البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
الَّذِي يُدْرِكُ الإْمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإحرام . يشهد له عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قَالَ : "إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَأْتُوهَا، وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ، فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ، فَأَتِمُّوا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمَدُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ ". ابن خزيمة :1065.
الَّذِي يُدْرِكُ الإْمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإحرام.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُدْرِكُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَدْرَكَ الرَّجُل إِذَا لَحِقَهُ، وَتَدَارَكَ الْقَوْمُ: لَحِقَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُِولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} (2) .
وَالْمُدْرِكُ اصْطِلاَحًا: هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الإِْمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (3) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ: الْمُدْرِكُ هُوَ مَنْ صَلَّى الصَّلاَةَ كَامِلَةً مَعَ الإِْمَامِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ التَّحْرِيمَةَ أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى إِلَى أَنْ قَعَدَ مَعَهُ الْقَعْدَةَ الأَْخِيرَةَ، سَوَاءٌ سَلَّمَ مَعَهُ أَوْ قَبْلَهُ (4) .
كَمَا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْمُدْرِكِ عَلَى مَنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَسْبُوقُ:
2 - الْمَسْبُوقُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ السَّبْقِ، وَأَصْلُهُ التَّقَدُّمُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الإِْمَامَ بَعْدَ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ (6) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الإِْمَامِ مَحَل قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُعْتَدِلَةِ (7) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدْرِكِ وَالْمَسْبُوقِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُقْتَدٍ بِالإِْمَامِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُدْرِكَ مُقْتَدٍ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا وَالْمَسْبُوقُ مُقْتَدٍ فِي بَعْضِهَا.
ب - اللاَّحِقُ:
3 - اللاَّحِقُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَحِقَ، يُقَال: لَحِقْتُ بِهِ أَلْحَقُ لِحَاقًا: أَدْرَكْتُهُ (8) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ اصْطِلاَحٌ خَاصٌّ بِهِمْ - بِأَنَّهُ: مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِعُذْرٍ كَغَفْلَةٍ وَزَحْمَةٍ، وَسَبْقِ حَدَثٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِأَنْ سَبَقَ إِمَامَهُ فِي رُكُوعٍ وَسُجُودٍ (9) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدْرِكِ وَاللاَّحِقِ: أَنَّ الْمُدْرِكَ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الإِْمَامِ، أَمَّا اللاَّحِقُ فَقَدْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا مَعَ الإِْمَامِ (10) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُدْرِكِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْمُدْرِكُ لِوَقْتِ الصَّلاَةِ بَعْدَ زَوَال الأَْسْبَابِ الْمَانِعَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُدْرِكِ لِوَقْتِهَا بَعْدَ زَوَال الأَْسْبَابِ الْمَانِعَةِ لِوُجُوبِهَا بِأَقَل مِنْ رَكْعَةٍ وَهَى: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَالْكُفْرُ وَالصِّبَا، وَالْجُنُونُ وَالإِْغْمَاءُ، وَالنِّسْيَانُ وَالسَّفَرُ وَالإِْقَامَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا زَالَتْ هَذِهِ الأَْعْذَارُ، كَأَنْ طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَتَذَكَّرَ النَّاسِي، وَاسْتَيْقَظَ النَّائِمُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ قَدْرُ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ (11) لِحَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ (12) ، وَلِحَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ (13) ،
وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي هَذَا إِلاَّ زُفَرُ حَيْثُ قَال: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُؤَدِّي فِيهِ الْفَرْضَ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الأَْدَاءِ، " وَأَدَاءُ كُل الْفَرْضِ فِي هَذَا الْقَدْرِ لاَ يُتَصَوَّرُ، فَاسْتَحَال وُجُوبُ الأَْدَاءِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (14) .
وَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ فَاخْتَلَفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا زُفَرُ وَمَنْ مَعَهُ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا زَالَتِ الأَْسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ وُجُوبِ الصَّلاَةِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ قَدْرُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَوْ أَكْثَرُ وَجَبَتِ الصَّلاَةُ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَتَجَزَّأُ، فَإِذَا وَجَبَ الْبَعْضُ وَجَبَ الْكُل، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ إِلاَّ قَدْرُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَجَبَتِ التَّحْرِيمَةُ، ثُمَّ تَجِبُ بَقِيَّةُ الصَّلاَةِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ التَّحْرِيمَةِ فَيُؤَدِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَّصِل بِهِ (15) ، وَلأَِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ يَسْتَوِي فِيهِ قَدْرُ الرَّكْعَةِ وَدُونَهَا، كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اقْتَدَى بِمُتِمٍّ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ يَلْزَمُهُ الإِْتْمَامُ (16) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ أَنْ يُدْرِكَ مَعَ التَّكْبِيرَةِ قَدْرَ الطَّهَارَةِ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ السَّلاَمَةِ مِنَ الْمَوَانِعِ بِقَدْرِ فِعْل الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ أَخَفُّ مَا يُمْكِنُ، فَلَوْ عَادَ الْمَانِعُ قَبْل ذَلِكَ كَأَنْ بَلَغَ ثُمَّ جُنَّ لَمْ تَجِبِ الصَّلاَةُ (17) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْوُجُوبِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ هُوَ إِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلاَةُ إِذَا طَهُرَتْ وَعَلَيْهَا مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا تَغْتَسِل فِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْوَقْتِ مَا لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَغْتَسِل فِيهِ، أَوْ لاَ تَسْتَطِيعَ أَنْ تَتَحَرَّمَ لِلصَّلاَةِ فِيهِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلاَةُ، حَتَّى لاَ يَجِبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ.
وَالْفَرَقُ أَنَّ أَيَّامَهَا إِذَا كَانَتْ أَقَل مِنْ عَشَرَةٍ لاَ يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ مَا لَمْ تَغْتَسِل أَوْ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلاَةٍ تَصِيرُ تِلْكَ الصَّلاَةُ دَيْنًا عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً بِمُجَرَّدِ الاِنْقِطَاعِ يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ، فَإِذَا أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنَ الْوَقْتِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَتْ مِنَ الاِغْتِسَال أَوْ لَمْ تَتَمَكَّنْ، بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ أَسْلَمَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ صَبِيٍّ بَلَغَ بِالاِحْتِلاَمِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنَ الاِغْتِسَال فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ (18) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَتِ الأَْسْبَابُ الْمَانِعَةُ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ لَمْ تَجِبِ الصَّلاَةُ، فَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدْرِكَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الأَْعْذَارِ قَدْرَ رَكْعَةٍ أَخَفَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَلأَِنَّهُ إِدْرَاكٌ تَعَلَّقَ بِهِ إِدْرَاكُ الصَّلاَةِ فَلَمْ يَكُنْ بِأَقَل مِنْ رَكْعَةٍ.
كَمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ لاَ تُدْرَكُ إِلاَّ بِرَكْعَةٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ إِدْرَاكُ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ بَعْدَ زَوَال الأَْعْذَارِ وَمِقْدَارُ فِعْل الطَّهَارَةِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْهُمْ: لاَ تُعْتَبَرُ الطَّهَارَةُ فِي الْكَافِرِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدْرِكَ مَعَ الرَّكْعَةِ قَدْرَ الطَّهَارَةِ عَلَى الأَْظْهَرِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ عَقِبَ زَوَال الْعُذْرِ زَمَنٌ يَسَعُ الْوُضُوءَ إِنْ كَانَ حَدَثُهُ أَصْغَرَ، أَوِ الْغُسْل إِنْ كَانَ حَدَثُهُ أَكْبَرَ - زِيَادَةً عَلَى زَمَنِ الرَّكْعَةِ - لَمْ تَجِبِ الصَّلاَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (19)
ثَالِثًا: حُصُول الْعُذْرِ لِلْمُدْرِكِ قَبْل فِعْل الْفَرْضِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ هَل تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَكُلَّمَا دَخَل الْوَقْتُ أَوْ مَضَى مِنْهُ مَا يَسَعُ لأَِدَاءِ الْفَرْضِ - عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ - وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَوَّل الْوَقْتِ، أَوْ طَرَأَ عَلَى الْمُكَلَّفِ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، وَاسْتَغْرَقَ هَذَا الْمَانِعُ بَقِيَّةَ الْوَقْتِ، فَإِنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ قَبْل حُدُوثِ الْمَانِعِ قَدْرَ الْفَرْضِ وَقَدْرَ طُهْرٍ لاَ يَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ كَتَيَمُّمٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلاَةُ، فَيَقْضِيهَا عِنْدَ زَوَال الْعُذْرِ، لأَِنَّهَا تَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَلاَ تَسْقُطُ بِمَا طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِهَا، كَمَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل وَإِمْكَانِ الأَْدَاءِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَسْقُطُ بِهِ، وَيَجِبُ الْفَرْضُ الَّذِي قَبْلَهَا أَيْضًا، إِنْ كَانَ يُجْمَعُ مَعَهَا وَأَدْرَكَ قَدْرَهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِهَا، وَلاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تُجْمَعُ مَعَهَا إِذَا خَلاَ مِنَ الْمَوَانِعِ مَا يَسَعُهَا، لأَِنَّ وَقْتَ الأُْولَى لاَ يَصْلُحُ لِلثَّانِيَةِ إِلاَّ إِذَا صَلاَّهُمَا جَمْعًا بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، وَأَيْضًا وَقْتُ الأُْولَى فِي الْجَمْعِ وَقْتٌ لِلثَّانِيَةِ تَبَعًا بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، بِدَلِيل عَدَمِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الثَّانِيَةِ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَجَوَازِ تَقْدِيمِ الأُْولَى، بَل وُجُوبُهُ عَلَى وَجْهٍ فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ.
أَمَّا الطَّهَارَةُ الَّتِي يُمْكِنُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ فَلاَ يُعْتَبَرُ مُضِيُّ زَمَنٍ يَسَعُهَا.
وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ فِعْل الْفَرْضِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلاَ وُجُوبَ فِي ذِمَّتِهِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِهَا مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، كَمَا لَوْ طَرَأَ الْعُذْرُ قَبْل دُخُول الْوَقْتِ، وَكَمَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (20) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ ثُمَّ جُنَّ أَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَزِمَ الْقَضَاءُ - بَعْدَ زَوَال الْعُذْرِ - لأَِنَّهَا صَلاَةٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا إِذَا فَاتَتْهُ كَالَّتِي أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا، وَفَارَقَتِ الَّتِي طَرَأَ الْعُذْرُ قَبْل دُخُول وَقْتِهَا: فَإِنَّهَا لَمْ تَجِبْ، وَقِيَاسُ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالُوا: وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ مِنْ وَقْتِ الأُْولَى مِنْ صَلاَتَيِ الْجَمْعِ قَدْرًا تَجِبُ بِهِ ثُمَّ جُنَّ، أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ فَحَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ ثُمَّ زَال الْعُذْرُ بَعْدَ وَقْتِهَا لَمْ تَجِبِ الثَّانِيَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلاَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا.
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالأُْخْرَى: يَجِبُ وَيَلْزَمُ قَضَاؤُهَا، لإِِنَّهَا إِحْدَى صَلاَتَيِ الْجَمْعِ فَوَجَبَتْ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِ الأُْخْرَى كَالأُْولَى (21) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَارِضِ أَوِ الْعُذْرِ بَعْدَ إِدْرَاكِ الْوَقْتِ وَقَبْل فِعْل الصَّلاَةِ يَسْقُطُ الْفَرْضُ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل، حَتَّى أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَتَجِبُ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْل حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ أَدَاءَ الْفَرْضِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً.
قَالُوا: فَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ جُنَّ الْعَاقِل أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (22) ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ لاَ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ، لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ فَيَسْتَدْعِي الأَْهْلِيَّةَ فِيهِ لاِسْتِحَالَةِ الإِْيجَابِ عَلَى غَيْرِ الأَْهْل وَلَمْ يُوجَدْ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُدْرِكُ لِوَقْتِ الصَّلاَةِ إِنْ حَصَل لَهُ عُذْرٌ كَالْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ غَيْرِ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ (قَبْل أَدَاءِ الصَّلاَةِ) وَقَدْ بَقِيَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ مَثَلاً رَكْعَةٌ سَقَطَ الصُّبْحُ، وَإِنْ حَصَل وَالْبَاقِي لِلْغُرُوبِ أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا يَسَعُ أُولَى الْمُشْتَرِكَتَيْنِ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَرَكْعَةً مِنْ ثَانِيَتِهِمَا سَقَطَتَا، وَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ هَذَا أَسْقَطَ الثَّانِيَةَ فَقَطْ.
وَلاَ يُقَدَّرُ الطُّهْرُ فِي الإِْسْقَاطِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلاَفًا لِلَّخْمِيِّ (23) .
رَابِعًا: مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ وَالْجُمُعَةُ
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الإِْمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ وَكَبَّرَ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ رَكَعَ، فَإِنْ وَصَل الْمَأْمُومُ إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ الْمُجْزِئِ قَبْل أَنْ يَرْفَعَ الإِْمَامُ عَنْ حَدِّ الرُّكُوعِ الْمُجْزِي فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، وَحُسِبَتْ لَهُ، وَحَصَلَتْ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ وَأَدْرَكَ بِهَا صَلاَةَ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الأَْخِيرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الأُْخْرَى فَلْيُصَل، الظُّهْرَ أَرْبَعًا (24) .
أَمَّا الْجَمَاعَةُ ذَاتُهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ عَلَى مَذَاهِبَ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ ف14) .
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) سورة الأعراف / 38.
(3) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 399.
(5) حاشية القليوبي 1 / 123.
(6) لسان العرب، والمفردات، والفروق اللغوية، والتعريفات للجرجاني.
(7) مغني المحتاج 1 / 257، والقليوبي وعميرة 1 / 249.
(8) المصباح المنير، والصحاح للجوهري.
(9) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 138.
(10) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 399.
(11) بدائع الصنائع 1 / 95 - 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 196، 238، 494، والقوانين الفقهية ص 51، ومغني المحتاج 1 / 131، والمغني لابن قدامة 1 / 377، 396 وما بعدها.
(12) حديث: " من أدرك ركعة من الصبح. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 56) ومسلم (1 / 424) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(13) حديث: " من أدرك ركعة من الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 57) ومسلم (1 / 423) من حديث أبي هريرة.
(14) بدائع الصنائع 1 / 95 - 97، وحاشية ابن عابدين 1 / 238.
(15) بدائع الصنائع 1 / 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 238، ومغني المحتاج 1 / 131، والمغني لابن قدامة 1 / 396.
(16) مغني المحتاج 1 / 131، والمغني لابن قدامة 1 / 396.
(17) مغني المحتاج 1 / 131 - 132.
(18) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1 / 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 238.
(19) القوانين الفقهية ص51 وما بعدها، وجواهر الإِكليل 1 / 34، ومغني المحتاج 1 / 131 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 1 / 397.
(20) مغني المحتاج 1 / 132 - 133، والمغني لابن قدامة 1 / 373 وما بعدها.
(21) المغني 1 / 373، 397.
(22) سقوط الفرض بالردة خاص بالحنفية انظر بدائع الصنائع 1 / 95، وحاشية ابن عابدين 1 / 494.
(23) البدائع 1 / 95، وحاشية ابن عابدين 1 / 494، والفتاوى الهندية 1 / 51، وجواهر الإِكليل 1 / 34.
(24) حديث: " من أدرك الركوع من الركعة الآخرة. . . ". أخرجه الدارقطني (2 / 12) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده النووي في المجموع (4 / 215) .
الموسوعة الفقهية الكويتية: 298/ 36
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".