المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
من تولّى نظارة الوقف، وقام بالإشراف عليه . وهو ناظر الوقف . من شواهده قول ابن مازة : "الـمُتَوَلِّي إذا كان في يده أوقاف مختلفة، وخلط غلاتها صار ضامناً لها ".
من تولّى نظارة الوقف، وقام بالإشراف عليه. وهو ناظر الوقف.
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُتَوَلِّي فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَوَلَّى الأَْمْرُ إِذَا تَقَلَّدَهُ، وَيُقَال: تَوَلاَّهُ: اتَّخَذَهُ وَلِيًّا، وَتَوَلَّيْتُ فُلاَنًا اتَّبَعْتُهُ وَرَضِيتُ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَلِيِّ بِمَعْنَى الْقُرْبِ وَالنُّصْرَةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَال الْوَقْفِ (2) .
وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ مَنْ تَوَلَّى أَمْرَ الأَْوْقَافِ وَقَامَ بِتَدْبِيرِهَا (3) .
وَاسْتَعْمَل الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ، فَالْمُشْتَرِي الأَْوَّل مُوَلٍّ، وَمَنْ قَبِل التَّوْلِيَةَ وَاشْتَرَى مِنْهُ مُتَوَلٍّ (4) .
وَالْمُرَادُ بِالْبَحْثِ هُنَا الْمُتَوَلِّي بِالْمَعْنَى الأَْوَّل.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّاظِرُ:
2 - النَّاظِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ النَّظَرِ وَهُوَ الْفِكْرُ وَالتَّدَبُّرُ، يُقَال: نَظَرَ فِي الأَْمْرِ: تَدَبَّرَ وَفَكَّرَ، وَيُسْتَعْمَل النَّظَرُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْحِفْظِ، يُقَال: نَظَرَ الشَّيْءَ: حَفِظَهُ (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْبُهُوتِيُّ: النَّاظِرُ هُوَ الَّذِي يَلِي الْوَقْفَ وَحِفْظَهُ، وَحِفْظَ رِيعِهِ، وَتَنْفِيذَ شَرْطِهِ (6) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَيْرِيَّةِ أَنَّ الْقَيِّمَ وَالْمُتَوَلِّيَ وَالنَّاظِرَ فِي كَلاَمِهِمْ وَاحِدٌ ثُمَّ قَال: هَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ الإِْفْرَادِ، أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ مُتَوَلِّيًا وَنَاظِرًا عَلَيْهِ كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فَيُرَادُ بِالنَّاظِرِ الْمُشْرِفُ (7) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالنَّاظِرُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَوَلِّي.
ب - الْمُشْرِفُ:
3 - الْمُشْرِفُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَشْرَفَ، يُقَال: أَشْرَفْتُ عَلَيْهِ: اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ (8) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْمُشْرِفِ عَلَى مَنْ يَكُونُ لَهُ حِفْظُ مَال الْوَقْفِ دُونَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَادَ بِالْحِفْظِ مُشَارَفَتُهُ: " أَيْ مُرَاقَبَتُهُ " لِلْمُتَوَلِّي عِنْدَ التَّصَرُّفِ لِئَلاَّ يَفْعَل مَا يَضُرُّ (9) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُشْرِفِ وَالْمُتَوَلِّي هِيَ أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْمَل لِصَالِحِ الْوَقْفِ، الْمُتَوَلِّي بِالتَّصَرُّفِ وَالْمُعَامَلَةِ، وَالْمُشْرِفُ بِالْحِفْظِ وَالْمُرَاقَبَةِ.
مَشْرُوعِيَّةُ نَصْبِ الْمُتَوَلِّي
4 - مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الأَْمْوَال لاَ تُتْرَكُ سَائِبَةً، وَأَمْوَال الْوَقْفِ تَحْتَاجُ إِلَى رِعَايَةٍ وَإِدَارَةٍ كَسَائِرِ الأَْمْوَال، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَخْصٌ يَحْفَظُهَا وَيُدِيرُ شُئُونَهَا، وَيَقُومُ بِعِمَارَتِهَا وَإِيجَارِهَا وَزَرْعِهَا وَاسْتِغْلاَلِهَا وَتَحْصِيل رِيعِهَا، وَصَرْفِ غَلَّتِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَهُوَ الْمُتَوَلِّي.
وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي أَمِينًا قَادِرًا عَلَى إِدَارَةِ شُئُونِ الْوَقْفِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ مَقَاصِدُ الْوَقْفِ وَأَغْرَاضُ الْوَاقِفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ.
مَنْ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْوِلاَيَةِ وَنَصْبُ الْمُتَوَلِّي:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا اشْتَرَطَ الْوِلاَيَةَ لِشَخْصٍ يُؤْخَذُ بِشَرْطِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ أَمْ مِنَ الأَْجَانِبِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي الْغَلَّةِ أَمْ لاَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ مَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ أَهْلاً لِلتَّوَلِّي مُسْتَكْمِلاً لِشُرُوطِ الْوِلاَيَةِ عَلَى الْوَقْفِ (10) . أَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ الْوِلاَيَةَ لأَِحَدٍ أَوْ شَرَطَهَا فَمَاتَ الْمَشْرُوطُ لَهُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وِلاَيَةُ نَصْبِ الْقَيِّمِ إِلَى الْوَاقِفِ، ثُمَّ لِوَصِيِّهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَإِذَا مَاتَ الْمَشْرُوطُ لَهُ قَبْل وَفَاةِ الْوَاقِفِ فَالرَّاجِحُ أَنَّ وِلاَيَةَ النَّصْبِ لِلْوَاقِفِ، وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ وَفَاةِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يُوصِ (أَيِ الْمَشْرُوطُ لَهُ) لأَِحَدٍ فَوِلاَيَةُ النَّصْبِ لِلْقَاضِي. وَمَا دَامَ أَحَدٌ يَصْلُحُ لِلتَّوَلِّيَةِ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ لاَ يُجْعَل الْمُتَوَلِّي مِنَ الأَْجَانِبِ لأَِنَّهُ أَشْفَقُ، وَمَنْ قَصْدُهُ نِسْبَةُ الْوَقْفِ إِلَيْهِ (11) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ النَّاظِرَ لَيْسَ لَهُ الإِْيصَاءُ بِالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهُ الْوَاقِفُ ذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ رَشِيدًا، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَالْحَاكِمُ يُوَلِّي عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ (12) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ وَقَفَ وَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّوْلِيَةَ لأَِحَدٍ ثَلاَثَةُ طُرُقٍ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالَّذِي يَقْتَضِي كَلاَمَ مُعْظَمِ الأَْصْحَابِ الْفَتْوَى بِهِ أَنْ يُقَال: إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ فَالتَّوْلِيَةُ لِلْحَاكِمِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ فَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ يَنْتَقِل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلْوَاقِفِ أَوِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ (13) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ شَرَطَ النَّظَرَ لإِِنْسَانٍ فَمَاتَ الْمَشْرُوطُ لَهُ فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ وِلاَيَةُ النَّصْبِ لاِنْتِفَاءِ مِلْكِهِ، وَيَكُونُ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ، أَوْ جَمْعًا مَحْصُورًا، كَأَوْلاَدِهِ أَوْ أَوْلاَدِ زَيْدٍ كُل وَاحِدٍ عَلَى حِصَّتِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَحْصُورٍ كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغُزَاةِ أَوِ الْمَوْقُوفُ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ فَالنَّظَرُ لِلْحَاكِمِ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ (14) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَوَلِّي
6 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَوَلِّي عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْعَدَالَةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالأَْمَانَةُ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمُ الإِْسْلاَمَ وَالتَّكْلِيفَ أَيْضًا، وَفَصَّل بَعْضُهُمْ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَوَلِّي الأَْمَانَةُ وَالْعَدَالَةُ، فَلاَ يُوَلَّى إِلاَّ أَمِينٌ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ، لأَِنَّهُ يُخِل بِالْمَقْصُودِ، وَكَذَا تَوْلِيَةُ الْعَاجِزِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ لاَ يَحْصُل بِهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَكَذَا الأَْعْمَى وَالْبَصِيرُ.
وَكَذَا الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ إِذَا تَابَ لأَِنَّهُ أَمِينٌ.
وَقَالُوا مَنْ طَلَبَ التَّوْلِيَةَ عَلَى الْوَقْفِ لاَ يُعْطَى لَهُ، وَهُوَ كَمَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ لاَ يُقَلَّدُ (15) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرَائِطُ الأَْوْلَوِيَّةِ لاَ شَرَائِطُ الصِّحَّةِ، وَأَنَّ النَّاظِرَ إِذَا فَسَقَ اسْتَحَقَّ الْعَزْل، وَلاَ يَنْعَزِل، كَالْقَاضِي إِذَا فَسَقَ لاَ يَنْعَزِل عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ.
ثُمَّ قَال: وَيُشْتَرَطُ لِلصِّحَّةِ (أَيْ صِحَّةِ تَوْلِيَةِ الْوَاقِفِ) بُلُوغُهُ وَعَقْلُهُ، لاَ حُرِّيَّتُهُ وَإِسْلاَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالصَّبِيُّ لاَ يَصْلُحُ نَاظِرًا.
ثُمَّ نُقِل عَنْ بَعْضِهِمُ الْقَوْل بِصِحَّةِ تَوْلِيَةِ الصَّبِيِّ، وَوُفِّقَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِحَمْل عَدَمِ الْجَوَازِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْحِفْظِ، بِأَنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ، أَمَّا الْقَادِرُ عَلَيْهِ فَتَكُونُ تَوْلِيَتُهُ مِنَ الْقَاضِي إِذْنًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ إِذْنَ الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لاَ يَأْذَنُ لَهُ (16) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي النَّاظِرِ شُرُوطًا خَاصَّةً لَكِنَّهُمْ قَالُوا: يَجْعَلُهُ الْمُحْبِسُ لِمَنْ يُوثَقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَإِنْ غَفَل الْمُحْبِسُ عَنْ ذَلِكَ كَانَ النَّظَرُ فِيهِ لِلْقَاضِي يُقَدِّمُ لَهُ مَنْ يَقْتَضِيهِ (17) ، وَقَال الْحَطَّابُ: يُقَدِّمُ لَهُ مَنْ يَرْتَضِيهِ (18) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: شَرْطُ النَّاظِرِ الْعَدَالَةُ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رُشَدَاءَ مُعَيَّنِينَ، لأَِنَّ النَّظَرَ وِلاَيَةٌ، كَمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ، وَالأَْوْجَهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ كَذَلِكَ الْكِفَايَةُ، وَفَسَّرُوهَا بِقُوَّةِ الشَّخْصِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ نَاظِرٌ فِيهِ، فَإِنِ اخْتَلَّتْ إِحْدَاهُمَا نَزَعَ الْحَاكِمُ الْوَقْفَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ الْوَاقِفَ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ الاِهْتِدَاءُ إِلَى التَّصَرُّفِ، وَإِنْ كَانَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ قَال: إِنَّ فِي ذِكْرِ الْكِفَايَةِ كِفَايَةً عَنْ هَذَا الشَّرْطِ (19) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ النَّاظِرِ الْمَشْرُوطِ وَبَيْنَ مَنْ يَتَوَلَّى النَّظَرَ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الْمَشْرُوطِ: الإِْسْلاَمُ وَالتَّكْلِيفُ وَالْكِفَايَةُ فِي التَّصَرُّفِ وَالْخِبْرَةُ بِهِ وَالْقُوَّةُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّاظِرُ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ مُرَاعَاةُ حِفْظِ الْوَقْفِ.
وَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِ الذُّكُورِيَّةُ وَلاَ الْعَدَالَةُ، وَيُضَمُّ إِلَى الْفَاسِقِ عَدْلٌ، وَإِلَى الضَّعِيفِ قَوِيٌّ أَمِينٌ (20) .
وَظِيفَةُ الْمُتَوَلِّي
8 - وَظَائِفُ الْمُتَوَلِّي غَيْرُ مَحْصُورَةٍ عِنْدَ التَّوْلِيَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَل كُل مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً لِلْوَقْفِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ضَابِطًا فَقَالُوا: يَتَحَرَّى فِي تَصَرُّفَاتِهِ النَّظَرَ لِلْوَقْفِ وَالْغِبْطَةِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مُقَيَّدَةٌ بِهِ (21) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَمْثِلَةً لِهَذِهِ الْوَظَائِفِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظِيفَتُهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَوْ تَفْوِيضِ جَمِيعِ الأُْمُورِ: الْعِمَارَةُ وَالإِْجَارَةُ وَتَحْصِيل الْغَلَّةِ وَقِسْمَتُهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَحِفْظُ الأُْصُول وَالْغَلاَّتِ عَلَى الاِحْتِيَاطِ، لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ فُوِّضَ لَهُ بَعْضُ هَذِهِ الأُْمُورِ لَمْ يَتَعَدَّهُ اتِّبَاعًا لِلشَّرْطِ كَالْوَكِيل (22) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَأَضَافُوا عَلَيْهَا وَظَائِفَ أُخْرَى، قَال الْحِجَّاوِيُّ: وَظِيفَةُ النَّاظِرِ حِفْظُ الْوَقْفِ وَعِمَارَتُهُ وَإِيجَارُهُ وَزَرْعُهُ وَمُخَاصَمَةٌ فِيهِ، وَتَحْصِيل رِيعِهِ مِنْ أُجْرَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَالاِجْتِهَادُ فِي تَنْمِيَتِهِ، وَصَرْفُهُ فِي جِهَاتِهِ مِنْ عِمَارَةٍ وَإِصْلاَحٍ وَإِعْطَاءِ مُسْتَحِقٍّ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ وَضْعُ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْرِيرُ فِي وَظَائِفِهِ، وَنَاظِرُ الْوَقْفِ يَنْصِبُ مَنْ يَقُومُ بِوَظَائِفِهِ مِنْ إِمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ وَقَيِّمٍ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ لِلنَّاظِرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ نَصْبَ مَنْ يَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ (23) .
عَزْل الْمُتَوَلِّي
9 - الأَْصْل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ وَكِيلٌ عَنِ الْغَيْرِ، يَتَصَرَّفُ بِإِذْنِهِ لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَكُونُ هَذَا الْغَيْرُ، هَل هُوَ الْوَاقِفُ أَوِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ وَالْمُسْتَحِقُّونَ؟ .
لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ وَكِيلٌ عَنِ الْوَاقِفِ حَال حَيَاتِهِ فَلَهُ عَزْلُهُ وَاسْتِبْدَالُهُ مُطْلَقًا، بِسَبَبٍ أَوْ دُونَ سَبَبٍ، وَهَذَا مَا يَرَاهُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ نَقْلاً عَنِ الْقَرَافِيِّ: الْقَاضِي لاَ يَعْزِل نَاظِرًا إِلاَّ بِجُنْحَةٍ وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ جُنْحَةٍ (24) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال النَّوَوِيُّ: لِلْوَاقِفِ أَنْ يَعْزِل مَنْ وَلاَّهُ، وَيَنْصِبَ غَيْرَهُ، كَمَا يَعْزِل الْوَكِيل، وَكَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ نَائِبٌ عَنْهُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (25) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَال فِي الإِْسْعَافِ: الْمُتَوَلِّي وَكِيل الْوَاقِفِ، فَلَهُ عَزْلُهُ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ عَدَمَ الْعَزْل، وَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ وَكِيلاً عَنِ الْوَاقِفِ فَلَهُ أَحْكَامُ الْوَكِيل فِي حَالَةِ وَفَاةِ مُوَكِّلِهِ أَيْضًا، فَيَنْعَزِل بِمَوْتِ الْوَاقِفِ، كَمَا يَنْعَزِل بِعَزْل نَفْسِهِ إِذَا عَلِمَ بِهِ الْوَاقِفُ.
قَال فِي الإِْسْعَافِ: لَوْ جَعَل الْوِلاَيَةَ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ بَطَلَتْ وِلاَيَتُهُ بِنَاءً عَلَى الْوَكَالَةِ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيَصِيرُ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ (26) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي هُوَ: أَنَّ النَّاظِرَ وَكِيلٌ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ لَيْسَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَعْزِلَهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ وِلاَيَةَ عَزْل الْمُتَوَلِّي، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الإِْسْعَافِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ قَائِمٌ مَقَامَ أَهْل الْوَقْفِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لاَ يَنْعَزِل بِوَفَاةِ الْوَاقِفِ أَيْضًا (27) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَالَةِ الْعَزْل الْعَادِيِّ الَّتِي لَمْ يَصْدُرْ مِنَ الْمُتَوَلِّي فِيهَا مَا يَسْتَوْجِبُ عَزْلَهُ.
أَمَّا إِذَا صَدَرَ مِنْهُ عَمَلٌ يَسْتَوْجِبُ عَزْلَهُ كَالْخِيَانَةِ مَثَلاً فَلِلْقَاضِي عَزْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي هُوَ الْوَاقِفُ، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ عَزْل الْمُتَوَلِّي، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَالصَّلاَحِيَّةِ لِشُغْل التَّوْلِيَةِ فَإِذَا فُقِدَتِ انْتَزَعَ الْحَاكِمُ الْوَقْفَ مِنْهُ.
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ: وَيَعْزِل الْقَاضِي الْوَاقِفَ الْمُتَوَلِّيَ عَلَى وَقْفِهِ لَوْ كَانَ خَائِنًا كَمَا يُعْزَل الْوَصِيُّ الْخَائِنُ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَالْيُتْمِ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ أَنْ لاَ يَعْزِلَهُ الْقَاضِي أَوِ السُّلْطَانُ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَل. وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ لِلْقَاضِي عَزْل الْمُتَوَلِّي الْخَائِنِ غَيْرِ الْوَاقِفِ بِالأَْوْلَى.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ عَزْل الْقَاضِي لِلْخَائِنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَعْزِل الْقَاضِي النَّاظِرَ بِمُجَرَّدِ الطَّعْنِ فِي أَمَانَتِهِ وَلاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ بِخِيَانَةٍ ظَاهِرَةٍ بَيِّنَةٍ، وَلَهُ إِدْخَال غَيْرِهِ مَعَهُ إِذَا طَعَنَ فِي أَمَانَتِهِ، وَإِذَا أَخَرَجَهُ ثُمَّ تَابَ وَأَنَابَ أَعَادَهُ (1) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومتن اللغة.
(2) ابن عابدين 3 / 431.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) مغني المحتاج 2 / 76.
(5) متن اللغة، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(6) كشاف القناع 4 / 269.
(7) رد المحتار 3 / 431.
(8) المصباح المنير.
(9) ابن عابدين 3 / 431.
(10) رد المحتار 3 / 361 و 409، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 88، وروضة الطالبين 5 / 346، وكشاف القناع 4 / 265.
(11) رد المحتار مع الدر المختار 3 / 410، 411.
(12) حاشية الدسوقي 4 / 88.
(13) روضة الطالبين 5 / 347.
(14) كشاف القناع 4 / 268.
(15) رد المحتار 3 / 385 نقلاً عن الإسعاف.
(16) المرجع السابق.
(17) التاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 37.
(18) مواهب الجليل 6 / 37.
(19) مغني المحتاج 2 / 393، 394.
(20) كشاف القناع 4 / 270.
(21) الإسعاف ص54، ومواهب الجليل 6 / 40.
(22) مغني المحتاج 2 / 394.
(23) الإقناع 3 / 14، 15.
(24) الدسوقي 4 / 88.
(25) روضة الطالبين 5 / 349.
(26) الإسعاف ص53.
(27) المرجع السابق وانظر كشاف القناع 4 / 270، 272، وما بعدها.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 99/ 36
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".