المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
الحقوق التي أُخذت ظلماً . ومن شواهده قول ابن السمناني : "على الإمام التسوية في الأحكام، والعطاء، وقسمة الفيء، ووضع كل حق في موضعه، ومنع المظالم "
الحقوق التي أُخذت ظلماً.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَظَالِمُ لُغَةً: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَكَسْرِهَا، مَصْدَرُ ظَلَمَ يَظْلِمُ، اسْمٌ لِمَا أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهِيَ مَا تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ، وَأَصْل الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَعِنْدَ فُلاَنٍ ظُلاَمَتِي وَمَظْلِمَتِي: أَيْ حَقِّي الَّذِي ظُلِمْتُهُ (1) .
وَالظُّلْمُ فِي الاِصْطِلاَحِ: التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِِلَى الْبَاطِل، وَهُوَ الْجَوْرُ، وَقِيل: هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ (2) .
وَالظُّلْمُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
الأَْوَّل: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُهُ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَالنِّفَاقُ، قَال تَعَالَى: {إِِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، (3) وَقَال تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} . (4)
الثَّانِي: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، (5) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا} . (6)
الثَّالِثُ: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} ، (7) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . (8)
وَكُل هَذِهِ الثَّلاَثَةِ فِي الْحَقِيقَةِ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ، فَإِِِنَّ الإِِِْنْسَانَ فِي أَوَّل مَا يَهِمُّ بِالظُّلْمِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، فَإِِِذًا الظَّالِمُ أَبَدًا مُبْتَدِئٌ فِي الظُّلْمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} ، (9) يَتَنَاوَل الأَْنْوَاعَ الثَّلاَثَةَ مِنَ الظُّلْمِ فَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ مِنْهُ ظُلْمٌ فِي الدُّنْيَا إِِلاَّ وَلَوْ حَصَل لَهُ مَا فِي الأَْرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَكَانَ يَفْتَدِي بِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} ، (10) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ لاَ يُجْدِي وَلاَ يُخَلِّصُ بَل يُرْدِي (11) .
فَالْمَظَالِمُ هِيَ الْحُقُوقُ الَّتِي أُخِذَتْ ظُلْمًا، وَقَدْ دَعَا الشَّرْعُ الْحَنِيفُ إِِلَى إِِقَامَةِ الْعَدْل فِيهَا وَأَنْشَأَ لَهَا دِيوَانَ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءَ الْمَظَالِمِ (12) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الإِِِْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيل الإِِِْلْزَامِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. (13)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَظَالِمِ بِاعْتِبَارِهَا وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالْقَضَاءُ أَعَمُّ.
ب - الدَّعْوَى:
3 - الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِدِّعَاءِ، أَيْ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُدَّعَى، وَهُوَ الطَّلَبُ، وَتُجْمَعُ عَلَى دَعَاوَى.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل الْغَيْرِ، أَوْ دَفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ (14) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالدَّعْوَى هِيَ أَنَّ الدَّعْوَى وَسِيلَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِرَفْعِ الْمَظَالِمِ.
ج - التَّحْكِيمُ:
4 - التَّحْكِيمُ لُغَةً: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأَْمْرِ وَالشَّيْءِ أَيْ جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِِلَيْهِ، وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ: أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ حَكَمٌ وَمُحَكَّمٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّحْكِيمُ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَكَمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا (15) ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . (16)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالتَّحْكِيمِ أَنَّ التَّحْكِيمَ وَسِيلَةٌ لِفَضِّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَفْعِ الْمَظَالِمِ.
أَقْسَامُ الْمَظَالِمِ بِاعْتِبَارِ مَا تُضَافُ إِِلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ
5 - تَنْقَسِمُ الْمَظَالِمُ بِاعْتِبَارِ مَا تُضَافُ إِِلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ إِِلَى قِسْمَيْنِ: أ - مَظَالِمُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
ب - مَظَالِمُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْغُصُوبِ، وَإِِِنْكَارِ الْوَدَائِعِ، وَالأَْرْزَاقِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي النَّفْسِ وَالأَْعْرَاضِ.
قَال الْغَزَالِيُّ: وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ إِِمَّا فِي النُّفُوسِ أَوِ الأَْمْوَال أَوِ الأَْعْرَاضِ أَوِ الْقُلُوبِ (17) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِرَفْعِ الْمَظَالِمِ
6 - الْمَظَالِمُ مِنَ الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ قَطْعًا بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ وَإِِِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُل مُسْلِمٍ، وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوِ الإِِِْمَامِ الَّذِي أُنِيطَ بِهِ حِفْظُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِِِقَامَةُ الْعَدْل، وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ (18) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: يَا عِبَادِي، إِِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَّالَمُوا. (19) وَالْمُرَادُ لاَ يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَالْخَلِيفَةُ إِِمَّا أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَإِِِمَّا أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ وَالِيًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ، وَتَوَلِّي الْقَضَاءِ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِمَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِ الشُّرُوطُ، وَرَفْعُ الْمَظَالِمِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْقَاضِي الْمُعَيَّنِ مِنَ الإِِِْمَامِ (20) .
وَرَغَّبَ رَسُول اللَّهِ ﷺ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ الإِِِْنْسَانُ عَلَيْهَا، فَعَنْ أَنَسٍ ﵁ قَال: غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَال: إِِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِِِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةِ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ. (21)
وَنَظَرَ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي الْمَظَالِمِ بِنَفْسِهِ لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل، فَقَال الأَْنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ فَقَال: إِِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكِ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَال: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِِلَى الْجَدْرِ، فَقَال الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ، إِِنِّي لأََحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
(22) وَلأَِنَّ رَفْعَ الْمَظَالِمِ يُعْتَبَرُ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْخُلَفَاءِ وَالْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ (23) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ:
7 - إِِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ هِيَ إِِقَامَةُ الْعَدْل، وَمَنْعُ الظُّلْمِ، لأَِنَّ الإِِِْسْلاَمَ حَارَبَ الظُّلْمَ وَجَعَلَهُ مِنْ أَشَدِّ الرَّذَائِل، وَأَمَرَ بِالْعَدْل وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ.
وَكَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَوَّل مَنْ نَظَرَ فِي الْمَظَالِمِ، وَفَصَل فِي الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الْوُلاَةِ وَذَوِي النُّفُوذِ وَالأَْقَارِبِ، وَسَارَ عَلَى سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ (24) .
وَكَانَ قَضَاءُ الْمَظَالِمِ دَاخِلاً - بِحَسَبِ أَصْلِهِ - فِي الْقَضَاءِ الْعَادِيِّ، وَكَانَ يَتَوَلَّى الْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ الْقُضَاةُ وَالْخُلَفَاءُ وَالأُْمَرَاءُ، ثُمَّ صَارَ قَضَاءً مُسْتَقِلًّا، وَلَهُ وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ.
قَال أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ فَهِيَ وِلاَيَةٌ غَرِيبَةٌ، أَحْدَثَهَا مَنْ تَأَخَّرَ مِنَ الْوُلاَةِ لِفَسَادِ الْوِلاَيَةِ، وَفَسَادِ النَّاسِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُل حُكْمٍ يَعْجِزُ عَنْهُ الْقَاضِي، فَيَنْظُرُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ يَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إِِذَا كَانَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ قَوَّى أَحَدَهُمَا الْقَاضِي، وَإِِِذَا كَانَ بَيْنَ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، أَوْ قَوِيَّيْنِ، وَالْقُوَّةُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْوِلاَيَةِ، كَظُلْمِ الأُْمَرَاءِ وَالْعُمَّال، فَهَذَا مِمَّا نَصَبَ لَهُ الْخُلَفَاءُ أَنْفُسَهُمْ (25) .
وَبَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ الْحِكْمَةَ مِنْ ظُهُورِ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ، فَقَال: وَلَمْ يُنْتَدَبْ لِلْمَظَالِمِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ (الرَّاشِدِينَ) أَحَدٌ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا فِي الصَّدْرِ الأَْوَّل، مَعَ ظُهُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، بَيْنَ مَنْ يَقُودُهُ التَّنَاصُفُ إِِلَى الْحَقِّ، أَوْ يَزْجُرُهُ الْوَعْظُ عَنِ الظُّلْمِ، وَإِِِنَّمَا كَانَتِ الْمُنَازَعَاتُ تَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ، يُوَضِّحُهَا حُكْمُ الْقَضَاءِ.، فَاقْتَصَرَ خُلَفَاءُ السَّلَفِ عَلَى فَصْل التَّشَاجُرِ بِالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ تَعْيِينًا لِلْحَقِّ فِي جِهَتِهِ لاِنْقِيَادِهِمْ إِِلَى الْتِزَامِهِ، وَاحْتَاجَ عَلِيٌّ ﵁ حِينَ تَأَخَّرَتْ إِِمَامَتُهُ، وَاخْتَلَطَ النَّاسُ فِيهَا وَتَجَوَّرُوا إِِلَى فَضْل صَرَامَةٍ فِي السِّيَاسَةِ، وَزِيَادَةِ تَيَقُّظٍ فِي الْوُصُول إِِلَى غَوَامِضِ الأَْحْكَامِ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَاسْتَقَل بِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ فِيهَا إِِلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الْمَحْضِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، ثُمَّ انْتَشَرَ الأَْمْرُ بَعْدَهُ حَتَّى تَجَاهَرَ النَّاسُ بِالظُّلْمِ وَالتَّغَالُبِ، وَلَمْ يَكْفِهِمْ زَوَاجِرُ الْعِظَةِ عَنِ التَّمَانُعِ وَالتَّجَاذُبِ، فَاحْتَاجُوا فِي رَدْعِ الْمُتَغَلِّبِينَ وَإِِِنْصَافِ الْمَغْلُوبِينَ إِِلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الَّذِي تَمْتَزِجُ بِهِ قُوَّةُ السَّلْطَنَةِ بِنَصَفَةِ الْقَضَاءِ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ أَفْرَدَ لِلظُّلاَمَاتِ يَوْمًا يَتَصَفَّحُ فِيهِ قَصَصَ الْمُتَظَلِّمِينَ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلنَّظَرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. .، ثُمَّ زَادَ مِنْ جَوْرِ الْوُلاَةِ وَظُلْمِ الْعُتَاةِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ إِِلاَّ أَقْوَى الأَْيْدِي وَأَنْفَذُ الأَْوَامِرِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ﵀ أَوَّل مَنْ نَدَبَ نَفْسَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ. وَقَال: كُل يَوْمٍ أَتَّقِيهِ وَأَخَافُهُ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ وُقِيتُهُ، ثُمَّ جَلَسَ لَهَا مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ جَلَسَ لَهَاالْمَهْدِيُّ ثُمَّ الْهَادِي ثُمَّ الرَّشِيدُ ثُمَّ الْمَأْمُونُ فَآخِرُ مَنْ جَلَسَ لَهَا الْمُهْتَدِي (26) .
وَهَكَذَا صَارَ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ وَرَدِّهَا مِنْ وَاجِبَاتِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ الإِِِْمَامُ الأَْعْظَمُ، وَمِنْهُ تَنْتَقِل إِِلَى اخْتِصَاصِ الأَْمِيرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى إِِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، عِنْدَمَا يَكُونُ عَامَّ النَّظَرِ، وَيَتَعَاوَنُ مَعَ الْقُضَاةِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْوَالِي وَالأَْمِيرِ: " وَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ، فَإِِِنْ كَانَ مِمَّا نُفِّذَتْ فِيهِ الأَْحْكَامُ، وَأَمْضَاهُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، جَازَ لَهُ النَّظَرُ فِي اسْتِيفَائِهِ، مَعُونَةً لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِل، وَانْتِزَاعًا لِلْحَقِّ مِنَ الْمُعْتَرِفِ الْمُمَاطِل، لأَِنَّهُ مَوْكُولٌ إِِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّظَالُمِ وَالتَّغَالُبِ، وَمَنْدُوبٌ إِِلَى الأَْخْذِ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّنَاصُفِ، فَإِِِنْ كَانَتِ الْمَظَالِمُ مِمَّا تُسْتَأْنَفُ فِيهَا الأَْحْكَامُ، وَيُبْتَدَأُ فِيهَا الْقَضَاءُ، مَنَعَ هَذَا الأَْمِيرُ، لأَِنَّهُ مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا عَقْدُ إِِمَارَتِهِ، وَرَدَّهُمْ إِِلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ، فَإِِِنْ نَفَّذَ حُكْمَهُ لأَِحَدِهِمْ بِحَقٍّ، قَامَ بِاسْتِيفَائِهِ إِِنْ ضَعُفَ عَنْهُ الْحَاكِمُ ". (27) وَاسْتَقَرَّ الأَْمْرُ عَلَى انْفِرَادِ الْمَظَالِمِ بِوِلاَيَةِ مُسْتَقِلَّةٍ، وَيُسَمَّى الْمُتَوَلِّي: صَاحِبُ الْمَظَالِمِ، وَيَخْتَلِفُ اسْمُهُ حَسَبَ الأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ، وَصَارَ يَنْظُرُ فِي كُل أَمْرٍ عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي اخْتِصَاصِهِ، وَصَارَ قَضَاءُ الْمَظَالِمِ مُلاَزِمًا لِلدَّوْلَةِ الإِِِْسْلاَمِيَّةِ طُوَال التَّارِيخِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ (28) .
قَاضِي الْمَظَالِمِ
أَوَّلاً: تَعْيِينُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
8 - إِِنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ إِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ نَفْسَهُ، لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل هُوَ قَاضِي الأُْمَّةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الأَْسَاسِيِّ فِي إِِقَامَةِ الْعَدْل، وَمَنْعِ الظُّلْمِ، وَالْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ، وَهُوَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْبَيْعَةِ وَوِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِِلَى تَعْيِينٍ.
وَإِِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخَوَّل فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْحُكَّامِ وَالْوُلاَةِ وَالأُْمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ، فَهَؤُلاَءِ لاَ يَحْتَاجُونَ فِي النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ إِِلَى تَقْلِيدٍ وَتَعْيِينٍ، وَكَانَ لَهُمْ بِمُقْتَضَى وِلاَيَتِهِمُ الْعَامَّةِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ.
وَإِِِمَّا أَنْ يُعَيَّنَ شَخْصٌ خَاصٌّ لِقَضَاءِ الْمَظَالِمِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِِلَى تَقْلِيدٍ مِنْ صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ كَالْخَلِيفَةِ وَالْحُكَّامِ الْمُفَوَّضِ لَهُمْ ذَلِكَ (29) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
9 - يُشْتَرَطُ فِي قَاضِي الْمَظَالِمِ - بِالإِِِْضَافَةِ إِِلَى شُرُوطِ الْقَاضِي الْعَامِّ - أَنْ يَكُونَ جَلِيل الْقَدْرِ نَافِذَ الأَْمْرِ، عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيل الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إِِلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَتَثَبُّتِ الْقُضَاةِ فَيَحْتَاجُ إِِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ (30) .
قَال ابْنُ خَلْدُونٍ عَنْ وِلاَيَةِ الْمَظَالِمِ: هِيَ وَظِيفَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السَّلْطَنَةِ وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ فَتَحْتَاجُ إِِلَى عُلُوِّ يَدٍ وَعَظِيمِ رَهْبَةٍ تَقْمَعُ الظَّالِمَ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَتَزْجُرُ الْمُعْتَدِيَ وَكَأَنَّهُ يُمْضِي مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ أَوْ غَيْرُهُمْ عَنْ إِِمْضَائِهِ (31) .
وَتَفْصِيل شُرُوطِ الْقَاضِي فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 18) .
ثَالِثًا: رِزْقُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
10 - الرِّزْقُ هُوَ مَا يُرَتِّبُهُ الإِِِْمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِِِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُل شَهْرٍ سُمِّيَ رِزْقًا، وَإِِِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُل عَامٍ سُمِّيَ عَطَاءً (32) .
وَنَاظِرُ الْمَظَالِمِ إِِنْ كَانَ خَلِيفَةً أَوْ أَمِيرًا أَوْ وَالِيًا فَرِزْقُهُ حَسَبُ عَمَلِهِ، وَلاَ يُخْتَصُّ بِرِزْقٍ خَاصٍّ لِنَظَرِهِ فِي الْمَظَالِمِ، وَإِِِنْ كَانَ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ قَاضِيًا مُعَيَّنًا لِذَلِكَ فَيُعْطَى كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ، لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَحَبَسَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُ وَرَاتِبُهُ، كَسَائِرِ الْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَهَذَا رَأْيُ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ (33) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ ف 58) .
رَابِعًا: اخْتِصَاصَاتُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
11 - الأَْصْل فِي اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحُقُوقِ، وَمَنْعُ الظُّلاَمَاتِ، وَمُحَاسَبَةُ الْوُلاَةِ وَالْجُبَاةِ وَمُرَاقَبَةُ مُوَظَّفِي الدَّوْلَةِ إِِذَا تَجَاوَزُوا حُدُودَ سُلْطَتِهِمْ وَصَلاَحِيَّتِهِمْ أَوْ ظَلَمُوا النَّاسَ فِي أَعْمَالِهِمْ.
وَالأَْصْل أَنَّ اخْتِصَاصَ قَاضِي الْمَظَالِمِ عَامٌّ وَشَامِلٌ، وَهُوَ مَا يُمَارِسُهُ الْخُلَفَاءُ، وَمَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْوُزَرَاءِ الْمُفَوَّضِينَ، وَأُمَرَاءِ الأَْقَالِيمِ، وَمَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ مِنَ الْقُضَاةِ، وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ تَشْمَل عَشَرَةَ أُمُورٍ ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ ﵀ تَعَالَى، وَتَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ (34) ، وَهِيَ:
1 - النَّظَرُ فِي تَعَدِّي الْوُلاَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَأَخْذِهِمْ بِالْعَسْفِ فِي السِّيرَةِ، فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ الَّذِي لاَ يَقِفُ عَلَى ظُلاَمَةِ مُتَظَلِّمٍ فَيَكُونُ لِسِيرَةِ الْوُلاَةِ مُتَصَفِّحًا وَمُكْتَشِفًا أَحْوَالَهُمْ لِيُقَوِّيَهُمْ إِِنْ أَنْصَفُوا، وَيَكُفَّهُمْ إِِنْ عَسَّفُوا، وَيَسْتَبْدِل بِهِمْ إِِنْ لَمْ يُنْصِفُوا، وَلَمْ يُؤَدُّوا وَاجِبَهُمُ الْمَنُوطَ بِهِمْ.
2 - جَوْرُ الْعُمَّال فِي جِبَايَةِ الأَْمْوَال بِمُقَارَنَتِهَا بِالْقَوَانِينِ الْعَادِلَةِ فِي دَوَاوِينِ الأَْئِمَّةِ، فَيَحْمِل النَّاسَ عَلَيْهَا، وَيَأْخُذُ الْعُمَّال بِهَا، وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَزَادُوهُ، فَإِِِنْ رَفَعُوهُ إِِلَى بَيْتِ الْمَال، أَمَرَ بِرَدِّهِ، وَإِِِنْ أَخَذُوهُ لأَِنْفُسِهِمُ اسْتَرْجَعَهُ لأَِرْبَابِهِ (35) .
3 - النَّظَرُ فِي كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ لأَِنَّهُمْ أُمَنَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بُيُوتِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا يَسْتَوْفُونَهُ لَهُ، وَيُوفُونَهُ مِنْهُ، فَيَتَصَفَّحُ أَحْوَالَهُمْ فِيمَا وُكِل إِِلَيْهِمْ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
وَهَذِهِ الأَْقْسَامُ الثَّلاَثَةُ لاَ يَحْتَاجُ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي تَصَفُّحِهَا إِِلَى مُتَظَلِّمٍ، وَيُبَادِرُ إِِلَيْهَا بِنَفْسِهِ بِدُونِ دَعْوَى (36) .
4 - تَظَلُّمُ الْمُسْتَرْزِقَةِ، وَهُمُ الْمُوَظَّفُونَ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ، أَوْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُمْ، وَإِِِجْحَافِ النُّظَّارِ بِهِمْ فَيَرْجِعُ إِِلَى دِيوَانِهِ فِي فَرْضِ الْعَطَاءِ الْعَادِل فَيُجْرِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيَنْظُرُ فِيمَا نُقِصُوهُ، أَوْ مُنِعُوهُ مِنْ قَبْل، فَإِِِنْ أَخَذَهُ وُلاَةُ أُمُورِهِمُ اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُمْ، وَإِِِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ قَضَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (37) .
5 - رَدُّ الْغُصُوبِ، وَهِيَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: غُصُوبٌ سُلْطَانِيَّةٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وُلاَةُ الْجَوْرِ، كَالأَْمْوَال الْمَقْبُوضَةِ عَنْ أَرْبَابِهَا، إِِمَّا لِرَغْبَةٍ فِيهَا، وَإِِِمَّا لِتَعَدٍّ عَلَى أَهْلِهَا، فَهَذَا إِِنْ عَلِمَ بِهِ وَالِي الْمَظَالِمِ عِنْدَ تَصَفُّحِ الأُْمُورِ أَمَرَ بِرَدِّهِ قَبْل التَّظَلُّمِ إِِلَيْهِ، وَإِِِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ عِنْدَ تَظَلُّمِهِمْ إِِلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، فَإِِِذَا وَجَدَ فِيهِ ذِكْرَ قَبْضِهَا عَلَى مَالِكِهَا عَمِل عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِِلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ، وَكَانَ مَا وَجَدَهُ فِي الدِّيوَانِ كَافِيًا (38) .
ثَانِيهِمَا: مَا تَغَلَّبَ عَلَيْهِ ذَوُو الأَْيْدِي الْقَوِيَّةِ، وَتَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَلاَ يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِ غَاصِبِهِ إِِلاَّ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ، إِِمَّا بِاعْتِرَافِ الْغَاصِبِ وَإِِِقْرَارِهِ، وَإِِِمَّا بِعِلْمِ وَالِي الْمَظَالِمِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ، وَإِِِمَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الْغَاصِبِ بِغَصْبِهِ، أَوْ تَشْهَدُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمِلْكِهِ، وَإِِِمَّا بِتَظَاهُرِ الأَْخْبَارِ الَّتِي يُنْفَى عَنْهَا التَّوَاطُؤُ، وَلاَ يُخْتَلَجُ فِيهَا الشُّكُوكُ، لأَِنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الأَْمْلاَكِ بِتَظَاهُرِ الأَْخْبَارِ كَانَ حُكْمُ وُلاَةِ الْمَظَالِمِ بِذَلِكَ أَحَقَّ. (39)
6 - مُشَارَفَةُ الْوُقُوفِ وَهِيَ ضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.
فَأَمَّا الْعَامَّةُ فَيَبْدَأُ بِتَصَفُّحِهَا، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَظَلِّمٌ لِيُجْرِيَهَا عَلَى سَبِيلِهَا، وَيُمْضِيَهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهَا إِِذَا عَرَفَهَا إِِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ الْحُكَّامِ الْمَنْدُوبِينَ لِحِرَاسَةِ الأَْحْكَامِ، وَإِِِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ السَّلْطَنَةِ عَلَى مَا جَرَى فِيهَا مِنْ مُعَامَلَةٍ، أَوْ ثَبَتَ لَهَا مِنْ ذِكْرٍ وَتَسْمِيَةٍ، وَإِِِمَّا مِنْ كُتُبٍ فِيهَا قَدِيمَةٍ تَقَعُ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهَا، وَإِِِنْ لَمْ يَشْهَدِ الشُّهُودُ بِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ الْخَصْمُ فِيهَا، فَكَانَ الْحُكْمُ أَوْسَعَ مِنْهُ فِي الْوُقُوفِ الْخَاصَّةِ.
وَأَمَّا الْوُقُوفُ الْخَاصَّةُ فَإِِِنَّ نَظَرَهُ فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَهْلِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهَا، لِوَقْفِهَا عَلَى خُصُومٍ مُتَعَيَّنِينَ، فَيَعْمَل عِنْدَ التَّشَاجُرِ فِيهَا عَلَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِِلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، وَلاَ إِِلَى مَا يَثْبُتُ مِنْ ذِكْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ إِِذَا لَمْ يَشْهَدْ بِهَا شُهُودٌ مُعَدَّلُونَ (40) .
7 - تَنْفِيذُ مَا وَقَفَ مِنْ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ لِضَعْفِهِمْ عَنْ إِِنْفَاذِهَا، وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِتَعَذُّرِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيَنْفُذُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ إِِلَيْهِ بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِِِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ (41) .
8 - النَّظَرُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ النَّاظِرُونَ فِي الْحِسْبَةِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْمُجَاهَرَةِ بِمُنْكَرٍ ضَعُفَ عَنْ دَفْعِهِ، وَالتَّعَدِّي فِي طَرِيقٍ عَجَزَ عَنْ مَنْعِهِ، وَالتَّحَيُّفِ فِي حَقٍّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، فَيَأْخُذُهُمْ وَالِي الْمَظَالِمِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ، وَيَأْمُرُ بِحَمْلِهِمْ عَلَى مُوجِبِهِ (42) .
9 - مُرَاعَاةُ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ كَالْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالزَّكَاةِ، عِنْدَ التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَإِِِخْلاَل شُرُوطِهَا، فَإِِِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ تُسْتَوْفَى وَفُرُوضَهُ أَحَقُّ أَنْ تُؤَدَّى، وَهَذَا مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّنَاصُحِ، وَالدَّعْوَةِ وَالتَّذْكِيرِ (43) .
10 - النَّظَرُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرَيْنِ وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، فَلاَ يَخْرُجُ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمْ عَنْ مُوجِبِ الْحَقِّ وَمُقْتَضَاهُ، وَلاَ يَسُوغُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِِلاَّ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ، وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ حُكْمُ الْمَظَالِمِ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهَا، فَيَجُورُونَ فِي أَحْكَامِهَا، وَيَخْرُجُونَ إِِلَى الْحَدِّ الَّذِي لاَ يَسُوغُ، وَهَذَا مِنْ عَمَل الْقُضَاةِ (44) .
الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ وَاخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ
12 - الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ وَالْقَضَاءِ الْعَادِيِّ يَظْهَرُ فِي الْجَوَانِبِ التَّالِيَةِ (45) :
1 - إِِنَّ لِنُظَّارِ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْل الْهَيْبَةِ، وَقُوَّةِ الْيَدِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ فِي كَفِّ الْخُصُومِ عَنِ التَّجَاحُدِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِِنْكَارِ الْحَقِّ فِي كِلاَ الْجَانِبَيْنِ، وَمَنْعِ الظَّلَمَةِ مِنَ التَّغَالُبِ، وَالتَّجَاذُبِ.
2 - إِِنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ يَخْرُجُ عَنْ ضِيقِ الْوُجُوبِ فِي التَّحْقِيقِ وَالإِِِْثْبَاتِ وَالأَْحْكَامِ وَالتَّنْفِيذِ إِِلَى سِعَةِ الْجَوَازِ، فَيَكُونُ أَفْسَحَ مَجَالاً، وَأَوْسَعَ مَقَالاً.
3 - يَسْتَعْمِل نَاظِرُ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْل الإِِِْرْهَابِ، وَكَشْفِ الأَْسْبَابِ بِالأَْمَارَاتِ الدَّالَّةِ، وَشَوَاهِدِ الأَْحْوَال اللاَّئِحَةِ، مَا يُضَيِّقُ عَلَى الْحُكَّامِ، فَيَصِل بِهِ إِِلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُبْطِل مِنَ الْمُحِقِّ.
4 - يُقَابِل نَاظِرُ الْمَظَالِمِ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَيَأْخُذُ مَنْ بَانَ عُدْوَانُهُ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ.
5 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ اسْتِمْهَال الْخُصُومِ، وَتَأْجِيل الْفَصْل فِي النِّزَاعِ، وَالتَّأَنِّي فِي تَرْدَادِ الأَْطْرَافِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الأُْمُورِ، وَاسْتِبْهَامِ الْحُقُوقِ، لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ عَنِ الأَْسْبَابِ وَأَحْوَال الْخُصُومِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ إِِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْل الْحُكْمِ، فَلاَ يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْحَاكِمُ، وَيَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَالِي الْمَظَالِمِ.
6 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ رَدُّ الْخُصُومِ إِِذَا أَعْضَلُوا، أَيْ تَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمْ، إِِلَى وَسَاطَةِ الأُْمَنَاءِ، لِيَفْصِلُوا فِي التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ إِِلاَّ عَنْ رِضَا الْخَصْمَيْنِ بِالرَّدِّ إِِلَى الصُّلْحِ.
7 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَفْسَحَ فِي مُلاَزَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إِِذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ فِي إِِلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ التَّكَفُّل، لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إِِلَى التَّنَاصُفِ، وَيَعْدِلُوا عَنِ التَّجَاحُدِ وَالتَّكَاذُبِ.
8 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الْمُعَدِّلِينَ فَقَطْ.
9 - يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ إِِحْلاَفُ الشُّهُودِ عِنْدَ ارْتِيَابِهِ بِهِمْ إِِذَا بَذَلُوا أَيْمَانَهُمْ طَوْعًا، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْ عَدَدِهِمْ لِيَزُول عَنْهُ الشَّكُّ، وَيَنْفِي عَنْهُ الاِرْتِيَابَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ الْعَادِيِّ.
10 - يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَبْتَدِئَبِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ، وَيَسْأَل عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي تَنَازُعِ الْخُصُومِ، أَمَّا عَادَةُ الْقُضَاةِ فَهِيَ تَكْلِيفُ الْمُدَّعِي إِِحْضَارَ بَيِّنَتِهِ، وَلاَ يَسْمَعُونَهَا إِِلاَّ بَعْدَ مَسْأَلَتِهِ وَطَلَبِهِ (46) .
الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ
13 - تَتَّفِقُ الْمَظَالِمُ مَعَ الْحِسْبَةِ فِي أُمُورٍ وَتَخْتَلِفُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى (47) .
أَمَّا وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ، فَهِيَ أَمْرَانِ وَهُمَا:
1 - أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى الرَّهْبَةِ وَقُوَّةِ الصَّرَامَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسَّلْطَنَةِ.
2 - يَجُوزُ لِلْقَائِمِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَفِي حُدُودِ اخْتِصَاصِهِ لأَِسْبَابِ الْمَصَالِحِ، وَإِِِنْكَارِ الْعُدْوَانِ، وَالإِِِْلْزَامِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، بِدُونِ حَاجَةٍ إِِلَى مُدَّعٍ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا أَوْجُهُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ فَهِيَ:
1 - إِِنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، أَمَّا النَّظَرُ فِي الْحِسْبَةِ فَمَوْضُوعٌ لِمَا تَرَفَّعَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، أَوْ لاَ حَاجَةَ لِعَرْضِهِ عَلَى الْقَضَاءِ، فَكَانَتْ رُتْبَةُ الْمَظَالِمِ أَعْلَى وَرُتْبَةُ الْحِسْبَةِ أَخْفَضَ مِنْهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يُوَقِّعَ (يُخَاطِبَ وَيُرَاسِل) إِِلَى الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى الْمُحْتَسِبِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
2 - يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي دَعَاوَى الْمُتَخَاصِمِينَ، وَيَفْصِل بَيْنَهُمَا، وَيُصْدِرَ حُكْمًا، قَضَائِيًّا قَابِلاً لِلتَّنْفِيذِ، أَمَّا وَالِي الْحِسْبَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْدُرَ حُكْمًا لأَِنَّهُ مُخْتَصٌّ فِي الأُْمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا وَلاَ تَنَازُعَ، وَلاَ تَحْتَاجُ إِِلَى بَيِّنَةٍ وَإِِِثْبَاتٍ وَحِجَاجٍ (48) .
طُرُقُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ وَمَكَانُهُ وَأَوْقَاتُهُ
أَوَّلاً: مَجْلِسُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ
14 - يَسْتَعِينُ قَاضِي الْمَظَالِمِ بِالأَْعْوَانِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَهُ فِي أَدَاءِ مُهِمَّتِهِ الْجَسِيمَةِ، وَيَسْتَكْمِل بِهِمْ مَجْلِسَ نَظَرِهِ، وَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُمْ، وَلاَ يَنْتَظِمُ نَظَرُهُ إِِلاَّ بِهِمْ (49) ، وَلِذَلِكَ فَإِِِنَّ مَجْلِسَ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ يَتِمُّ تَشْكِيلُهُ كَمَا يَلِي:
1 - رَئِيسُ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ وَالِي الْمَظَالِمِ، أَوْ قَاضِي الْمَظَالِمِ.
2 - الْحُمَاةُ وَالأَْعْوَانُ لِجَذْبِ الْقَوِيِّ، وَتَقْوِيمِ الْجَرِيءِ.
3 - الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، لاِسْتِعْلاَمِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَجْرِي فِي مَجَالِسِهِمْ بَيْنَ الْخُصُومِ.
4 - الْفُقَهَاءُ، لِيَرْجِعَ إِِلَيْهِمْ فِيمَا أَشْكَل، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا اشْتَبَهَ وَأَعْضَل.
5 - الْكُتَّابُ، لِيُثْبِتُوا مَا جَرَى بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمَا تَوَجَّهَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ، وَالْحَلاَل وَالْحَرَامِ، مَعَ جَوْدَةِ الْخَطِّ، وَحُسْنِ الضَّبْطِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الطَّمَعِ، وَالأَْمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ.
6 - الشُّهُودُ، لِيَشْهَدُوا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ قَاضِي الْمَظَالِمِ مِنْ حَقٍّ، وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ وَهُمْ شُهُودٌ لِلْقَاضِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتِمَّ التَّنْفِيذُ، وَيَسْتَبْعِدُ الإِِِْنْكَارَ وَالْجُحُودَ.
فَإِِِنِ اسْتَكْمَل مَجْلِسُ الْمَظَالِمِ هَؤُلاَءِ السِّتَّةَ شَرَعَ حِينَئِذٍ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ (50) .
ثَانِيًا: التَّدَابِيرُ الْمُؤَقَّتَةُ فِي النَّظَرِ بِالْمَظَالِمِ
15 - يَحِقُّ لِقَاضِي الْمَظَالِمِ الْقِيَامُ بِتَدَابِيرَ مُؤَقَّتَةٍ، وَإِِِجْرَاءَاتٍ خَاصَّةٍ، قَبْل النَّظَرِ فِي دَعْوَى الْمَظَالِمِ، وَأَثْنَاءَ النَّظَرِ فِيهَا، أَهَمُّهَا:
1 - الْكَفَالَةُ: وَذَلِكَ بِتَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الْمَدِينِ) بِتَقْدِيمِ كَفَالَةٍ بِأَصْل الدِّينِ، رَيْثَمَا يَفْصِل فِي الأَْمْرِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَعَلَى وَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى، فَإِِِنْ كَانَتْ مَالاً، فِي الذِّمَّةِ كَلَّفَهُ الْقَاضِي إِِقَامَةَ كَفِيلٍ " (51) .
2 - الْحَجْرُ: قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَإِِِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَيْنًا قَائِمَةً كَالْعَقَارِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهَا حَجْرًا لاَ يَرْتَفِعُ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ " (52) ، وَيَرُدُّ اسْتِغْلاَلَهَا إِِلَى أَمِينٍ يَحْفَظُهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنْهُمَا، وَبِمَا أَنَّ الْحَجْرَ مِنْ جِهَةٍ، وَوَضْعَ الْمَال عِنْدَ أَمِينٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، قَدْ يُنْتَجُ عَنْهُمَا ضَرَرٌ وَأَذًى لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ تَشَدَّدَ فِيهِمَا الْفُقَهَاءُ، فَقَالُوا: " فَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَحِفْظُ اسْتِغْلاَلِهَا مُدَّةَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمَا، وَاجْتِهَادِ وَالِي الْمَظَالِمِ فِيمَا يَرَاهُ بَيْنَهُمَا إِِلَى أَنْ يُثْبِتَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا " (53) .
3 - إِِجْرَاءُ الْمُعَايَنَةِ وَالتَّحْقِيقِ الْمَحَلِّيِّ، فَإِِِنَّ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْحَال مِنْ جِيرَانِ الْمِلْكِ، وَمِنْ جِيرَانِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ، لِيَتَوَصَّل بِهِمْ إِِلَى وُضُوحِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ (54) .
4 - الاِسْتِكْتَابُ وَالتَّطْبِيقُ وَالْمُضَاهَاةُ، وَذَلِكَ إِِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْخَطَّ، فَإِِِنَّ وَالِيَ الْمَظَالِمِ يَخْتَبِرُ خَطَّهُ، بِاسْتِكْتَابِهِ بِخُطُوطِهِ الَّتِي يَكْتُبُهَا، وَيُكَلِّفَهُ الإِِِْكْثَارَ مِنَ الْكِتَابَةَ لِيَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَنُّعِ فِيهَا، ثُمَّ يَجْمَعَ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ، فَإِِِذَا تَشَابَهَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ (55) ، وَهَذَا قَوْل مَنْ جَعَل اعْتِرَافَهُ الْخَطَّ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لإِِِِرْهَابِهِ وَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مَعَ إِِنْكَارِهِ لِلْخَطِّ أَضْعَفَ مِنْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِهِ، وَتُرْفَعُ الشُّبْهَةُ إِِنْ كَانَ الْخَطُّ مُنَافِيًا لِخَطِّهِ، وَيَعُودُ الإِِِْرْهَابُ عَلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ يُرَدَّانِ إِِلَى الْوَسَاطَةِ فَإِِِنْ أَفْضَى الْحَال إِِلَى الصُّلْحِ وَإِِِلاَّ بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِالأَْيْمَانِ.
ثَالِثًا: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ
16 - يَقْتَضِي نِظَامُ الْقَضَاءِ عَامَّةً، وَقَضَاءُ الْمَظَالِمِ خَاصَّةً، التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَمَامَ الْقَاضِي، فِي الْجُلُوسِ وَالإِِِْقْبَال، وَالإِِِْشَارَةِ وَالنَّظَرِ، دُونَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَرَاعٍ وَرَعِيَّةٍ، وَشَرِيفٍ وَغَيْرِهِ، فَالْكُل أَمَامَ الْعَدْل سَوَاءٌ، لِمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ ﵂ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلْيَعْدِل بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِِِشَارَتِهِ، وَمَقْعَدِهِ (56) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَسْوِيَةٌ ف 9، وَقَضَاءٌ ف 41) .
رَابِعًا: وَقْتُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ
17 - عَلَى الْوُلاَةِ الَّذِينَ يُمَارِسُونَ قَضَاءَ الْمَظَالِمِ بِجَانِبِ أَعْمَالِهِمْ أَنْ يُخَصِّصُوا يَوْمًا مَعْلُومًا فِي الأُْسْبُوعِ لِلنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، لِيَقْصِدَهُ الْمُتَظَلِّمُونَ، وَيَتَفَرَّغُ الْوُلاَةُ فِي سَائِرِ الأَْيَّامِ لأَِعْمَالِهِمُ الأُْخْرَى، وَكَانَتِ الْمَظَالِمُ فِي الْعُهُودِ الأُْولَى قَلِيلَةً وَمَحْدُودَةً، وَكَانَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ يَنْظُرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ مَتَى حَضَرَتْ مَظْلَمَةٌ، فَكَانَ الْمَهْدِيُّ مَثَلاً يَجْلِسُ فِي كُل وَقْتٍ لِرَدِّ الْمَظَالِمِ (57) .
أَمَّا إِِنْ كَانَ قَاضِي الْمَظَالِمِ مُتَعَيِّنًا لِذَلِكَ، وَمُتَفَرِّغًا لَهُ، فَيَكُونُ نَظَرُهُ فِيهَا فِي جَمِيعِ الأَْيَّامِ، وَفِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ (58) .
خَامِسًا: مَكَانُ الْمَظَالِمِ
18 - كَانَ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي مَكَانِ الْخَلِيفَةِ فِي دَارِ الْخِلاَفَةِ، أَوْ مَكَانِ الْوَالِي، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمَّا أُفْرِدَتِ الْمَظَالِمُ بِدِيوَانِ خَاصٍّ، وَكِيَانٍ مُسْتَقِلٍّ خُصِّصَتْ لَهَا دَارٌ مُعَيَّنَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُتَظَلِّمُونَ، وَتُعْقَدُ فِيهَا جَلَسَاتُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَيَجْتَمِعُ فِيهَا أَصْحَابُ الْعَلاَقَةِ فِي الأَْمْرِ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ فِي أَيَّامِ الْعَبَّاسِيِّينَ خُصِّصَتْ دَارٌ لِلْمَظَالِمِ فِي بَغْدَادَ (59) ، ثُمَّ بَنَى السُّلْطَانُ الصَّالِحُ الْعَادِل نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زِنْكِيٍّ الشَّهِيدُ دَارَ الْعَدْل بِدِمَشْقَ لِكَشْفِ الظُّلاَمَاتِ بِسَبَبِ مَا جَرَى فِيهَا مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ أُمَرَائِهِ لِلنَّاسِ، فَكَانَ يُنْصِفُ مِنْ وُزَرَائِهِ وَأُمَرَائِهِ الرَّعِيَّةَ (60) ، وَكَذَلِكَ أَنْشَأَ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ بِمِصْرِ دَارَ الْعَدْل، وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ، وَخَلَّصَ الْحُقُوقَ (61) .
وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُرْجَعُ إِِلَى مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 37 وَمَا بَعْدَهَا) .
سَادِسًا: الدَّعْوَى فِي الْمَظَالِمِ
19 - الأَْصْل فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الإِِِْمَامِ وَالْخَلِيفَةِ، وَالْوَالِي وَالأَْمِيرِ، وَالْمُحْتَسِبِ وَقَاضِي الْمَظَالِمِ، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَخْذُهُ بِلاَ دَعْوَى إِِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: كُل أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَتَعَيَّنَ الْحَقُّ فِيهِ، وَلاَ يُؤَدِّي أَخْذُهُ إِِلَى فِتْنَةٍ وَتَشَاجُرٍ، وَلاَ فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ عُضْوٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ (62) .
سَابِعًا: الْقَضَاءُ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْمَظَالِمِ
20 - إِِنَّ التَّحْقِيقَ وَالإِِِْثْبَاتَ فِي قَضَاءِ الْمَظَالِمِ أَوْسَعُ مِنَ الْقَضَاءِ الْعَادِيِّ، وَيَسْتَطِيعُ وَالِي الْمَظَالِمِ أَوْ قَاضِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي قَضَائِهِ، لِذَلِكَ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " فَأَمَّا نَظَرُ الْمَظَالِمِ الْمَوْضُوعُ عَلَى الأَْصْلَحِ فَعَلَى الْجَائِزِ، دُونَ الْوَاجِبِ، فَيَسُوغُ فِيهِ مِثْل هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ الرِّيبَةِ وَقَصْدِ الْعِنَادِ، وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ بِالأَْسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَيَصُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا اتَّسَعَ فِي الْحُكْمِ (63) ".
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَرُبَّمَا تَلَطَّفَ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي إِِيصَال الْمُتَظَلِّمِ إِِلَى حَقِّهِ، بِمَا يَحْفَظُ مَعَهُ حِشْمَةَ الْمُتَظَلِّمِ مِنْهُ، أَوْ مُوَاضَعَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا يَحْفَظُ بِهِ حِشْمَةَ نَفْسِهِ " (64) .
فَإِِِذَا كَانَ الظُّلْمُ وَاضِحًا اكْتَفَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بِالْبَيِّنَةِ الْيَسِيرَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى الْقَنَاعَةِ الْوِجْدَانِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِِلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ الْبَيِّنَةِ الْقَاطِعَةِ، وَكَانَ يَكْتَفِي بِالْيَسِيرِ إِِذَا عَرَفَ وَجْهَ مَظْلَمَةِ الرَّجُل رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ تَحْقِيقَ الْبَيِّنَةِ، كَمَا يُعْرَفُ مِنْ غَشْمِ (ظُلْمِ) الْوُلاَةِ قَبْلَهُ عَلَى النَّاسِ، وَلَقَدْ أَنْفَذَ بَيْتَ مَال الْعِرَاقِ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ حَتَّى حُمِل إِِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ (65) .
وَفِي ذَلِكَ إِِطْلاَقٌ لِيَدِ صَاحِبِ الْمَظَالِمِ وَتَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، لِمُوَاجَهَةِ حَالاَتِ الضَّرُورَاتِ وَالنَّوَازِل وَالْحَوَادِثِ، وَهُوَ مَا قَصَدَهُ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: " تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ " وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْقَاضِي بِالاِجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي.
فَالْقَضَاءُ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَتَرْفَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَرْدَعُ أَهْل الْفَسَادِ، هِيَ جُزْءٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهَا (66) .
ثَامِنًا: التَّنْفِيذُ
21 - وَهُوَ تَنْفِيذُ الأَْحْكَامِ وَهُوَ الْهَدَفُ الأَْخِيرُ مِنْ وُجُودِ الْقَضَاءِ وَالْمَحَاكِمِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي قَضَاءِ الْمَظَالِمِ، إِِذَا عَجَزَ الْقُضَاةُ عَنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِهَا عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِتَعَزُّزِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيُنَفَّذُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ يُوَجَّهُ إِِلَيْهِ، بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِِِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ (67) .
تَوْقِيعَاتُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
22 - التَّوْقِيعُ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الاِدِّعَاءَ مِنْ شَخْصٍ، وَالْجَوَابَ مِنْ آخَرَ، وَالْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ (68) ، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّوْقِيعَاتِ هُنَا: هِيَ الْكُتُبُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُرْسِلُهَا إِِلَى غَيْرِهِ بِإِِِحَالَةِ مَوْضُوعِ الْمُنَازَعَةِ إِِلَى شَخْصٍ أَوْ لَجْنَةٍ، لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا جَرَى عِنْدَهُ مِنْ تَظَلُّمٍ وَأَحْكَامٍ وَقِصَصِ الْمُتَظَلِّمِينَ إِِلَيْهِ، بِقَصْدِ تَحْضِيرِ الدَّعْوَى، أَوِ التَّحْقِيقِ فِيهَا، أَوِ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ، وَالْفَصْل فِيهَا.
23 - وَقَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ (69) ، تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ إِِلَى قِسْمَيْنِ حَسَبَ حَال الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ مُخْتَصًّا أَصْلاً بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، كَالتَّوْقِيعِ إِِلَى الْقَاضِي الْمُكَلَّفِ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إِِلَى نَوْعَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ إِِذْنًا لِلْقَاضِي لِلْفَصْل فِي الدَّعْوَى وَالْحُكْمِ فِيهَا، وَهُنَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِأَصْل الْوِلاَيَةِ، وَيَكُونُ التَّوْقِيعُ تَأْكِيدًا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ قُصُورُ مَعَانِيهِ.
ب - أَنْ يَقْتَصِرَ التَّوْقِيعُ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْوَسَاطَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لإِِِِنْهَاءِ النِّزَاعِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ وَإِِِنْ لَمْ يَنْهَهُ الْكَاتِبُ فِي التَّوْقِيعِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ نَظَرُ الْقَاضِي عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ يَكُونُ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الْحُكْمِ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحُكْمِ وَمَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ، لأَِنَّ فَحْوَى التَّوْقِيعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَإِِِذَا كَانَ التَّوْقِيعُ بِمُجَرَّدِ الْوَسَاطَةِ فَلاَ يُلْزَمُ الْقَاضِي الْمُحَال إِِلَيْهِ بِإِِِنْهَاءِ الْحَال، وَإِِِخْطَارِهِ إِِلَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بَعْدَ الْوَسَاطَةِ، وَإِِِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِكَشْفِ الصُّورَةِ، أَوْ بِالتَّحْقِيقِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ لَزِمَهُ إِِنْهَاءُ حَالِهِمَا إِِلَيْهِ، لأَِنَّهُ اسْتِخْبَارٌ مِنْهُ فَلَزِمَ إِِجَابَتُهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ، كَتَوْقِيعِهِ إِِلَى فَقِيهٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَهُ ثَلاَثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلتَّحْقِيقِ وَكَشْفِ الصُّورَةِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ، فَعَلَى الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَهَا، وَيُنْهِيَ مِنْهَا لِقَاضِي الْمَظَالِمِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَيَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ الْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَإِِِلاَّ كَانَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ لاَ يَجُوزُ لِلْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مِنَ الأَْمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا حَالأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الإِِِْرْهَابِ، وَفَضْل الْكَشَفِ.
ب - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ بِالْوَسَاطَةِ، فَيَتَوَسَّطُ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ بَيْنَهُمَا، فَإِِِنْ أَفْضَتِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى صُلْحِ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِِنْهَاؤُهَا إِِلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُعْتَبَرُ شَاهِدًا فِيهَا، إِِذَا اسْتُدْعِيَ لِلشَّهَادَةِ بِشَأْنِهَا مُسْتَقْبَلاً، وَإِِِنْ لَمْ تُفْضِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَانَ الْوَسِيطُ شَاهِدًا فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ عِنْدَهُ يُؤَدِّيهِ إِِلَى النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ إِِنْ عَادَ الْخَصْمَانِ إِِلَى التَّظَلُّمِ وَطَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا إِِنْ لَمْ يَعُودَا.
ج - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلشَّخْصِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهَذَا يَعْنِي إِِسْنَادَ وِلاَيَةٍ لَهُ، وَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاةُ فَحْوَى قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ لأَِعْمَال الْقَضَاءِ، لِيَكُونَ نَظَرُهُ مَحْمُولاً عَلَى مُوجِبِهِ.
24 - كَمَا قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ حَسْبَ مَضْمُونِ الْكِتَابِ إِِلَى قِسْمَيْنِ (70) ، وَهُمَا:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ الإِِِْحَالَةِ مُتَضَمِّنَةً إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا سَأَل الْخَصْمُ فِي ظُلاَمَتِهِ، وَيَصِيرُ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، فَإِِِنْ سَأَل الْوَسَاطَةَ أَوِ الْكَشْفَ لِلصُّورَةِ، أَيِ التَّحْقِيقَ فِيهَا، كَانَتِ الإِِِْحَالَةُ مُوجِبَةً لَهُ، وَكَانَ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ خَرَجَ التَّوْقِيعُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ، كَقَوْلِهِ: أَجِبْهُ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، أَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ، كَقَوْلِهِ: رَأْيُكَ فِي إِِجَابَةِ مُلْتَمَسِهِ، كَانَ مُوقِعًا، لأَِنَّهُ لاَ يَقْتَضِي وِلاَيَةً يَلْزَمُ حُكْمُهَا، فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ، وَإِِِنْ سَأَل الْمُتَظَلِّمُ الْحُكْمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ مُسَمًّى، وَالْخُصُومَةُ مَذْكُورَةٌ، لِتَصِحَّ وِلاَيَةُ الْفَصْل فِي النِّزَاعِ عَلَيْهِمَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ أَوِ التَّفْوِيضُ مُتَضَمِّنًا إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مَا سَأَل، عَلَى أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِيهِ الأَْمْرَ، وَتَتَحَدَّدُ الْوِلاَيَةُ بِمَضْمُونِ قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ، وَلَهَا ثَلاَثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ كَامِلَةً فِي صِحَّةِ الْوِلاَيَةِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الأَْمْرَ بِالنَّظَرِ، وَالأَْمْرَ بِالْحُكْمِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِبُهُ الشَّرْعُ، وَهَذَا هُوَ التَّوْقِيعُ الْكَامِل.
ب - أَنْ لاَ يَكُونَ قَرَارُ الإِِِْحَالَةِ كَامِلاً، بَل تَضَمَّنَ الأَْمْرَ بِالْحُكْمِ دُونَ النَّظَرِ، فَيَذْكُرُ فِي تَوْقِيعِهِ مَثَلاً: احْكُمْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، أَوْ يَقُول: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَتَصِحُّ الْوِلاَيَةُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ الْحُكْمَوَالْقَضَاءَ بَيْنَهُمَا لاَ يَكُونُ إِِلاَّ بَعْدَ تَقَدُّمِ النَّظَرِ، فَصَارَ الأَْمْرُ بِهِ مُتَضَمِّنًا لِلنَّظَرِ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْهُ.
ج - أَنْ يَخْلُوَ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَمَال وَالْجَوَازِ، بِأَنْ يَذْكُرَ فِي التَّوْقِيعِ: انْظُرْ بَيْنَهُمَا، فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهَذَا التَّوْقِيعِ وِلاَيَةٌ، لأَِنَّ النَّظَرَ بَيْنَهُمَا يَحْتَمِل الْوَسَاطَةَ الْجَائِزَةَ، وَيَحْتَمِل الْحُكْمَ اللاَّزِمَ، وَهُمَا فِي الاِحْتِمَال سَوَاءٌ، فَلَمْ تَنْعَقِدِ الْوِلاَيَةُ بِهِ مَعَ الاِحْتِمَال.
أَمَّا إِِنْ قَال لَهُ: انْظُرْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ، فَقِيل: إِِنَّ الْوِلاَيَةَ مُنْعَقِدَةٌ، لأَِنَّ الْحَقَّ مَا لَزِمَ، وَقِيل: لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ، لأَِنَّ الصُّلْحَ وَالْوَسَاطَةَ حَقٌّ، وَإِِِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ.
كَيْفِيَّةُ رَدِّ الْمَظَالِمِ
25 - رَغَّبَ رَسُول اللَّهِ ﷺ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ عَلَيْهَا، وَطَلَبَ مِمَّنِ ارْتَكَبَ مَظْلَمَةً أَنْ يَتَحَلَّلَهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِأَسْرَعَ مَا يُمْكِنُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَِخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَيْءٌ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْل أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ بِقَدْرِ مَظْلِمَتَهُ، وَإِِِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُحَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِل عَلَيْهِ (71) .
وَحَدَّدَ النَّوَوِيُّ كَيْفِيَّةَ رَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَصْحَابِهَا فَقَال: " إِِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَالْغَصْبِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي أَمْوَال النَّاسِ، وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ أَمْوَال النَّاسِ إِِنْ بَقِيَتْ، وَيَغْرَمُ بَدَلَهَا إِِنْ لَمْ تَبْقَ، أَوْ يَسْتَحِل الْمُسْتَحَقَّ فَيُبْرِئَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ بِالْحَقِّ إِِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَقِّ، وَأَنْ يُوَصِّلَهُ إِِلَيْهِ إِِنْ كَانَ غَائِبًا إِِنْ كَانَ غَصَبَهُ هُنَاكَ، فَإِِِنْ مَاتَ سَلَّمَهُ إِِلَى وَارِثِهِ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ رَفَعَهُ إِِلَى قَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ، فَإِِِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ لَهُ إِِنْ وَجَدَهُ، وَإِِِنْ كَانَ مُعْسِرًا نَوَى الضَّمَانَ إِِذَا قَدَرَ، فَإِِِنْ مَاتَ قَبْل الْقُدْرَةِ فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةُ، وَإِِِنْ كَانَ حَقًّا لِلْعِبَادِ وَلَيْسَ بِمَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَيَأْتِي الْمُسْتَحِقَّ وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ فَإِِِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِِِنْ شَاءَ عَفَا " (72) ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ تَفْصِيلٍ فِي الْفُرُوعِ (73) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: " أَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْقُلُوبِ بِمُشَافَهَةِ النَّاسِ بِمَا يَسُوءُهُمْ أَوْ يُصِيبُهُمْ فِي الْغَيْبِ فَلْيَطْلُبْ مِنْ كُل مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ بِلِسَانِهِ أَوْ آذَى قَلْبَهُ بِفِعْل مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلْيُحِل وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَمَنْ مَاتَ أَوْ غَابَ فَلاَ يُتَدَارَكُ إِِلاَّ بِكَثِيرِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ تَبْقَى لَهُ مَظْلَمَةٌ، فَلْيَجْبُرْهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا يَجْبُرُ مَظْلَمَةَ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ (74) .
تَوَقُّفُ قَبُول التَّوْبَةِ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ
26 - يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا، أَوْ تَحْصِيل الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، لأَِنَّ التَّوْبَةَ بِمَعْنَى النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ لاَ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ وَإِِِسْقَاطِ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَرَدِّ الْمَال الْمَغْصُوبِ وَالْجِنَايَاتِ فِي الأَْمْوَال وَالأَْنْفُسِ، وَرَدِّ الْمَال الْمَسْرُوقِ وَغَيْرِهِ (75) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ التَّوْبَةِ: وَإِِِنْ كَانَتْ تُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لآِدَمِيٍّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكِ الْمَظْلَمَةِ حَسَبَ إِِمْكَانِهِ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ، أَوْ مِثْلَهُ إِِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِِِلاَّ قِيمَتَهُ، وَإِِِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِِِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي الْبَدَنِ، فَإِِِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، اشْتُرِطَ فِي التَّوْبَةِ التَّمْكِينُ فِي نَفْسِهِ، وَبَذْلُهَا لِلْمُسْتَحِقِّ (76) .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوَقُّفِ قَبُول التَّوْبَةِ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ فِي أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ تَوْبَةٍ مِنْ نَحْوِ غَصْبٍ رَدُّ مَظْلَمَةٍ إِِلَى رَبِّهَا إِِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ إِِلَى وَرَثَتِهِ إِِنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْهَا فِي حِلٍّ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُبْرِئَهُ، وَيَسْتَمْهِل التَّائِبُ رَبَّ الْمَظْلِمَةِ إِِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهَا، أَوْ بَدَلِهَا لِعُسْرَتِهِ (77) .
وَإِِِنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، لأَِنَّ عِرْضَ الْمَقْذُوفِ قَدْ تَلَوَّثَ بِقَذْفِهِ، فَإِِِكْذَابُهُ نَفْسَهُ يُزِيل ذَلِكَ التَّلَوُّثَ فَتَكُونُ التَّوْبَةُ بِهِ (78) .
وَإِِِنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي جُهِل الْمُودِعُ لَهَا، وَأَيِسَ الْمُودَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَالِكِهَا، يَجُوزُ إِِعْطَاؤُهَا لِبَيْتِ الْمَال إِِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ جَائِرًا ظَالِمًا، وَيَجُوزُ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي مَصَارِفِهَا أَوْ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ، إِِذَا كَانَ الإِِِْمَامُ جَائِرًا (79) .
وَإِِِذَا تَابَ الْغَال (وَهُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ) قَبْل الْقِسْمَةِ رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمَقْسَمِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إِِلَى أَهْلِهِ (80) .
وَإِِِنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي تُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ عَنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ تُوجِبُ رَدَّ الْمَال عَلَى صَاحِبِهِ إِِنْ كَانَ أَخَذَ الْمَال لاَ غَيْرُ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لاَ يَفْعَل مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَل (81) .
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، وأساس البلاغة مادة (ظلم) .
(2) التعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون 4 / 938 ط. خياط - بيروت، ودستور العلماء 2 / 287.
(3) سورة لقمان / 13
(4) سورة الزمر / 32.
(5) سورة الشورى / 42
(6) سورة الإسراء / 33.
(7) سورة فاطر / 32.
(8) سورة البقرة / 231.
(9) سورة الزمر / 47.
(10) سورة النجم / 52
(11) المفردات للأصفهاني، وبصائر ذوي التمييز 3 / 540.
(12) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 73، وصبح الأعشى 3 / 273.
(13) تبصرة الحكام 1 / 12، ومعين الحكام للطرابلسي ص 6، وانظر: رد المختار 5 / 351، وشرح حدود ابن عرفة للرصاع ص 433، ومغني المحتاج 4 / 371، وكشاف القناع 6 / 285، والروض المربع 2 / 365، وبدائع الصنائع للكاساني 9 / 4078، ودرر الحكام 2 / 404، والتعريفات للجرجاني، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 331 ط. دار القلم، ولسان العرب
(14) التعريفات للجرجاني، والفروق للقرافي 4 / 72، ودرر الحكام 2 / 329، ونتائج الأفكار تكملة فتح القدير 7 / 137، ومغني المحتاج 4 / 541 المغني 14 / 275 ط. هجر، ولسان العرب.
(15) القاموس المحيط، ولسان العرب، ومادة حكم، ورد المحتار 5 / 428 ط. الحلبي.
(16) سورة النساء
(17) إحياء علوم الدين 4 / 53 - 54 ط. دار الهادي - بيروت.
(18) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 27، ومقدمة ابن خلدون ص 191
(19) حديث: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1994) من حديث أبي ذر.
(20) شرح صحيح مسلم 16 / 134.
(21) حديث أنس: " غلا السعر على عهد رسول الله ﷺ. . . " أخرجه الترمذي (3 / 597) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(22) حديث عبد الله بن الزبير: " أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير. . . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 34) ومسلم (4 / 1829 - 1830) .
(23) أحكام القرآن للجصاص 2 / 35 - 40، والأحكام السلطانية للماوردي ص 77، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73
(24) مغني المحتاج 4 / 372، والحسبة لابن تميمة ص 82.
(25) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1631 ط. عيسى الحلبي
(26) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77 - 78، وانظر: الأحكام السلطانية، لأبي يعلى ص 75، ومقدمة ابن خلدون ص 222، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 162 ط. حلب.
(27) الأحكام السلطانية للماوردي ص 32 - 33، والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 36 ط. الثانية، البابي الحلبي.
(28) مغني المحتاج 4 / 372، وانظر: الحسبة لابن تيمية ص 82 ط. المكتبة العلمية.
(29) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73، وكشاف القناع 6 / 283.
(30) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73
(31) مقدمة ابن خلدون ص 571 ط. لجنة البيان العربي.
(32) كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 1076 ط. خياط
(33) المغني لابن قدامة 14 / 9، السياسة الشرعية لابن تيمية ص 49، وأدب القاضي للماوردي لابن أبي الدم ص 101، والمهذب 2 / 291، وروضة القضاة للسمناني 1 / 85، وأخبار القضاة لوكيع 1 / 134، 342، وبدائع الصنائع 9 / 4104
(34) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76، ومقدمة ابن خلدون ص 222.
(35) المراجع السابقة.
(36) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 77
(37) المرجعان السابقان.
(38) الأحكام السلطانية للماوردي ص 82، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 77
(39) الأحكام السلطانية للماوردي ص 82، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78
(40) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78
(41) المرجعان السابقان.
(42) المرجعان السابقان.
(43) المرجعان السابقان.
(44) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78.
(45) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 79، وتبصرة الحكام 1 / 21، 145، ومعين الحكام ص 12، 170 ط. الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 93، 164.
(46) الأحكام السلطانية للماوردي ص 84، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 79، وتبصرة الحكام 2 / 142، ومعين الحكام ص 169، والإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ص 164.
(47) الأحكام السلطانية للماوردي ص 241 - 242، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 286 - 287، وتبصرة الحكام 1 / 19.
(48) الأحكام السلطانية للماوردي ص 242 - 243، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 286 - 287، وتبصرة الحكام 1 / 19.
(49) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76.
(50) المراجع السابقة.
(51) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.
(52) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.
(53) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.
(54) قضاة قرطبة للخشني ص 192، 217 ط. الدار المصرية، القاهرة.
(55) الأحكام السلطانية للماوردي ص 87، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 82.
(56) حديث أم سلمة: " من ابتلي بالقضاء بين الناس. . . " أخرجه الدارقطني (4 / 205) ، وفي إسناده راوٍ فيه جهالة كما في الميزان للذهبي (4 / 544) .
(57) الفخري، لابن طباطبا ص 131.
(58) الأحكام السلطانية للماوردي ص 79، 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76.
(59) تاريخ الطبري 8 / 216 ط. دار المعارف، القاهرة 1960.
(60) البداية والنهاية لابن كثير 12 / 280، تصوير مكتبة المعارف - بيروت، ومكتبة النصر - الرياض.
(61) النجوم الزاهرة 7 / 163.
(62) الفروق 4 / 76 - 77.
(63) الأحكام السلطانية للماوردي ص 91، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 86، وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي المالقي ص 17، 18.
(64) الأحكام السلطانية للماوردي ص 90، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 85.
(65) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم ص 325.
(66) إعلام الموقعين 4 / 462، والطرق الحكمية لابن القيم ص 4، تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 132، 141.
(67) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83.
(68) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 689، ونقل التهانوي أن الشخص إذا ادعى على آخر فالمكتوب هو المحضر، وإذا أجاب الآخر وأقام البينة فالتوقيع، وإذا حكم فالسجل، وانظر: التعريفات للجرجاني ص 109.
(69) الأحكام السلطانية للماوردي ص 93، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 87.
(70) الأحكام السلطانية للماوردي ص 94، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 88.
(71) حديث أبي هريرة: " من كانت له مظلمة من أخيه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 101) .
(72) روضة الطالبين للنووي 11 / 246 ط. المكتب الإسلامي.
(73) حاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي، وحاشية العدوي 1 / 67 ط. عيسى البابي الحلبي، والمغني 14 / 193، وكشاف القناع 6 / 420، ورياض الصالحين للنووي ص 62 ط. دار الفكر.
(74) إحياء علوم الدين للغزالي 11 / 2129 ط. دار الشعب.
(75) روضة الطالبين للنووي 11 / 246، وحاشية القليوبي 4 / 201، والمغني 14 / 116، وحاشية العدوي 1 / 67 ط. عيسى الحلبي، وحاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي.
(76) المغني لابن قدامة 14 / 193.
(77) كشاف القناع 6 / 420، والروضة 11 / 146.
(78) المغني لابن قدامة 14 / 91.
(79) حاشية القليوبي 3 / 187.
(80) المغني لابن قدامة 13 / 171.
(81) بدائع الصنائع 9 / 4295 ط. الإمام، وانظر: حاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 126/ 38
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".