البحث

عبارات مقترحة:

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

بيوت الصحابة (2) الزبير بن العوام رضي الله عنه

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات النكاح - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. عظمة الأبناء من عظمة أمهاتهم .
  2. أسرة الزبير بن العوام وتضحياتها وفضائلها .
  3. غيرة الزبير بن العوام -رضي الله عنه- على أهله .
  4. طاعة أسماء -رضي الله عنها- لزوجها الزبير وخدمتها له .
  5. حشمة أسماء رضي الله عنها وحرصها على الستر .
  6. أثر أسرة الزبير المباركة على أولادهم وأحفادهم. .

اقتباس

لَقَدْ كَانَ الزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الزَّوْجِ الصَّالِحِ، الَّتِي يُحْفَظُ بِهَا شَرَفُ الْأُسْرَةِ وَعِزُّهَا، وَبَقَاؤُهَا عَلَى مُلَازَمَةِ الصَّلَاحِ وَمُعَانَقَةِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ: الْغَيْرَةُ، وَهِيَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّجُولَةِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَيْنَ الْأُسْرَةِ وَبُلُوغِ حُسْنِ السُّمْعَةِ، وَالْخُلُودِ عَلَى أَلْسِنَةِ الثَّنَاءِ؛ مَسَافَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَصِدْقِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللهِ وَمَعَ خَلْقِهِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الْحَمِيدَةِ لَا يَسْلُكُهَا إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ الْأُسَرِ، خَاصَّةً فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي غَلَبَ فِيهَا حُبُّ الدُّنْيَا، وَمُحَاكَاةُ الْمُجْتَمَعَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمَةِ.

فَقَدْ جَعَلَتْ تِلْكَ الْأُسَرُ الْكَثِيرَةُ قُدْوَتَهَا فِي حَيَاتِهَا أُسَرًا لَا تَعِيشُ إِلَّا لِشَهَوَاتِهَا، وَلَا تَحْيَا إِلَّا لِتَحْقِيقِ رَغَبَاتِهَا، بَعِيدَةً عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.

وَقَلِيلٌ مِنَ الْأُسَرِ تَسْتَمِدُّ أُسْلُوبَ حَيَاتِهَا مِنْ مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِ وَقِيَمِهِ السَّامِيَةِ؛ مُقْتَدِيَةً بِأُسَرٍ مِنَ الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ الَّتِي رَضَعَتِ الدِّينَ مِنْ غَيْرِ وَسَائِطَ، وَتَرَبَّتْ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَهُنَا يَحِقُّ لِهَذِهِ الْأُسَرِ الَّتِي تَتَأَسَّى بِتِلْكَ الْأُسَرِ الطَّاهِرَةِ فِي حَيَاتِهَا أَنْ تُنْعَتَ بِأَنَّهَا أُسَرٌ سَعِيدَةٌ، وَلَوْ عَاشَتْ فِي مُجْتَمَعِ الشَّقَاءِ الْحَضَارِيِّ الْمُعَاصِرِ.

إِنَّنَا الْيَوْمَ -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْفُضَلَاءُ- مَعَ نَمُوذَجٍ مِنَ الْأُسَرِ الَّتِي اسْتَقَتِ الْإِسْلَامَ غَضًّا طَرِيًّا عَنْ رَسُولِ اللهِ، فَنَقَلَتْهُ وَاقِعًا مَعِيشًا فِي فُصُولِ حَيَاتِهَا، وَتَقَلُّبَاتِ عَيْشِهَا، نَعْرِضُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ بَعْضَ جَوَانِبِهَا الْأُسَرِيَّةِ؛ لِتَكُونَ قُدْوَةً لَنَا مَعَ أُسَرِنَا، هَذِهِ الْأُسْرَةُ الشَّرِيفَةُ هِيَ أُسْرَةُ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ: الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْأُمَّ مَصْنَعُ الرِّجَالِ، وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: "وَرَاءَ كُلِّ عَظِيمٍ امْرَأَةٌ"؛ فَالزُّبَيْرُ هُوَ ابْنُ صَفِيَّةَ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ رَبَّتْهُ تَرْبِيَةً رُجُولِيَّةً، وَأَعَدَّتْهُ إِعْدَادًا خَاصًّا لِمُسْتَقْبَلِهِ الَّذِي تَنْشُدُهُ لَهُ، وَسَارَعَتْ بِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُنْذُ صِغَرِهِ.

وَقَدْ كَانَتْ تَأْمُلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ شُجَاعًا بَاسِلاً، فَتَحَقَّقَ أَمَلُهَا فِيهِ؛ فَقَدْ صَارَ فِي الْإِسْلَامِ بَطَلاً مِنْ أَبْطَالِهِ، فَلَا يَقِفُ أَمَامَهُ بَطَلٌ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَّا أَطْفَأَ أَنْفَاسَهُ.

وَكَانَ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَمِنْ خُلَّصِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ وَأَصْفِيَائِهِ؛ نَظَرًا لِدَوْرِهِ الْمَشْهُودِ فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟" يَوْمَ الْأَحْزَابِ، قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟". قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَأَمَّا زَوْجَةُ الزُّبَيْرِ فَهِيَ: أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، وَالَّتِي كَانَتْ لَهَا دَوْرٌ بَارِزٌ فِي الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ سَبَبًا لِفَرَحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَظِيمِ بِمَوْلُودِهَا عَبْدِ اللهِ، أَوَّلَ مَقْدَمِهَا الْمَدِينَةَ.

فَقَدْ جَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ المَدِينَةَ فَنَزَلْتُ قُبَاءً، فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ، ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَّكَ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ؛ فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا؛ لِأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ اليَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلاَ يُولَدُ لَكُمْ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ الزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الزَّوْجِ الصَّالِحِ، الَّتِي يُحْفَظُ بِهَا شَرَفُ الْأُسْرَةِ وَعِزُّهَا، وَبَقَاؤُهَا عَلَى مُلَازَمَةِ الصَّلَاحِ وَمُعَانَقَةِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ: الْغَيْرَةُ، وَهِيَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّجُولَةِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "الْمُؤْمِنُ يَغَارُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَقَدْ كَانَتْ أَسْمَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا. وَتَأَمَّلُوا مَعِي -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْغَيَارَى- فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ، وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي المَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: إِخْ إِخْ. لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ، وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي".

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَتْ أَسْمَاءُ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- نَمُوذَجًا لِلزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، الْحَرِيصَةِ عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا، وَخِدْمَتِهَا لَهُ، وَإِدْخَالِ الرِّضَا عَلَيْهِ، وَإِبْعَادِ غَضَبِهِ عَنْهَا؛ لِعِلْمِهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِكَوْنِ زَوْجِهَا الزُّبَيْرِ قَدْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِرَفْعِ رَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الْكَرِيمِ فِي مُهِمَّاتِهِ الَّتِي يَبْعَثُهُ بِهَا، وَأَسْمَاءُ بِلَا شَكٍّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)[النساء: 34]؛ فَلِذَلِكَ عَمِلَتْ أَعْمَالاً تَدُلُّ عَلَى غَايَاتِهَا الْكَرِيمَةِ هَذِهِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: "كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ".

وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ؛ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: "ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا أَعْطَاهَا الزُّبَيْرُ لِنَفْسِهَا بِسَبَبِ نَفَقَةٍ وَغَيْرِهَا، أَوْ مِمَّا هُوَ مِلْكُ الزُّبَيْرِ، وَلَا يَكْرَهُ الصَّدَقَةَ مِنْهُ، بَلْ رَضِيَ بِهَا، عَلَى عَادَةِ غَالِبِ النَّاسِ... وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ" مَعْنَاهُ: مِمَّا يَرْضَى بِهِ الزُّبَيْرُ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّ لَكِ فِي الرَّضْخِ مَرَاتِبَ مُبَاحَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَكُلُّهَا يَرْضَاهَا الزُّبَيْرُ، فَافْعَلِي أَعْلَاهَا، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ: مَا اسْتَطْعَتِ مِمَّا هُوَ مِلْكٌ لَكِ"(شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ).

وَهَذَانِ الْمَوْقِفَانِ وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ مَوَاقِفِ أَسْمَاءَ مَعَ زَوْجِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يُرَبِّي الْأُسَرَ عَلَى أَسْبَابِ اسْتِقْرَارِهَا وَسَعَادَتِهَا، أَلَا وَهُوَ: سَعْيُ الزَّوْجَةِ دَائِمًا فِي طَاعَةِ زَوْجِهَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الزَّوْجِ، وَأَلَّا تَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُبَحْ لَهَا مِنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَالْحِرْصُ عَلَى سُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ حُكْمِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالزَّوْجِ؛ حَتَّى لَا تَرْتَكِبَ الزَّوْجَةُ مَعْصِيَةً فِي حَقِّ اللهِ أَوْ حَقِّ زَوْجِهَا.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِمَّا ظَهَرَتْ بِهِ بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ الْيَوْمَ: لِبَاسُهُنَّ الْأَلْبِسَةَ الرَّقِيقَةَ، الْوَصَّافَةَ، وَالْمُحَجِّمَةَ لِلْأَعْضَاءِ، وَالْمُبْدِيَةَ لِلْمَفَاتِنِ، وَالَّتِي تَدُلُّ -بِلَا رَيْبٍ- عَلَى الْجَهْلِ، وَقِلَةِ الدِّيَانَةِ، وَضَعْفِ الْحَيَاءِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ فَإِنَّهَا لَا تَلْبَسُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا إِلَّا اللِّبَاسَ السَّاتِرَ لَهَا، الَّذِي لَا يَصِفُ أَعْضَاءَ جَسَدِهَا، وَلَا يُبْدِي مِنْ مَفَاتِنِهَا شَيْئًا وَلَا يَصِفُهَا؛ فَإِلَى أُولَئِكَ النِّسَاءِ هَذِهِ الْقِصَّةُ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْ جَاوَزَتِ الثَّمَانِينَ مِنْ عُمُرِهَا، وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهَا:

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِكِسْوَةٍ مِنْ ثِيَابٍ مَرْوِيَّةٍ وَقُوهِيَّةٍ رِقَاقٍ عِتَاقٍ، بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهَا، قَالَ: فَلَمَسَتْهَا بِيَدِهَا ثُمَّ قَالَتْ: "أُفٍّ! رُدُّوا عَلَيْهِ كِسْوَتَهُ. قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا أُمَّهْ، إِنَّهُ لَا يَشِفُّ. قَالَتْ: إِنَّهَا إِنْ لَمْ تَشِفَّ فَإِنَّهَا تَصِفُ. فَاشْتَرَى لَهَا ثِيَابًا مَرْوِيَّةً وَقُوهِيَّةً فَقَبِلَتْهَا، وَقَالَتْ: مِثْلَ هَذَا فَاكْسُنِي".

اللهُ أَكْبَرُ! بِمِثْلِ أَسْمَاءَ فَلْتَقْتَدِ النِّسَاءُ، إِنْ أَرَدْنَ طَاعَةَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُعَمِّرَ بُيُوتَنَا بِالْغَيْرَةِ وَالْحِشْمَةِ، وَالْحَيَاءِ وَالْفَضِيلَةِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْأُسْرَةَ الصَّالِحَةَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الصَّالِحَيْنِ: الزُّبَيْرِ وَأَسْمَاءَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ قَدْ أَنْجَبَتْ أَوْلَادًا وَأَحْفَادًا عُظَمَاءَ صَالِحِينَ مُصْلِحِينَ، وَهَذِهِ ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ ذَلِكَ الصَّلَاحِ الْأَبَوِيِّ؛ فَمِنْ أَوْلَادِهِمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: عَبْدُ اللهِ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فِي الْعِلْمِ، وَالشَّرَفِ، وَالْجِهَادِ، وَالْعِبَادَةِ، وَكَانَ فَارِسَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ مَوَاقِفُ مَشْهُودَةٌ، وَلَهُ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي عِلْمِهِ وَزُهدِهِ، وَشَجَاعَتِهِ وَقُوَّتِهِ؛ "عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ: أَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ، وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). فَمَا أَعْظَمَ هَذَا الشَّرَفَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْعُظَمَاءِ!

وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا: عُرْوَةُ، قَالَ الذَّهَبِيُّ عَنْهُ: "الْإِمَامُ، عَالِمُ الْمَدِينَةِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الْقُرَشِيُّ، الْأَسَدِيُّ، الْمَدَنِيُّ، الْفَقِيهُ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ".

وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا -أَيْضًا-: الْمُنْذِرُ، وَكَانَ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ وَشُجَعَانِهِمْ وَكُرَمَائِهِمْ.

وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا كَذَلِكَ: مُصْعَبٌ، أَمِيرُ الْعِرَاقَيْنِ، وَكَانَ فَارِسًا، شُجَاعًا، قَاتَلَ أَهْلَ الْبَاطِلِ.

عِبَادَ اللهِ: ثُمَّ إِنَّ خَيْرَ أُسْرَةِ الزُّبَيْرِ الطَّيِّبَةِ امْتَدَّ مِنَ الْأَوْلَادِ إِلَى الْأَحْفَادِ؛ فَجَاءَ مِنْ عَبْدِ اللهِ: عَبَّادٌ، الرَّاوِي الْمُحَدِّثُ الصَّالِحُ. وَجَاءَ مِنْ عُرْوَةَ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، الْمُحَدِّثُ الْإِمَامُ، الثِّقَةُ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ. وَجَاءَ مِنَ الْمُنْذِرِ: فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ الرَّاوِيَةُ الْمُحَدِّثَةُ، وَهِيَ زَوْجَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.

وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَحْفَادِ الصَّالِحِينَ وَالْحَفِيدَاتِ الصَّالِحَاتِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِتَكُنْ هَذِهِ الْأُسْرَةُ الْكَرِيمَةُ قُدْوَةً لِأُسَرِنَا فِي صَلَاحِهَا وَنُبْلِهَا، وَعِلْمِهَا وَفَضْلِهَا، وَلْنُرْشِدْ نِسَاءَنَا وَأَوْلَادَنَا إِلَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الصَّالِحُونَ وَالصَّالِحَاتُ أُسْوَةً حَسَنَةً لهَمُ ْفِي الْحَيَاةِ، فَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِي خَيْرِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ نَالَ الْفَلَاحَ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].