البحث

عبارات مقترحة:

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

المقتدر

كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...

الحليم

كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...

بيوت الصحابة (3) خديجة رضي الله عنها

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات النكاح - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. موقف خديجة رضي الله عنها مما حدث لزوجها رسول الله عند نزول جبريل .
  2. وقوفها مع زوجها رسول الله بمالها ونصرتها له .
  3. خديجة أم جميع أولاد رسول الله ما عدا إبراهيم .
  4. حفظ رسول الله لمعروف زوجته خديجة في حياتها وبعد مماتها. .

اقتباس

إِنَّ أُمَّنَا خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِثَالٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَلْهِمَ مِنْهَا دُرُوسًا فِي الطُّهْرِ وَالْعِفَّةِ، وَحُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَإِتْقَانِ فَنِّ التَّبَعُّلِ، وَإِجَادَةِ حَلِّ مُشْكِلَاتِ الزَّوْجِ، وَمَعْرِفَةِ طُرُقِ التَّخْفِيفِ عَنْ أَحْزَانِهِ وَهُمُومِهِ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا صَلَحَتْ أَخْلَاقُهَا، وَزَكَتْ أَعْمَالُهَا، وَرَجَحَ عَقْلُهَا، وَطَابَتْ خِلَالُهَا، وَفَرَشَتْ فِي طَرِيقِ زَوْجِهَا مَوَدَّتَهَا وَحَنَانَهَا، وَقَدَّمَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عَوْنَهَا وَطَاعَتَهَا؛ فَهِيَ جَنَّةٌ مِنْ جَنَّاتِ الدُّنْيَا، وَهَدِيَّةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- أَهْدَاهَا لِزَوْجِهَا، وَنَفْحَةُ مِسْكٍ يَشْتَمُّهَا فِي بَيْتِهِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ.

تِلْكَ الْخِلَالُ الْعَذْبَةُ، وَالشِّيَمُ النَّبِيلَةُ تَجَسَّدَتْ فِي زَوْجَةِ نَبِيِّنَا الْأُولَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

خَدِيجَةُ شَمْسُ سَيِّدِنَا الْأَمِينِ

وَمَأْوَى قَلْبِهِ الزَّاكِي الْمَصُونِ

وَرَوْضَتُهُ الْأَنِيَقَةُ فِي هَوَاهَا

يَشَمُّ شَذَا السَّعَادَةِ كُلَّ حِينِ

عِبَادَ اللهِ: "إِنَّ أُمَّنَا خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِثَالٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَلْهِمَ مِنْهَا دُرُوسًا فِي الطُّهْرِ وَالْعِفَّةِ، وَحُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَإِتْقَانِ فَنِّ التَّبَعُّلِ، وَإِجَادَةِ حَلِّ مُشْكِلَاتِ الزَّوْجِ، وَمَعْرِفَةِ طُرُقِ التَّخْفِيفِ عَنْ أَحْزَانِهِ وَهُمُومِهِ، وَقِرَاءَةِ تَارِيخِهِ لِلْإِفَادَةِ مِنْهُ فِي إِصْلَاحِ حَاضِرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، وَهِيَ نَمُوذَجٌ فِي التَّضْحِيَةِ الْفَرِيدَةِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ، وَتَقْدِيمِ الدَّعْمِ الْمَادِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ لِلدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالِاسْتِجَابَةِ لَهَا مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ أَوْ مُجَادَلَةٍ.

إِنَّ حَيَاةَ أُمِّنَا خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَادَّةٌ غَنِيَّةٌ بِأَسْبَابِ الصَّلَاحِ لِلْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَهِيَ جَامِعَةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَتَخَرَّجَ بِالنَّجَاحِ مِنْهَا مَنْ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً صَالِحَةً، وَدَاعِيَةً مُوَفَّقَةً، وَعَابِدَةً زَاهِدَةً".

وَفِي مَوْقِفِهَا الْخَالِدِ مِمَّا حَصَلَ لِلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق:1-5]؛ مَا يَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهَا وَرَجَاحَةِ عَقْلِهَا.

فَتَرْوِي أُمُّنَا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- خَبَرَ بَدْءِ الْوَحْيِ، إِلَى أَنْ قَالَتْ: فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي"؛ فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا! وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ؛ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَفِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- يَتَجَلَّى لَنَا "أَثَرُ الزَّوْجَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي تُطَمْئِنُ زَوْجَهَا، وَتُهَدِّئُ مِنْ رَوْعِهِ، وَتَرْبِطُ عَلَى جَأْشِهِ بِكَلِمَاتِ التَّسْكِينِ وَالتَّأْمِينِ عِنْدَ خَوْفِهِ وَفَزَعِهِ، وَفِي هَذَا فَضْلٌ عَظِيمٌ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-".

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "كَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ؛ فَخَفَّفَ اللهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَانَ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدٍّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ؛ إِلَّا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا، فَتُثَبِّتُهُ وَتُخَفِّفُ عَنْهُ وَتُصَدِّقُهُ، وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النَّاسِ -رَحِمَهَا اللهُ-".

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ وَقَفَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ مَعَ زَوْجِهَا رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مَوَاقِفَ مُؤَازَرَةٍ وَسُرُورٍ، خَلَّدَتْ لَهَا تِلْكَ الْمَوَاقِفُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ مِنْ رَبِّهَا، وَمِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.

فَإِلَى جَانِبِ عَوْنِهَا الْمَعْنَوِيِّ لِنُصْرَةِ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- سَانَدَتْهُ بِعَوْنِهَا الْمَادِّيِّ؛ فَبَذَلَتْ فِي نُصْرَتِهِ مَالَهَا -وَكَانَتِ امْرَأَةً تَاجِرَةً كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-؛ فَاسْتَعَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ مِنْهَا، وَشَكَرَ لَهَا هَذَا الْفَضْلَ الْعَظِيمَ.

فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا خَيْرًا مِنْهَا! قَالَ: "مَا أَبْدَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ).

فَلَا غَرْوَ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَنَالَ رُضْوَانَ اللهِ وَجَنَّتَهَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ؛ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "النُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ: "مِنْ قَصَبٍ" وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ لُؤْلُؤٍ: أَنَّ فِي لَفْظِ الْقَصَبِ مُنَاسَبَةً؛ لِكَوْنِهَا أَحْرَزَتْ قَصَبَ السَّبْقِ بِمُبَادَرَتِهَا إِلَى الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهَا؛ وَلِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي الْقَصَبِ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى مِنْ جِهَةِ اسْتِوَاءِ أَكْثَرِ أَنَابِيبِهِ، وَكَذَا كَانَ لِخَدِيجَةَ مِنَ الِاسْتِوَاءِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا؛ إِذْ كَانَتْ حَرِيصَةً عَلَى رِضَاهُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا مَا يُغْضِبُهُ قَطُّ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهَا"(فَتْحُ الْبَارِي). فَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ عَاشَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ حَيَاةً أُسَرِيَّةً سَعِيدَةً، وَزَادَ فِي سَعَادَتِهَا سَعَادَةً: كَوْنُ جَمِيعِ أَوْلَادِهِ مِنْهَا -ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ- عَدَا إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ مَارِيَةَ.

فَقَدْ رُزِقَ مِنْ خَدِيجَةَ أَوَّلًا: الْقَاسِمُ، ثُمَّ زَيْنَبُ، ثُمَّ عَبْدُ اللهِ، ثُمَّ رُقَيَّةُ، ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

فَأَمَّا الْقَاسِمُ فَهُوَ أَوَّلُ وَلَدِهِ، وَبِهِ كَانَ يُكْنَى، وَقَدْ مَاتَ بِمَكَّةَ صَغِيرًا. وَأَمَّا زَيْنَبُ فَهِيَ أَكْبَرُ بَنَاتِهِ وَأَوَّلُ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ، وُلِدَتْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِمُدَّةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي سَنَةِ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ. وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ -وَيُلَقَّبُ بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرِ- فَقَدْ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَمَاتَ فِيهَا صَغِيرًا. وَأَمَّا رُقَيَّةُ فَقَدْ وُلِدَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَمَاتَتْ مَرْجِعَ النَّاسِ مِنْ بَدْرٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا أُمُّ كُلْثُومٍ فَقَدْ وُلِدَتْ بِمَكَّةَ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ.

وَأَمَّا فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَكَانَتْ آخِرَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِلَادَةً وَوَفَاةً -أَيْضًا-؛ فَقَدْ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ.

فَلَا نَعْجَبُ بَعْدَ هَذَا مِنْ عِظَمِ حُبِّ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأُمِّ أَوْلَادِهِ، وَفِي هَذَا دَرْسٌ عَظِيمٌ لِلْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ وَلِلزَّوْجَاتِ: أَنَّ صَلَاحَهُنَّ وَاسْتِقَامَةَ أَمْرِهِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ وَحُسْنَ تَبَعُّلِهِنَّ يُرْضِي اللهَ عَنْهُنَّ، وَيُرْضِي عَنْهُنَّ أَزْوَاجَهُنَّ، وَيُبْقِي لَهُنَّ ذِكْرَى حَسَنَةً، كَمَا سَيَأْتِي مَعَنَا.

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُصْلِحَنَا، وَيُصْلِحَ زَوْجَاتِنَا، وَيَرْزُقَنَا الذُّرِّيَّةَ الصَّالِحَةَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ رَحَلَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- إِلَى رَبِّهَا فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِلْبَعْثَةِ، تَارِكَةً فِي قَلْبِ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ حُبِّهَا وَإِجْلَالِهَا مَا لَمْ تَسْتَطِعِ الْأَيَّامُ وَالنِّسَاءُ مِنْ بَعْدِهَا مَحْوَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى

مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ

كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى 

وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَفِظَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعْرُوفَهَا فِي حَيَاتِهَا وَبَعْدَ مَمَاتِهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَظَلَّ حُبُّهَا رَاسِخًا فِي فُؤَادِهِ حَيَّةً وَمَيِّتَةً، حَتَّى قَالَ: "إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَمِنْ رَدِّهِ الْجَمِيلَ لَهَا: حُزْنُهُ الْعَمِيقُ عَلَى مَوْتِهَا.

وَكَذَلِكَ: كَثْرَةُ ذِكْرِهَا، وَحُسْنُ صِلَتِهِ صَدِيقَاتِهَا؛ بِرًّا بِهَا؛ فَقَدْ "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا -أَيْضًا-: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَقَالَ: لَقَدْ فُضِّلَتْ خَدِيجَةُ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي كَمَا فُضِّلَتْ مَرْيَمُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: فِي حَيَاةِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعَ زَوْجِهَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-نَمُوذَجُ اقْتِدَاءٍ مُشْرِقٍ لِلْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ فَالزَّوْجَةُ تَتَعَلَّمُ مِنْهَا تَخْفِيفَ الْأَحْزَانِ عَنْ زَوْجِهَا، وَحُسْنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمُلِمَّاتِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْأُسْرَةِ، وَبَذْلَهَا مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ وَسَائِلِ إِسْعَادِهِ وَنَيْلِ رِضَاهُ.

وَالزَّوْجُ يَتَعَلَّمُ الْحِرْصَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيلِ لِلزَّوْجَةِ الَّتِي وَقَفَتْ بِجَانِبِهِ، وَكَانَتْ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِهِ، وَيَتَعَلَّمُ حُسْنَ الْعَهْدِ لَهَا وَالثَّنَاءَ عَلَيْهَا، وَحِفْظَ مَعْرُوفِهَا.

رَزَقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ حَيَاةً أُسَرِيَّةً سَعِيدَةً، تَزْهُو بِالْأَعْمَالِ الرَّشِيدَةِ وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].