - الإِْقَالَةُ أَوِ التَّرَاضِي عَلَى فَسْخِ الْقِسْمَةِ.
ب - ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
ج - ظُهُورُ وَارِثٍ أَوْ مُوصًى لَهُ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي؛ لأَِنَّ الْوَارِثَ وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكَانِ لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ.
د - ظُهُورُ غَبْنٍ فَاحِشٍ لَحِقَ بِبَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، كَأَنْ قُوِّمَ الْمَال بِأَلْفٍ، وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ. وَتُنْقَضُ هُنَا قِسْمَةُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْقَاضِي مُقَيَّدٌ بِالْعَدْل وَلَمْ يُوجَدْ. وَتُنْقَضُ أَيْضًا قِسْمَةُ التَّرَاضِي؛ لأَِنَّ شَرْطَ جَوَازِهَا الْمُعَادَلَةُ وَلَمْ تُوجَدْ، فَجَازَ نَقْضُهَا.
هـ - وُقُوعُ غَلَطٍ فِي الْمَال الْمَقْسُومِ. (49) وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ) .
التَّصَرُّفُ فِي التَّرِكَةِ:
35 - تَقَدَّمَ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي نَفَاذِ أَوْ عَدَمِ نَفَاذِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
وَإِذَا تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي التَّرِكَةِ الْمَدِينَةِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْقُل الْمِلْكِيَّةَ أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُقُوقًا عَيْنِيَّةً كَالرَّهْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِمَنْعِ مِلْكِيَّةِ الْوَارِثِ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ - إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَيُّ تَصَرُّفٍ مِنَ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ إِلاَّ فِي الأَْحْوَال التَّالِيَةِ:
أ - أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مِنَ الدَّيْنِ قَبْل تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ، إِمَّا بِالأَْدَاءِ أَوِ الْكَفَالَةِ.
ب - أَنْ يَرْضَى الدَّائِنُونَ بِقِيَامِ الْوَرَثَةِ بِبَيْعِ التَّرِكَةِ لِسَدَادِ دُيُونِهِمْ؛ لأَِنَّ مَنْعَ تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ كَانَ ضَمَانًا لِحَقِّ الدَّائِنِينَ الْمُتَعَلِّقِ بِالتَّرِكَةِ.ج - أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَاضِيَ بِمَا لَهُ مِنَ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ يَمْلِكُ الإِْذْنَ لِلْوَرَثَةِ بِالْبَيْعِ لِجَمِيعِ التَّرِكَةِ أَوْ بَعْضِهَا. (50)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى - وَهُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ يَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ، سَوَاءٌ كَانَتِ التَّرِكَةُ مَدِينَةً أَمْ لاَ - فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَارِثِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ مَعَ اسْتِغْرَاقِ التَّرِكَةِ بِالدَّيْنِ لاَ يَنْفُذُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَيِّتِ، أَذِنَ الدَّائِنُ أَمْ لاَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ. (51)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْهِبَةِ، وَإِلَى بَيْعٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَمُصْطَلَحِ: (دَيْنٌ) .
تَصْفِيَةُ التَّرِكَةِ:
36 - تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ حَوْل تَصَرُّفِ الْوَارِثِينَ الْبَالِغِينَ فِي التَّرِكَةِ قِسْمَةً أَوْ بَيْعًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ قُصَّرًا: فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا يَكُونُ رَاجِعًا لِلْوَصِيِّ إِنْ كَانَ، أَوْ لِلْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ، وَذَلِكَ لِضَمَانِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِحِفْظِ أَمْوَال الْوَرَثَةِ الضُّعَفَاءِ كَيْ لاَ يُظْلَمُوا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَلِتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ يُنْظَرُ (الْوَصِيَّةُ) وَمُصْطَلَحُ: (إِيصَاءٌ) .
التَّرِكَةُ الَّتِي لاَ وَارِثَ لَهَا:
37 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّرِكَةِ الَّتِي لاَ وَارِثَ لَهَا، أَوْ لَهَا وَارِثٌ لاَ يَرِثُهَا جَمِيعَهَا، فَمَنْ قَال مِنَ الْفُقَهَاءِ بِالرَّدِّ قَال: لاَ تَئُول التَّرِكَةُ إِلَى بَيْتِ الْمَال مَا دَامَ لَهَا وَارِثٌ. وَمَنْ لاَ يَرَى الرَّدَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ قَال: إِنَّ بَيْتَ الْمَال يَرِثُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، أَوْ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.
وَإِذَا آلَتِ التَّرِكَةُ إِلَى بَيْتِ الْمَال كَانَتْ عَلَى سَبِيل الْفَيْءِ لاَ الإِْرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ بَيْتِ الْمَال هُنَا هُوَ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ، أَيْ عَلَى سَبِيل الْعُصُوبَةِ. (52)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِرْثٌ، وَبَيْتُ الْمَال) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير. مادة: " ترك ".
(2) ابن عابدين 5 / 500 ط بولاق، وحاشية الفناري على شرح السراجية ص 13، والدسوقي 4 / 470، ومغني المحتاج 3 / 3 وحاشية الرملي على أسنى المطالب 3 / 3، وكشاف القناع 4 / 402.
(3) القاموس المحيط. مادة " ورث ".
(4) العذب الفائض 1 / 16، وحاشية البقري على الرحبية ص 10، وابن عابدين 5 / 499، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 456، ونهاية المحتاج 6 / 2.
(5) حديث: " من مات وترك مالا فماله لموالي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 27 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة ﵁.
(6) الدسوقي 4 / 461، 470، ومغني المحتاج 3 / 3، وبجيرمي على المنهج 3 / 257، والمهذب 1 / 383، وكشاف القناع 4 / 402، وبداية المجتهد 2 / 260، والمغني 5 / 346 - 347، وابن عابدين 5 / 482 وما بعدها.
(7) حديث: " من مات وترك مالا فماله لموالي العصبة. . . " أخرجه البخاري (12 / 27 - الفتح - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(8) الفروق 3 / 275 - 279، وبداية المجتهد 2 / 229 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(9) القواعد لابن رجب ص 315 وما بعدها.
(10) ابن عابدين 5 / 483، وحاشية الفناري على شرح السراجية ص 13، والبدائع 7 / 386، وتبيين الحقائق 5 / 257 - 258.
(11) بداية المجتهد 2 / 231 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(12) ابن عابدين 1 / 483، والدسوقي 4 / 456، وحاشية الفناري مع شرح السراجية ص 10، وأسنى المطالب 3 / 3 - 4، وكشاف القناع 4 / 403 - 404.
(13) ابن عابدين 5 / 482.
(14) ابن عابدين 5 / 482، والتحفة الخيرية ص 47، والعذب الفائض 1 / 16 - 17، والمغني 6 / 320، وكشاف القناع 4 / 448.
(15) المصادر السابقة.
(16) المصادر السابقة.
(17) ابن عابدين 5 / 486، والعذب الفائض 1 / 18 وما بعدها.
(18) العذب الفائض 1 / 23 وما بعدها، وشرح الرحبية ص 23، والسراجية ص 18 - 19.
(19) سورة النساء / 11
(20) المبسوط 29 / 137، وتبيين الحقائق 5 / 213، وجامع الفصولين 2 / 23 - 24، وبداية المجتهد 2 / 284، وأسنى المطالب 3 / 4، وحاشية الجمل 2 / 361 - 363، والمهذب 1 / 327، وحاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 2 / 143 وما بعدها، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 104 وما بعدها.
(21) حاشية الفناري على شرح السراجية ص 40 - 41.
(22) مجلة الأحكام العدلية م (1595) والدسوقي 3 / 306 - 307 ط مطبعة مصطفى الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 508.
(23) البدائع 3 / 218 - 220، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 1427 - 1431.
(24) الزيلعي 5 / 23 وما بعدها، والدسوقي 3 / 306، 307، ومغني المحتاج 2 / 165، وكشاف القناع 3 / 412، والمغني 4 / 650.
(25) المراجع السابقة.
(26) الدسوقي 3 / 307.
(27) ابن عابدين 5 / 482 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 144 - 145، وحاشية بجيرمي على شرح المنهج 2 / 402 - 403، وجامع الفصولين 2 / 23، والدسوقي 4 / 457 وما بعدها، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 104 - 105.
(28) حديث: " كفنوه في ثوبين " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 137 - ط السلفية) .
(29) تبيين الحقائق 5 / 229 - 230، وابن عابدين 5 / 463، 483، وشرح السراجية ص 4، والشرح الكبير 4 / 457، وأسنى المطالب 3 / 3، ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 13.
(30) سورة النساء / 11.
(31) المبسوط 29 / 137.
(32) حديث: " نفس المؤمن معلقة. . . " أخرجه أحمد (2 / 440 - ط الميمنية) والحاكم (2 / 26 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(33) رواه البخاري (الفتح 12 / 9 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة: " من ترك مالا فلورثته " وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 56 - ط شركة الطباعة الفنية) . أورده الشافعي بلفظ: " من ترك حقا " ولم أره. انتهى كلام ابن حجر.
(34) بداية المجتهد 2 / 282، والمهذب 1 / 327، والمغني 4 / 482 - 483 ط الرياض، وكشاف القناع 3 / 483، وفتح القدير 6 / 244، وابن عابدين 5 / 463، 483.
(35) حديث: " دين الله أحق أن يقضى ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 ط السلفية) ومسلم (2 / 804 ط الحلبي) .
(36) حديث: " اقضوا الله فالله أحق بالوفاء " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 64 - ط السلفية) من حديث ابن عباس ﵄.
(37) شرح السراجية للجرجاني بحاشية السجاوندي ص 5 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 408 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 6 / 76 وما بعدها، والعذب الفائض 1 / 13.
(38) شرح السراجية للجرجاني بحاشية الفناري ص 30.
(39) شرح السراجية ص 5 وحاشية الدسوقي 4 / 456، وابن عابدين 1 / 463، 483، ونهاية المحتاج 6 / 7، 76، والعذب الفائض 1 / 13، وكشاف القناع 4 / 403 - 404.
(40) سورة النساء / 11.
(41) ابن عابدين 5 / 463، 483، وشرح السراجية ص 4، والدسوقي 4 / 457، ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 13.
(42) ابن عابدين 5 / 501، وشرح السراجية مع حاشية الفناري ص 27 - 28، والمبسوط 5 / 23 - 25، والصاوي على الشرح الصغير 4 / 617 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 3 - 4، وكشاف القناع 4 / 447، والدسوقي 4 / 456.
(43) سورة النساء
(44) الفناري على شرح السراجية ص 4 - 5، والدسوقي 4 / 458، ونهاية المحتاج 6 / 7، والعذب الفائض 1 / 15، وتفسير القرطبي 5 / 73 - 74.
(45) المراجع السابقة.
(46) سورة النساء / 11.
(47) المبسوط 15 / 59 - 60، والبدائع 7 / 30، وتبيين الحقائق 5 / 52، وابن عابدين 5 / 75، ومجلة الأحكام العدلية م (1161) والدسوقي 4 / 457 وما بعدها.
(48) المهذب 1 / 310، 327 - 328، ونهاية المحتاج 4 / 298، والمغني 4 / 437، 9 / 129.
(49) البدائع 7 / 30، وابن عابدين 5 / 168 - 169، وتبيين الحقائق 5 / 273، ومجلة الأحكام العدلية م 125، 160، والمهذب 1 / 327، 2 / 310، وبجيرمي على الخطيب 4 / 344، والشرح الصغير 3 / 677، والمغني 9 / 127 - 129، وكشاف القناع 6 / 376.
(50) جامع الفصولين 2 / 32، 37، والمدونة الكبرى 5 / 207، 208 ط الساسي.
(51) حاشية البجيرمي على منهج الطلاب 2 / 400 وما بعدها، والمغني 4 / 328 مطابع سجل العرب، و 12 / 104 وما بعدها مع الشرح الكبير.
(52) ابن عابدين 5 / 488، والقليوبي 3 / 136 - 137، والمغني 5 / 684، والعذب الفائض 1 / 19.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 206/ 11
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".