القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
التجزئة، وتفريق الشيء ذاته، وجعله أبعاضاً، وأجزاء متمايزة . ومن أمثلته تبعيض صفقة البيع، ومثله تطليق الزوج زوجته نصف طلقة، فتقع طلقة واحدة؛ لأن الطلاق لا يقبل التبعيض .
تَجْزِئَةُ الشَّيْءِ إِلَى أَجْزَاءٍ؛ وَالتَّبَعُّضُ: التَّجَزُّؤُ، تَقولُ: بَعَّضْتُ المَالَ إِذا جَزَّأْتَهُ، وَضِدُّ التَّبْعِيضِ: التَّجْمِيعُ وَالتَّوْحِيدُ، وَالبَعْضِيَّةُ: الـجُزْئِيَّةُ، وَهِيَ خِلافُ الكُلِيَّةِ، وَأَصْلُ كَلِمَةِ التَّبْعِيضِ مِنَ بَعْضِ الشَّيْءِ، وَهُوَ القِطْعَةُ مِنْهُ، والـجَمْعُ: أَبْعاضٌ، يُقالُ: بَعَّضْتُ الشَّيْءَ أُبَعِّضُهُ تَبْعِيضاً أَيْ قَطَّعْتُهُ قِطَعًا، وَيَأتـِي التَّبْعِيضُ بِمَعنْى: التَّفْرِيقِ، ومِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَخَذُوا مالَهُ فَبَعَّضُوهُ أيْ فَرَّقُوهُ، وَمِنْ مَعَانِي التَّبْعِيضِ أَيْضًا: التَّقْسِيمُ والتَّوْزِيعُ.
يَرِدُ إِطْلاقُ مُصْطَلَحِ التَّبْعِيضِ في مَوَاطِنَ كَثِيْرَةٍ مِنَ الفِقْهِ، منْ ذَلِكَ: كِتَابُ الطَّهَارَةِ في بَابِ صِفَةِ الوُضُوْءِ، وَكِتَابُ الصِّيَامِ في بَابِ زَكَاةِ الفِطْرِ، وَأيْضًا كِتابُ الحَجِّ، وَكِتابُ النِّكاحِ فِي بَابِ الطَّلاقِ وَبَابِ الظِّهَارِ، وَكِتَابُ الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَكِتَابُ العِتْقِ، وَغَيْرِهَا. وَيَرِدُ إِطْلاقُ هَذَا الـمُصْطَلَحِ في عِلْمِ الاعْتِقَادِ عِنْدَ الكَلامِ عَلى أَنْوَاعِ الشِّرْكِ وَمِنْهُ شِرْكُ التَّبْعِيض: وَهُوَ تَرْكِيْبُ الْإِلَهِ مِنْ آلِهَةٍ كَشِرْكِ النَّصَارَى.
بعض
التجزئة، وتفريق الشيء ذاته، وجعله أبعاضاً، وأجزاء متمايزة.
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّبْعِيضُ فِي اللُّغَةِ: التَّجْزِئَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ بَعَّضَ الشَّيْءَ تَبْعِيضًا، أَيْ جَعَلَهُ أَبْعَاضًا أَيْ أَجْزَاءً مُتَمَايِزَةً. وَبَعْضُ الشَّيْءِ: جُزْؤُهُ، وَهُوَ طَائِفَةٌ مِنْهُ سَوَاءٌ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ. وَمِنْهُ: أَخَذُوا مَالَهُ فَبَعَّضُوهُ، أَيْ: فَرَّقُوهُ أَجْزَاءً. (1) وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّبْعِيضِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّفْرِيقُ:
2 - التَّفْرِيقُ: مَصْدَرُ فَرَّقَ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا، أَيْ فَصَلَهُ أَبْعَاضًا، فَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجَزُّؤِ، وَهُوَ ضِدُّ الْجَمْعِ. وَفَرَّقْتُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَتَفَرَّقَا. قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: فَرَقْتُ بَيْنَ الْكَلاَمَيْنِ فَافْتَرَقَا، مُخَفَّفٌ، وَفَرَّقْتُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فَتَفَرَّقَا مُثَقَّلٌ، فَجُعِل الْمُخَفَّفُ فِي الْمَعَانِي، وَالْمُثَقَّل فِي الأَْعْيَانِ. وَالَّذِينَ حَكَاهُ غَيْرُهُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى، وَالتَّثْقِيل لِلْمُبَالَغَةِ. (2) وَيَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لَيْسَ لِلتَّبْعِيضِ حُكْمٌ عَامٌّ جَامِعٌ، وَلاَ يُمْكِنُ اطِّرَادُهُ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلاَتِ وَالدَّعَاوَى، وَالْجِنَايَاتِ، وَغَيْرِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي.
أَهَمُّ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا مَسَائِل التَّبْعِيضِ وَأَحْكَامُهَا:
4 - تُبْنَى أَحْكَامُ التَّبْعِيضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ عَلَى قَوَاعِدَ فِقْهِيَّةٍ كَثِيرَةٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ، نُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَأْتِي:
أ - قَاعِدَةُ " ذِكْرِ بَعْضِ مَا لاَ يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ ".
5 - فَإِذَا طَلَّقَ الْمَرْأَةَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةً. أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ الْمَرْأَةِ طَلُقَتْ. (3)
وَلِلْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، يَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَنَظِيرُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةُ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ فَاخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ (4) ". ب - " مَا جَازَ عَلَى الْبَدَل لاَ يَدْخُلُهُ تَبْعِيضٌ فِي الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْهُ مَعًا ":
6 - وَلِهَذَا قَال الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْعَدَدِ: الْوَاجِبُ الْوَاحِدُ لاَ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ الأَْصْل، وَبَعْضُ الْبَدَل كَخِصَال الْكَفَّارَةِ، وَكَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، أَمَّا فِي أَحَدِهِمَا فَنَعَمْ، كَمَا لَوْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لاَ يَكْفِيهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ عَنِ الْبَاقِي. (5) فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
ج - قَاعِدَةُ " الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ ".
7 - قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: هِيَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (6) وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا مَا إِذَا قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ لَزِمَهُ قَطْعًا.
وَكَمَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الصَّاعِ مِنَ الْفِطْرَةِ لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أُمُورٌ مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ الْفَاقِدُ لِلْمَاءِ ثَلْجًا أَوْ بَرَدًا، وَتَعَذَّرَتْ إِذَابَتُهُ فَلاَ يَجِبُ مَسْحُ الرَّأْسِ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَمَا إِذَا وَجَدَ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لاَ يَجِبُ قَطْعًا؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ قَصَدَ تَكْمِيل الْعِتْقِ قَطْعًا. (7) وَسَيَأْتِي تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ.
أَحْكَامُ التَّبْعِيضِ
التَّبْعِيضُ فِي الطَّهَارَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيضَ يَتَأَتَّى فِي الطَّهَارَةِ:
فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الشَّخْصِ مِنَ الْمِرْفَقِ غَسَل مَا بَقِيَ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ كُل عُضْوٍ سَقَطَ بَعْضُهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَاقِيهِ غَسْلاً وَمَسْحًا؛ طِبْقًا لِقَاعِدَةِ " الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ ".
وَإِذَا وَجَدَ الْجُنُبُ مَاءً يَكْفِي غَسْل بَعْضِ أَعْضَائِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، إِلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْمَاءَ لاَ يُطَهِّرُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل، وَلأَِنَّ مَا جَازَ عَلَى الْبَدَل لاَ يَدْخُلُهُ تَبْعِيضٌ. وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَحَمَّادٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي. وَبِهِ قَال عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ وَمَعْمَرٌ، وَنَحْوُهُ قَال عَطَاءٌ. (8)
وَأَمَّا إِنْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ مَاءٍ فَالْحُكْمُ لاَ يَخْتَلِفُ عِنْدَ مَنْ لاَ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَلَزِمَهُ كَالْجُنُبِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ صَحِيحًا وَبَعْضُهُ جَرِيحًا.
وَمَأْخَذُ مَنْ لاَ يَرَاهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِمَّا أَنَّ الْحَدَثَ الأَْصْغَرَ لاَ يَتَبَعَّضُ رَفْعُهُ فَلاَ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودُهُ، أَوْ أَنَّهُ يَتَبَعَّضُ لَكِنَّهُ يَبْطُل بِالإِْخْلاَل بِالْمُوَالاَةِ، فَلاَ يَبْقَى لَهُ فَائِدَةٌ، أَوْ أَنَّ غَسْل بَعْضِ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، بِخِلاَفِ غَسْل بَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ. (9)
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ الْجَرِيحُ وَالْمَرِيضُ إِذَا أَمْكَنَ غَسْل بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنْ كَانَ أَكْثَرُ بَدَنِهِ صَحِيحًا غَسَل وَلاَ تَيَمُّمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَكْسُ تَيَمَّمَ وَلاَ غَسْل عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل لاَ يَجِبُ كَالصِّيَامِ وَالإِْطْعَامِ. وَيَلْزَمُهُ غَسْل مَا أَمْكَنَهُ، وَالتَّيَمُّمُ لِلْبَاقِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ. (10)
9 - وَإِذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ خَلَعَهُمَا قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ غَسْل قَدَمَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا خَلَعَ خُفَّيْهِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بَطَل وُضُوءُهُ، وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ مَبْنِيٌّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي وُجُوبِ الْمُوَالاَةِ فِي الْوُضُوءِ، فَمَنْ أَجَازَ التَّفْرِيقَ جَوَّزَ غَسْل الْقَدَمَيْنِ لأَِنَّ سَائِرَ أَعْضَائِهِ مَغْسُولَةٌ، وَمَنْ مَنَعَ التَّفْرِيقَ أَبْطَل وُضُوءَهُ لِفَوَاتِ الْمُوَالاَةِ.
وَنَزْعُ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ كَنَزْعِهِمَا فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالْحَنَابِلَةُ. وَيَلْزَمُهُ نَزْعُ الآْخَرِ. وَقَال الزُّهْرِيُّ: يَغْسِل الْقَدَمَ الَّتِي نُزِعَ الْخُفُّ مِنْهَا، وَيَمْسَحُ الآْخَرَ؛ لأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ فَأَشْبَهَا الرَّأْسَ وَالْقَدَمَ. (11) كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ غَسْل إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَالْمَسْحُ عَلَى الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ خَيَّرَ الْمُتَوَضِّئَ بَيْنَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْهُ. (12)
10 - وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ:
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يُجْزِئُهُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَقَدْ نُقِل عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَابْنُ عُمَرَ مَسَحَ الْيَافُوخَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِهِ فِي حَقِّ كُل أَحَدٍ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْ أَحْمَدَ فِي حَقِّ الرَّجُل: وُجُوبُ الاِسْتِيعَابِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يُجْزِئُهَا مَسْحُ مُقَدَّمِ رَأْسِهَا. (13)
وَفِي مَوْضِعِ الْمَسْحِ وَبَيَانِ الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي مَوْطِنِهِ. ر: مُصْطَلَحَ (وُضُوءٌ) . التَّبْعِيضُ فِي الصَّلاَةِ:
11 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي بَعْضِ أَفْعَال الصَّلاَةِ، وَمِنْهَا مَا يَلِي:
إِذَا قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةُ " الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ " أَيْ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكُل لاَ يُسْقِطُ الْبَعْضَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَاعِدَةُ " مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْعِبَادَةِ، فَمَا هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ - وَهُوَ عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي نَفْسِهِ - فَيَجِبُ فِعْلُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ فِعْل الْجَمِيعِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ ".
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى هَذَا عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ لاَ تَتَعَيَّنُ، وَتُجْزِئُ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. (14)
وَإِذَا وَجَدَ الْمُصَلِّي بَعْضَ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ، فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَطْعًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ الْقِيَامِ " لَزِمَاهُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ إلاَّ بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ أَتَى بِالْمُمْكِنِ؛ لِلْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ، (15) وَلِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. (16)
التَّبْعِيضُ فِي الزَّكَاةِ:
12 - مَنْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنَ النِّصَابِ قَصْدًا لِلتَّنْقِيصِ لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، لَمْ تَسْقُطْ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَوْل إِذَا كَانَ إِبْدَالُهُ أَوْ إِتْلاَفُهُ عِنْدَ قُرْبِ الْوُجُوبِ، وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ فِي أَوَّل الْحَوْل لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَظِنَّةٍ لِلْفِرَارِ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّهُ نَقَصَ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ. (17)
التَّبْعِيضُ فِي الصَّوْمِ:
13 - لاَ يَصِحُّ صِيَامُ بَعْضِ الْيَوْمِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ لاَ يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَوْمٍ شَرْعِيٍّ. (18) وَأَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ أَيَّامِ رَمَضَانَ دُونَ جَمِيعِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . (19)
التَّبْعِيضُ فِي الْحَجِّ:
أ - التَّبْعِيضُ فِي الإِْحْرَامِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيضَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي انْعِقَادِ الإِْحْرَامِ، فَإِذَا قَال: أَحْرَمْتُ بِنِصْفِ نُسُكٍ، انْعَقَدَ بِنُسُكٍ كَامِلٍ، طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: " الْمُضَافِ لِلْجُزْءِ كَالْمُضَافِ لِلْكُل " وَقَاعِدَةِ: " ذِكْرِ بَعْضِ مَا لاَ يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ " وَكَذَلِكَ قَاعِدَةُ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ "
كَمَا أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَتَغْطِيَةِ بَعْضِهِ، وَكَذَلِكَ تَغْطِيَةُ جَمِيعِ الْوَجْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، وَقَلْمُ جَمِيعِ الأَْظْفَارِ أَوْ بَعْضِهَا، وَحَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، أَوْ بَعْضِهِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ بَعْضِ رَأْسِهِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ جَمِيعِهِ، وَهَكَذَا، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: لاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ (20) وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْرُمُ فِعْل بَعْضِهِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} (21) حَرُمَ حَلْقُ بَعْضِهِ. (22) وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَمٍ وَفِدْيَةٍ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْرَامٌ وَحَجٌّ) .
ب - التَّبْعِيضُ فِي الطَّوَافِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ إِنَّمَا شُرِعَ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ تَرْكَ بَعْضِ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ مُبْطِلٌ لَهُ. (23) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ طَافَ دَاخِل الْحِجْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَعَلَيْهِ دَمٌ. (24) أَمَّا التَّبْعِيضُ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ فَلاَ يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْ سَبْعَةٍ كَامِلَةٍ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الأَْشْوَاطَ الأَْرْبَعَةَ رُكْنٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَمُرَّ فِي الاِبْتِدَاءِ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى جَمِيعِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، فَلَوْ حَاذَاهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُ الآْخَرُ مُجَاوِزًا إِلَى جَانِبِ الْبَابِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَهُمُ:
الْجَدِيدُ: أَنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ. وَالْقَدِيمُ: يُعْتَدُّ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالاَنِ، وَأَمَّا لَوْ حَاذَى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ بَعْضَ الْحَجَرِ دُونَ بَعْضِهِ أَجْزَأَهُ، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَقْبِل فِي الصَّلاَةِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ بَعْضَ الْكَعْبَةِ. (25)
التَّبْعِيضُ فِي النُّذُورِ:
16 - مَنْ نَذَرَ صَلاَةَ نِصْفِ رَكْعَةٍ أَوْ صِيَامَ بَعْضِ يَوْمٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا وَزُفَرَ، وَالْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُهُ، وَالتَّكْمِيل فِي الصَّوْمِ يَكُونُ بِصِيَامِ يَوْمٍ كَامِلٍ.
وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَكْفِيهِ إِمْسَاكُ بَعْضِ يَوْمٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّذْرَ يُنَزَّل عَلَى أَقَل مَا يَصِحُّ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَنَّ إِمْسَاكَ بَعْضِ الْيَوْمِ صَوْمٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلاَةِ أَيْضًا. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ إِلاَّ رَكْعَتَانِ.
وَنَقَل الْجَرْهَدِيُّ فِي شَرْحِ الْفَرَائِدِ الْبَهِيَّةِ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالْمُوَافِقُ لِلْقَاعِدَةِ، وَهِيَ: مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ فَاخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ. وَلأَِنَّ أَقَل الصَّلاَةِ الْوَاجِبَةِ بِالشَّرْعِ رَكْعَتَانِ، فَوَجَبَ حَمْل النَّذْرِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ أَقَل الصَّلاَةِ رَكْعَةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَيْ إِذَا نَذَرَ صَلاَةَ نِصْفِ رَكْعَةٍ، أَوْ صِيَامَ بَعْضِ يَوْمٍ لاَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. (26) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (نَذْرٌ، أَيْمَانٌ) .
التَّبْعِيضُ فِي الْكَفَّارَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْكَفَّارَةِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ وَيَصُومَ شَهْرًا، وَيَصُومَ شَهْرًا أَوْ يُطْعِمَ ثَلاَثِينَ مِسْكِينًا، أَوْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِإِطْعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ وَكِسْوَةِ خَمْسَةٍ؛ لأَِنَّ مَا جَازَ فِيهِ التَّخْيِيرُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّبْعِيضُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِمُعَيَّنٍ وَرَضِيَ تَبْعِيضَهُ، وَالْحَقُّ هُنَا لِلَّهِ تَعَالَى. (27)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْكَفَّارَةِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ وَكَسَا خَمْسَةً مُطْلَقًا جَازَ؛ لأَِنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِعِدَّةِ الْوَاجِبِ، فَأَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الإِْطْعَامِ إِنْ كَانَ الإِْطْعَامُ أَرْخَصَ مِنَ الْكِسْوَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلاَ يَجُوزُ. هَذَا فِي إِطْعَامِ الإِْبَاحَةِ (التَّمْكِينُ مِنَ التَّنَاوُل دُونَ التَّزَوُّدِ) أَمَّا إِذَا مَلَّكَهُ الطَّعَامَ فَيَجُوزُ وَيُقَامُ مَقَامَ الْكِسْوَةِ. (28) .
التَّبْعِيضُ فِي الْبَيْعِ
18 - يَجُوزُ التَّبْعِيضُ فِي الْبَيْعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ يَرْجِعُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، أَوْ لاَ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى وُقُوعِ التَّبْعِيضِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّبْعِيضِ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِ الْعَقْدِ وَقَعَ عَلَى مِثْلِيٍّ كَالْمَكِيل، أَوِ الْمَوْزُونِ، أَوِ الْمَذْرُوعِ، أَوْ قِيَمِيٍّ. 19 - فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ قَدْ وَقَعَ عَلَى مِثْلِيٍّ (مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ) وَلَمْ يَكُنْ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ، كَمَنْ بَاعَ صُبْرَةً عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الأَْقَل بِحِصَّتِهِ أَوْ يَفْسَخَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَلأَِنَّهُ وَجَدَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا فَكَانَ لَهُ الْفَسْخُ كَغَيْرِ الصُّبْرَةِ، وَكَنُقْصَانِ الصِّفَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ؛ لأَِنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْبَاقِي مِنَ الْكَيْل بِخِلاَفِ غَيْرِهِ.
ثُمَّ التَّخْيِيرُ عِنْدَ النُّقْصَانِ فِي الْمِثْلِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَقْبِضْ كُل الْمَبِيعِ أَوْ بَعْضَهُ، فَإِنْ قَبَضَ أَيْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنَّقْصِ لاَ يُخَيَّرُ، بَل يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ. وَأَيْضًا هُوَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ كَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِلْمَبِيعِ حَيْثُ يَنْتَفِي التَّغْرِيرُ.
وَأَمَّا الْمَوْزُونُ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ، كَمَا لَوْ بَاعَ لُؤْلُؤَةً عَلَى أَنَّهَا تَزِنُ مِثْقَالاً فَوَجَدَهَا أَكْثَرَ سُلِّمَتْ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ الْوَزْنَ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَصْفٌ بِمَنْزِلَةِ الذُّرْعَانِ فِي الثَّوْبِ. (29) وَلِلتَّفْصِيل ر: (خِيَارٌ) .
20 - وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ قَدْ وَقَعَ عَلَى مَذْرُوعٍ: كَمَنْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ مَثَلاً فَبَانَ أَنَّهُ أَقَل، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: أَخَذَ الْمُشْتَرِي الأَْقَل بِكُل الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ، وَإِنْ بَانَ أَكْثَرَ أَخَذَ الأَْكْثَرَ قَضَاءً بِلاَ خِيَارٍ لِلْبَائِعِ؛ لأَِنَّ الذَّرْعَ فِي الْقِيَمِيَّاتِ وَصْفٌ لِتَعَيُّبِهِ بِالتَّبْعِيضِ. بِخِلاَفِ الْقَدْرِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ، وَالْوَصْفُ لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا بِتَنَاوُل الْمَبِيعِ لَهُ، كَأَنْ يَقُول فِي بَيْعِ الْمَذْرُوعِ: كُل ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ. (30)
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَ النَّاقِصُ يَسِيرًا لَزِمَهُ الْبَاقِي بِمَا يَنُوبُهُ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبَاقِي بَيْنَ أَخْذِهِ بِمَا يَنُوبُهُ أَوْ رَدِّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ زَائِدًا وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْمِائَةِ، فَإِنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَبَى تَسْلِيمَهُ زَائِدًا، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالأَْخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَقَسِّطِ الزَّائِدَ.
وَكَذَلِكَ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. إِحْدَاهُمَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِيَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْسَاكِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَقَال أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ إِمْسَاكُهُ إِلاَّ بِكُل الثَّمَنِ أَوِ الْفَسْخُ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَعِيبَ لَيْسَ لِمُشْتَرِيهِ إِلاَّ الْفَسْخُ، أَوْ إِمْسَاكُهُ بِكُل الثَّمَنِ (31) .
التَّبْعِيضُ فِي الْقِيَمِيَّاتِ:
21 - أَمَّا التَّبْعِيضُ فِي الأَْعْيَانِ الأُْخْرَى فَذَكَرَ صَاحِبُ رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ سَيْفٍ أَوْ إِنَاءٍ وَنَحْوِهِمَا صَحَّ وَصَارَ مُشْتَرَكًا، وَلَوْ عَيَّنَ بَعْضَهُ وَبَاعَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ تَسْلِيمَهُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِقَطْعِهِ، وَفِيهِ نَقْصٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَال.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ جُزْءًا مُعَيَّنًا مِنْ جِدَارٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ شَيْءٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِهَدْمِ مَا فَوْقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً تَتْلَفُ كُلِّيَّةً بِالتَّبْعِيضِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَتْلَفُ جَازَ. (32)
وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَقْضِي بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ. التَّبْعِيضُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ:
22 - إِذَا اشْتَرَى شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا، وَكَانَا مِمَّا يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِحْدَاهُمَا: لَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَدُّهُمَا، أَوْ أَخْذُ الأَْرْشِ مَعَ إِمْسَاكِهِمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل الشَّافِعِيِّ، وَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا قَبْل الْقَبْضِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْقِيصِ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِيَةُ: لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكُ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ. (33)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ رَدِّ الْمَعِيبِ، وَالرُّجُوعِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ مِثْلِيًّا، فَإِنْ كَانَ سِلْعَةً فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يَنُوبُ السِّلْعَةَ الْمَعِيبَةَ مِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ، لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنِ السِّلْعَةُ الْمَعِيبَةُ وَجْهَ الصَّفْقَةِ. (34) فَإِنْ كَانَتْ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إِلاَّ رَدُّ الْجَمِيعِ أَوِ الرِّضَى بِالْجَمِيعِ. (35)
التَّبْعِيضُ فِي الشُّفْعَةِ:
23 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الشَّفِيعَيْنِ لَوْ تَرَكَ شُفْعَتَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلآْخَرِ إِلاَّ أَخْذُ الْجَمِيعِ أَوْ تَرْكُ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْبَعْضِ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لأَِنَّ فِي أَخْذِ الْبَعْضِ إِضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي بِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ بَعْضِ الْمَبِيعِ لِذَلِكَ. فَإِنْ فَعَل سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَتَبَعَّضُ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهَا سَقَطَ جَمِيعُهَا كَالْقِصَاصِ. (36)
وَالأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةُ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ ".
وَقَاعِدَةُ " مَا جَازَ فِيهِ التَّخْيِيرُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّبْعِيضُ " قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي فَتَاوِيهِ: وَالشَّفِيعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَالتَّرْكِ، فَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ بَعْضِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (37)
وَكَذَلِكَ إِذَا وَجَدَ الشَّفِيعُ بَعْضَ ثَمَنِ الشِّقْصِ لاَ يَأْخُذُ قِسْطَهُ مِنَ الْمُثَمَّنِ (الْمَبِيعِ) طِبْقًا لِقَاعِدَةِ " إِنَّ بَعْضَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ قَطْعًا ". ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَعْضُهُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنِ الْبَعْضِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَعْضِ، بِأَنِ اشْتَرَى دَارَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى، وَكَانَ شَفِيعًا لَهُمَا أَوْ لإِِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى. فَاخْتَلَفَ الأَْئِمَّةُ عَلَى آرَاءٍ وَأَقْوَالٍ. (38) مَوْطِنُهَا كِتَابُ (الشُّفْعَةِ) .
التَّبْعِيضُ فِي السَّلَمِ:
24 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَسْلِيمِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِهِ بَطَل الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَبْطُل فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِقِسْطِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَانِ، وَكَلاَمُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَقْتَضِي أَلاَّ يَصِحَّ؛ لِقَوْلِهِ: وَيُقْبَضُ الثَّمَنُ كَامِلاً وَقْتَ السَّلَمِ قَبْل التَّفَرُّقِ. وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ بَعْضُهُ انْفَسَخَ كُلُّهُ. (39) وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالإِْقَالَةِ فِي بَعْضِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهَا؛ لأَِنَّ الإِْقَالَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَكُل مَعْرُوفٍ جَازَ فِي الْجَمِيعِ جَازَ فِي الْبَعْضِ كَالإِْبْرَاءِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ.
وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَبِيعَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ. (40)
وَأَمَّا لَوِ انْقَطَعَ بَعْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحَل، وَالْبَاقِي مَقْبُوضٌ أَوْ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (السَّلَمُ) . (41)
التَّبْعِيضُ فِي الْقَرْضِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الإِْقْرَاضِ.
نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ قَوْلَهُ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الإِْقْرَاضُ بَعْدَ إِفْرَازِهِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَرْضَ الْمُشَاعِ جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ. وَأَمَّا التَّبْعِيضُ فِي إِيفَاءِ الْقَرْضِ كَأَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُوفِيَهُ أَنْقَصَ مِمَّا أَقْرَضَهُ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا أَمْ لاَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لأَِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي الْمِثْل، فَشَرْطُ النُّقْصَانِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ، فَلَمْ يَجُزْ كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ جُعِل لِلرِّفْقِ بِالْمُسْتَقْرِضِ، وَشَرْطُ النُّقْصَانِ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ. (42)
26 - وَأَمَّا تَعْجِيل بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل مِنْ قِبَل الْمَدِينِ فِي مُقَابِل تَنَازُل الْغَرِيمِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ إِنْ تَنَازَل الْمَقْرُوضُ بِلاَ شَرْطٍ مَلْفُوظٍ أَوْ مَلْحُوظٍ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ. ر: مُصْطَلَحَ (أَجَلٌ) (ف: 89) .
التَّبْعِيضُ فِي الرَّهْنِ:
27 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الرَّهْنِ، فَيَجُوزُ رَهْنُ بَعْضِ الْمُشَاعِ عِنْدَهُمْ، رَهَنَهُ عِنْدَ شَرِيكِهِ أَوْ غَيْرِهِ، قَبِل الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمُشَاعِ لِلرَّاهِنِ أَمْ لِغَيْرِهِ. (43) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُقَارِنًا كَنِصْفِ دَارٍ، أَمْ طَارِئًا: كَأَنْ يَرْهَنَ الْجَمِيعَ ثُمَّ يَتَفَاسَخَا فِي الْبَعْضِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الطَّارِئَ لاَ يَضُرُّ، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ شَرِيكِهِ أَمْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُقْسَمُ أَمْ لاَ.
فَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّبْعِيضُ فِيهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل الصُّوَرُ التَّالِيَةُ:
أ - إِذَا كَانَتْ عَيْنًا بَيْنَهُمَا، رَهَنَاهَا عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهْنًا وَاحِدًا.
ب - إِذَا ثَبَتَ الشُّيُوعُ فِيهِ ضَرُورَةً، كَمَا لَوْ جَاءَ بِثَوْبَيْنِ، وَقَال: خُذْ أَحَدَهُمَا رَهْنًا وَالآْخَرُ بِضَاعَةً عِنْدَكَ، فَإِنَّ نِصْفَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَصِيرُ رَهْنًا بِالدَّيْنِ،؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الآْخَرِ، فَيَشِيعُ الرَّهْنُ فِيهِمَا بِالضَّرُورَةِ، فَلاَ يَضُرُّ. (44)
28 - أَمَّا حَقُّ الْوَثِيقَةِ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْسُ لِلتَّوَثُّقِ، فَلاَ يَتَبَعَّضُ بِأَدَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّهْنِ جَمِيعِهِ، فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِكُل الْحَقِّ، وَبِكُل جُزْءٍ مِنْهُ، لاَ يَنْفَكُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَمْ لاَ يُمْكِنُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ رَهَنَ شَيْئًا بِمَالٍ فَأَدَّى بَعْضَ الْمَال، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ بَعْضِ الرَّهْنِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَلاَ يَخْرُجُ شَيْءٌ حَتَّى يُوفِيَهُ آخِرَ حَقِّهِ أَوْ يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ، كَذَلِكَ قَال مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ فَلاَ يَزُول إِلاَّ بِزَوَال جَمِيعِهِ كَالضَّمَانِ وَالشَّهَادَةِ. (45)
وَكَذَلِكَ إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الرَّهْنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ فَبَاقِيهِ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْحَقِّ. (46)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَابِ (الرَّهْنُ) .
التَّبْعِيضُ فِي الصُّلْحِ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الصُّلْحِ، فَالصُّلْحُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّبْعِيضِ إِذَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْمُدَّعِي وَكَانَ أَقَل مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صُلْحٌ) .
التَّبْعِيضُ فِي الْهِبَةِ:
30 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْهِبَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ، فَتَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، بِأَلاَّ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ أَنْ يُقْسَمَ، كَبَيْتٍ وَحَمَّامٍ صَغِيرَيْنِ. وَأَمَّا هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بِلاَ ضَرَرٍ فَلاَ تَصِحُّ هِبَتُهُ مُشَاعًا، وَلَوْ كَانَ لِشَرِيكِهِ؛ وَذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْقَبْضِ الْكَامِل. وَقِيل: يَجُوزُ لِشَرِيكِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ. (47) وَإِنْ وَهَبَ وَاحِدٌ لاِثْنَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يَنْقَسِمُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا. وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. (48)
وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعَاتٌ كَثِيرَةٌ تَفْصِيلُهَا فِي بَابِ الْهِبَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
التَّبْعِيضُ فِي الْوَدِيعَةِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْوَدِيعَةِ بِإِنْفَاقِ بَعْضِهَا أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ بَعْضِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ رَدِّهَا أَوْ رَدِّ مِثْلِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَوْدَعَ شَيْئًا فَأَخَذَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ لَمْ يَزُل الضَّمَانُ عَنْهُ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ مَا أَخَذَهُ وَرَدَّهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَنْفَقَهُ ثُمَّ رَدَّهُ أَوْ مِثْلَهُ ضَمِنَ. (49)
التَّبْعِيضُ فِي الْوَقْفِ:
32 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْوَقْفِ، سَوَاءٌ فِيمَا يَقْبَل الْقِسْمَةَ أَوْ لاَ يَقْبَلُهَا، فَيَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ كَنِصْفِ دَارٍ. (50)
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمُشَاعِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَقْبَل الْقِسْمَةَ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ، وَهُوَ لاَ يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ. وَأَمَّا مَا لاَ يَقْبَلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى، فَيَجُوزُ وَقْفُهُ مُشَاعًا عِنْدَهُ أَيْضًا، إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ؛ لأَِنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى. (51)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَابِ (الْوَقْفِ) .
التَّبْعِيضُ فِي الْغَصْبِ:
33 - يُرَتِّبُ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَبْعِيضِ الْمَال الْمَغْصُوبِ بِتَلَفِ بَعْضِهِ أَوْ تَعْيِيبِهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْغَائِبَ مَضْمُونٌ بِقِسْطِهِ مِنْ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ، وَالنَّقْصُ الْحَاصِل بِتَفَاوُتِ السِّعْرِ فِي الْبَاقِي الْمَرْدُودِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا لاَ يُنْقِصُهُ التَّبْعِيضُ، وَأَمَّا فِيمَا يُنْقِصُهُ - كَأَنْ يَكُونَ ثَوْبًا يُنْقِصُهُ الْقَطْعُ - فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَ الْمَال الْمَغْصُوبُ بِاسْتِهْلاَكِ بَعْضِهِ كَقَطْعِ يَدِ الشَّاةِ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ تَرْكِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَغْصُوبَ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ.، بِخِلاَفِ قَطْعِ طَرَفِ دَابَّةٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ إِذَا اخْتَارَ رَبُّهَا أَخْذَهَا، لاَ يُضَمِّنُهُ شَيْئًا، وَإِلاَّ غَرَّمَهُ كَمَال الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّهُ فَوَّتَ جَمِيعَ مَنَافِعِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا. (52)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى بَعْضِ السِّلْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ: فَالتَّعَدِّي عَلَى بَعْضِ السِّلْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ إِنْ فَوَّتَ الْمَغْصُوبَ يُضْمَنُ جَمِيعُهُ، كَقَطْعِ ذَنَبِ دَابَّةٍ ذِي هَيْبَةٍ، أَوْ أُذُنِهَا، وَكَذَا مَرْكُوبُ كُل مَنْ يُعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ لاَ يَرْكَبُ مِثْل ذَلِكَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْكُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، كَقَلَنْسُوَةِ الْقَاضِي وَطَيْلَسَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْهُ فَإِنْ كَانَ التَّعَدِّي يَسِيرًا، وَلَمْ يَبْطُل الْغَرَضُ مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ التَّعَدِّي كَثِيرًا، وَلَمْ يُبْطِل الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْيَسِيرِ. (53)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي بَابِ (الْغَصْبِ) .
التَّبْعِيضُ فِي الْقِصَاصِ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا لاَ يَتَبَعَّضُ بِالتَّبْعِيضِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ الْقَاتِل كَانَ عَفْوًا عَنْ كُلِّهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْضُ الأَْوْلِيَاءِ، صَحَّ الْعَفْوُ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ، وَلَمْ يَبْقَ لأَِحَدٍ إِلَيْهِ سَبِيلٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ.
لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَتَل قَتِيلاً، فَجَاءَ وَرَثَةُ الْمَقْتُول لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ الْمَقْتُول، وَهِيَ أُخْتُ الْقَاتِل: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ حَقِّي، فَقَال عُمَرُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، عَتَقَ الْقَتِيل.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ قَال: دَخَل رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلاً فَقَتَلَهَا، فَاسْتَعْدَى إِخْوَتُهَا عُمَرَ، فَقَال بَعْضُ إِخْوَتِهَا: قَدْ تَصَدَّقْتُ. فَقَضَى لِسَائِرِهِمْ بِالدِّيَةِ. (54)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَفْوَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لاَ يُسْقِطُ الْقَوَدَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْعَافِي مُسَاوِيًا لِمَنْ بَقِيَ فِي الدَّرَجَةِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ أَنْزَل دَرَجَةً لَمْ يَسْقُطِ الْقَوَدُ بِعَفْوِهِ. فَإِنِ انْضَافَ إِلَى الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الأُْنُوثَةُ كَالْبَنَاتِ مَعَ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ، فَلاَ عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ، فَإِنِ انْفَرَدَ الأَْبَوَانِ فَلاَ حَقَّ لِلأُْمِّ فِي عَفْوٍ وَلاَ قَتْلٍ. (55)
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَقِيل: هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَسْقُطُ بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ؛ لأَِنَّ النَّفْسَ قَدْ تُؤْخَذُ بِبَعْضِ النَّفْسِ بِدَلِيل قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ. (56)
التَّبْعِيضُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقَذْفِ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ (مَا لَمْ يَبْلُغِ الإِْمَامَ) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِذَا عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ، أَوْ بَعْضُ مُسْتَحِقِّي حَدِّ الْقَذْفِ يَكُونُ لِمَنْ بَقِيَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهِ لأَِنَّ الْمَعَرَّةَ عَنْهُ لَمْ تَزُل بِعَفْوِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي الطَّلَبُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ.
وَكَذَلِكَ بِالْعَفْوِ عَنْ بَعْضِهِ لاَ يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ التَّبْعِيضِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ جَلَدَاتٌ مَعْرُوفَةُ الْعَدَدِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ عَفَا بَعْدَ جَلْدِ بَعْضِهَا، سَقَطَ مَا بَقِيَ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَسْقَطَ مِنْهَا فِي الاِبْتِدَاءِ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ حَقِّهِ يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي، وَيُسْتَوْفَى الْبَاقِي؛ لأَِنَّهُ مُتَوَزِّعٌ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُ الْحَدِّ كَالْقِصَاصِ. (57)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى عِنْدَهُمْ هَذَا؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَهُمْ حَقُّ اللَّهِ، فَلاَ يَسْقُطُ كُلُّهُ وَلاَ بَعْضُهُ بِالْعَفْوِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا قَبْل الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي. (58)
تَبْعِيضُ الصَّدَاقِ:
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصَّدَاقِ مُعَجَّلاً وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ كَالثَّمَنِ (59) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَجَلٌ، مَهْرٌ)
وَأَمَّا تَنْصِيفُ الصَّدَاقِ بِالطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول وَالْخَلْوَةِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مَوَاطِنِهِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مَهْرٌ) .
التَّبْعِيضُ فِي الطَّلاَقِ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَتَبَعَّضُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَهْل الْحِجَازِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَهْل الْعِرَاقِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ ذِكْرَ بَعْضِ مَا لاَ يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِهِ، فَذِكْرُ بَعْضِ الطَّلاَقِ كَذِكْرِ كُلِّهِ، وَجُزْءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ تَطْلِيقَةٌ. وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ سَوَاءٌ أَبْهَمَ: بِأَنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ.، أَوْ بَيَّنَ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ رُبُعَ طَلْقَةٍ، وَهَكَذَا؛ لأَِنَّ ذِكْرَ مَا لاَ يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِهِ.
التَّبْعِيضُ فِي الْمُطَلَّقَةِ:
38 - إِذَا أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى جُزْءٍ مِنْهَا: سَوَاءٌ أَضَافَهُ إِلَى بَعْضِهَا شَائِعًا وَأَبْهَمَ فَقَال: بَعْضُكِ وَجُزْؤُكِ طَالِقٌ.، أَوْ نَصَّ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، أَوْ أَضَافَهُ إِلَى عُضْوٍ: بَاطِنًا كَانَ كَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ، أَوْ ظَاهِرًا كَالْيَدِ وَالرِّجْل، طَلُقَتْ كُلُّهَا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - فَفَرَّقُوا بَيْنَ إِضَافَةِ الطَّلاَقِ إِلَى جُمْلَتِهَا، أَوْ إِلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا كَالرَّقَبَةِ، أَوِ الْعُنُقِ أَوِ الرُّوحِ، أَوِ الْبَدَنِ أَوِ الْجَسَدِ، أَوْ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَنِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا، وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ كَالْيَدِ وَالرِّجْل حَيْثُ تَطْلُقُ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى دُونَ الثَّانِيَةِ. (60)
وَالتَّبْعِيضُ فِي الطَّلاَقِ مِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ " مَا لاَ يَقْبَل التَّبْعِيضَ فَاخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ ".
التَّبْعِيضُ فِي الْوَصِيَّةِ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ فِي الْوَصِيَّةِ، إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ. كَمَنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ أَوْ سَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَالْبَيَانُ إِلَى الْوَرَثَةِ يُقَال لَهُمْ: أَعْطُوهُ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ، وَالْوَصِيَّةُ لاَ تَمْتَنِعُ بِالْجَهَالَةِ وَمِثْلُهُ الْحَظُّ، وَالشِّقْصُ، وَالنَّصِيبُ، وَالْبَعْضُ (لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ حَقِيقَتُهَا تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي جُزْءٍ مِنْ حُقُوقِهِ) . (61)
كَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ: كَمَنْ أَوْصَى بِقُطْنِهِ لِرَجُلٍ، وَبِحَبِّهِ لآِخَرَ، أَوْ أَوْصَى بِلَحْمِ شَاةٍ مُعَيَّنَةٍ لِرَجُلٍ وَبِجِلْدِهَا لآِخَرَ، أَوْ أَوْصَى بِحِنْطَةٍ فِي سُنْبُلِهَا لِرَجُلٍ، وَبِالتِّبْنِ لآِخَرَ.
جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، وَعَلَى الْمُوصَى لَهُمَا أَنْ يَدُوسَا الْحَبَّ، أَوْ يَسْلُخَا الشَّاةَ، أَوْ يَحْلِجَا الْقُطْنَ. وَلَوْ بَانَتِ الشَّاةُ حَيَّةً فَأُجْرَةُ الذَّبْحِ عَلَى صَاحِبِ اللَّحْمِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ التَّذْكِيَةَ لأَِجْل اللَّحْمِ لاَ الْجِلْدِ. (62)
وَفِي الْمُغْنِي: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَاتَمٍ وَلآِخَرَ بِفَصِّهِ صَحَّ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَأَيُّهُمَا طَلَبَ قَلْعَ الْفَصِّ مِنَ الْخَاتَمِ أُجِيبَ إِلَيْهِ، وَأُجْبِرَ الآْخَرُ عَلَيْهِ. (63)
التَّبْعِيضُ فِي الْعِتْقِ:
40 - مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا مَمْلُوكًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: فَفِي الْحَالَةِ الأُْولَى:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْعْتَاقَ لاَ يَتَجَزَّأُ وَلاَ يَتَبَعَّضُ بِالتَّبْعِيضِ؛ لأَِنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ السِّرَايَةَ، فَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ مَمْلُوكٍ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مُعَيَّنًا كَرَأْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ، أَوْ جُزْءًا مُشَاعًا كَنِصْفِهِ، أَوْ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ، عَتَقَ الرَّقِيقُ كُلُّهُ. (64)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الإِْعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ، سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيهِ لَهُ، أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا. (65)
41 - وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا، وَأَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ أَوْ بَعْضَهَا، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا:
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ﵃: عَتَقَ مَا عَتَقَ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا (66) . وَبِهِ قَال الْبَتِّيُّ: وَاسْتَدَل بِمَا رَوَى ابْنُ التَّلْبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَلَمْ يَضْمَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ. (67)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ مُوسِرًا عَتَقَ كُلَّهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبَهُ فَقَطْ وَلاَ يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَهُ. (68) لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ شِرْكًا، أَوْ قَال: نَصِيبًا، وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْل فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. (69)
وَهَذَا قَوْل إِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ جَرِيرٍ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ إِلاَّ الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الإِْعْسَارِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالأَْوْزَاعِيِّ (70) . لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَعْتَقَ شُقَيْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ (71)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ. (72)
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إِلاَّ الضَّمَانُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ (73) .
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح المنير، وتاج العروس مادة: " بعض ".
(2) مختار الصحاح، ومحيط المحيط، ولسان العرب المحيط.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 189.
(4) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 153، 175، والأشباه والنظائر لابن نجيم 189.
(5) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 258، 259.
(6) حديث: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 ط السلفية) ومسلم (2 / 975 ط الحلبي) .
(7) الأشباه والنظائر للسيوطي 142، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 227، 231.
(8) ابن عابدين 1 / 172 وحاشية الدسوقي 1 / 149، وروضة الطالبين 1 / 96، والمغني 1 / 237، 238، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142. وقواعد ابن رجب 11، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 228، 229، 259.
(9) المراجع السابقة.
(10) ابن عابدين 1 / 171، وحاشية الدسوقي 1 / 166، والمغني 1 / 258.
(11) ابن عابدين 1 / 183، 184، وحاشية الدسوقي 1 / 145، وروضة الطالبين 1 / 132، والمغني 1 / 288، 289.
(12) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 259، وروضة الطالبين 1 / 133.
(13) ابن عابدين 1 / 67، وقليوبي وعميرة 1 / 49، وشرح الزرقاني 1 / 59، والمغني 1 / 125، 126.
(14) ابن عابدين 1 / 300، والمغني 1 / 479.
(15) ابن عابدين 1 / 277، 509، وحاشية الدسوقي 1 / 220، 258، وروضة الطالبين 1 / 231، 233، 248، 289، والمغني 1 / 471، 495، 595، 596.
(16) حديث: " إذا أمرتكم. . . " سبق تخريجه (ف 6) .
(17) ابن عابدين 3 / 21، والدسوقي 1 / 473، وروضة الطالبين 2 / 190، والمغني 2 / 979.
(18) المواهب السنية على هامش الأشباه والنظائر للسيوطي 349، وقواعد ابن رجب 10.
(19) سورة البقرة / 185.
(20) حديث: " لا تخمروا رأسه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 136 ط السلفية) ومسلم (2 / 865 ط الحلبي) .
(21) سورة البقرة 196.
(22) ابن عابدين 2 / 162، 201، 204؟ والحطاب 3 / 140، 164، وروضة الطالبين - 3 / 125، 127، 136، والمغني 3 / 319، 324.
(23) الحطاب 3 / 71، 72، وروضة الطالبين 3 / 80، 81، والمغني 3 / 382، 383.
(24) ابن عابدين 2 / 167.
(25) روضة الطالبين 3 / 80، والمغني 3 / 371.
(26) الحطاب 2 / 451، وروضة الطالبين 3 / 305، 313، والمغني 9 / 11، والأشباه للسيوطي ص144.
(27) الحطاب 3 / 274، وروضة الطالبين 8 / 310، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 255.
(28) ابن عابدين 3 / 61، والمغني 8 / 759، وقواعد ابن رجب 229.
(29) ابن عابدين 4 / 30، ومجلة الأحكام العدلية 2 / 224، 225، ومنح الجليل 2 / 694.
(30) ابن عابدين 4 / 30، والدسوقي 3 / 135، ومنح الجليل 2 / 505.
(31) ابن عابدين 4 / 109، وروضة الطالبين 3 / 357، والمغني 4 / 144، 146، 147، ومنح الجليل 2 / 694 - 505.
(32) روضة الطالبين 4 / 30، والدسوقي 3 / 13، 14، 135، ومنح الجليل 2 / 694.
(33) ابن عابدين 4 / 93، وروضة الطالبين 3 / 489، والمغني 4 / 177، 179.
(34) الحطاب 4 / 495.
(35)
(36) بدائع الصنائع 5 / 25، والفروق للكرابيسي 2 / 119، والحطاب 5 / 327، 328، وروضة الطالبين 5 / 106، والمغني 5 / 366.
(37) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 256.
(38) بدائع الصنائع 5 / 29، والحطاب 5 / 327، 328.
(39) ابن عابدين 4 / 208، 209، والحطاب 4 / 514، وروضة الطالبين 3 / 421، 422، 4 / 3، والمغني 4 / 328، ونيل المآرب 1 / 365.
(40) المغني 4 / 336.
(41) روضة الطالبين 4 / 12، 3 / 422، والمغني 4 / 327، وابن عابدين 4 / 209.
(42) ابن عابدين 3 / 353، والمغني 4 / 357.
(43) الحطاب 5 / 2، وروضة الطالبين 4 / 38، والمغني4 / 316.
(44) ابن عابدين 5 / 315، 317.
(45) ابن عابدين 5 / 321، وروضة الطالبين 4 / 109، والمغني 4 / 399، 5 / 367، 373، 5 / 655.
(46) نيل المآرب 1 / 373.
(47) ابن عابدين 4 / 510، والحطاب 9 / 60، وروضة الطالبين 5 / 367، 373.
(48) المغني 5 / 655، وروضة الطالبين 5 / 373.
(49) ابن عابدين 4 / 498، والحطاب 5 / 253، وروضة الطالبين 6 / 339، والمغني 6 / 400.
(50) ابن عابدين 3 / 373، والحطاب 6 / 18، وروضة الطالبين 5 / 314، والمغني 5 / 538، 643.
(51) ابن عابدين 3 / 373، والمغني 5 / 643، 5 / 260، 361.
(52) ابن عابدين 5 / 123، والفروق للكرابيسي 2 / 8.
(53) الحطاب 5 / 293.
(54) بدائع الصنائع 7 / 247، وروضة الطالبين 9 / 239، 242، والمغني 7 / 743 وما بعدها، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 153، والأشباه والنظائر للسيوطي ص143، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 189.
(55) الحطاب 6 / 253.
(56) المغني 7 / 743.
(57) الحطاب 6 / 305، وروضة الطالبين 8 / 326، والمغني 8 / 234، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 144.
(58) ابن عابدين 3 / 173.
(59) ابن عابدين 2 / 358، 359، والمغني 6 / 693، 694، والحطاب 3 / 509، 513، 514، وروضة الطالبين 7 / 259، وأسنى المطالب 3 / 202.
(60) ابن عابدين 2 / 435، 436، 437، والحطاب 4 / 62، 65، وروضة الطالبين 8 / 63، 64، 85، 86، والمغني 7 / 242، 243، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 74.
(61) ابن عابدين 5 / 429، والحطاب 6 / 364، وروضة الطالبين 6 / 112، والمغني 6 / 63، 64.
(62) ابن عابدين 5 / 429.
(63) ابن عابدين 5 / 425، والحطاب 6 / 372، والمغني 6 / 64، وروضة الطالبين 6 / 150.
(64) بدائع الصنائع 4 / 86، وفتح القدير 4 / 255، وابن عابدين 3 / 15، والحطاب 6 / 336، وروضة الطالبين 12 / 110، 111، وكشاف القناع 4 / 515، 516، والمغني 9 / 335، 336.
(65) فتح القدير 4 / 355، وبدائع الصنائع 4 / 86، وابن عابدين 3 / 15.
(66) بدائع الصنائع 4 / 86، والمغني 9 / 336.
(67) حديث: " أن رجلا أعتق نصيا له. . . " أخرجه أبو داود 4 / 259 ط عزت عبيد دعاس وحسنه ابن حجر في الفتح 5 / 159 ط السلفية.
(68) الحطاب 6 / 336، وروضة الطالببن 12 / 112، وكشاف القناع 4 / 515، 516، والمغني 9 / 341، 336.
(69) حديث: " من أعتق شقصا له من عبد أو شركا نصيبا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 132 ط السلفية) ومسلم (3 / 1286 ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(70) فتح القدير 4 / 260، وبدائع الصنائع 4 / 86، والمغني 9 / 341.
(71) حديث: " من أعتق شقيصا له في عبد مملوك، فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال. . . " أخرجه أبو داود (4 / 254 ط عزت عبيد دعاس) وأصله في صحيح البخاري (الفتح 5 / 156 ط السلفية) .
(72) فتح القدير 4 / 259.
(73) بدائع الصنائع 4 / 86، وفتح القدير 4 / 263.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 75/ 10
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".