الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
إنكارُ ما عُلِمَ ضرورةً مِنْ دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ . كإنكار وجود الله تَعَالَى، وإنكارِ نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، وإنكار حرمة الزنا . ومن شواهده قوله تَعَالَى : ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜﭼالتغابن :١٠ .
الكُفْرُ: نَقِيضُ الإِيمانِ، يُقال: كَفَرَ بِالشَّيْءِ، يَكْفُرُ، كُفْراً وكُفُوراً وكُفْراناً: إذا أَشْرَكَ بِاللهِ ولم يُؤْمِنْ به. ويأْتي الكُفْرُ بِمعنى الإِنْكارِ والجُحودِ، فيُقال: كَفَرَ بِالنِعْمَةِ، أيْ: أَنْكَرَها وجَحَدَها. وأَصْلُ الكُفْرِ: السَّتْرُ والتَّغْطِيَةُ، يُقال: كَفَرَ الشَّيْءَ، أيْ: سَتَرَهُ وغَطَّاهُ، ومِنْهُ سُمِّيَ الزَّارِعُ كافِراً؛ لأنَّهُ يُغَطِّي البَذْرَ بِالتُّرابِ. ومنه سُمِّيَ غَيْرُ المُؤْمِنِ كافِراً؛ لأنَّهُ غَطَّى الحَقَّ والإِيمانَ. ومِن مَعَانِي الكُفْرِ أيضاً: البَراءَةُ، والامْتِناعُ، والكَذِبُ.
يَرِد مُصطلَح (كُفر) في الفِقْهِ في مَواطِنَ عَدِيدَةٍ، منها: كتاب الطَّهارَةِ، باب: الوُضُوء والغُسْل، وكتاب الصَّلاةِ، باب: قَضاء الصَّلَواتِ، وكتاب الجَنائِزِ، باب: دَفْن المَيِّتِ، وكتاب الجِهادِ، باب: قِتال الكُفَّارِ، وكتاب النِّكاحِ، باب: شُروط النِّكاحِ، وكتاب البُيوعِ، باب: شُروط البَيْعِ، وغَيْر ذلك. ويَرِد أيضاً في علم العقيدة، باب: توحيد الألوهيَّة، وباب: توحِيد الرُّبوبيَّة، وباب: توحيد الأسماء والصِّفات، وباب: الأسماء والأحكام، وباب: أقسام الكُفرِ، وباب: أسباب الرِّدَّة، وغير ذلك.
كفر
إنكارُ ما عُلِمَ ضرورةً مِنْ دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ.
* كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم : (2/1369)
* تهذيب اللغة : (10/110)
* مقاييس اللغة : (5/191)
* الفروق اللغوية : (ص 443)
* المحكم والمحيط الأعظم : (7/5)
* مجموع فتاوى ابن تيمية : (7/220)
* الكليات : (ص 763)
* الإحكام في أصول الأحكام : (1/49)
* المطلع على ألفاظ المقنع : (ص 44)
* مختار الصحاح : (ص 271)
* لسان العرب : (5/144)
* الصارم المسلول على شاتم الرسول : (3/955)
* تعظيم قدر الصلاة للمروزي : (2/930)
* الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة : (ص 242) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَال: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْل الْبَابِ.
وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الإِْيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي} (1) ، وَيُقَال: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّل، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَل الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.
وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمُ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّدَّةُ:
2 - الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (3) .
وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلاَفِ الرِّدَّةِ.
ب - الإِْشْرَاكُ:
3 - الإِْشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَال: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَل لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ. وَالاِسْمُ: الشِّرْكُ (4) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الإِْشْرَاكَ بِمَعْنَى الاِشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى (5) .
وَالإِْشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لأَِنَّهُ يَشْمَل الإِْشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَيَشْمَل الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.
ج - الإِْلْحَادُ:
4 - الإِْلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل وَالْعُدُول عَنِ الشَّيْءِ (6) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الإِْلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْل عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.
وَمِنَ الإِْلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ التَّأْوِيل فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لإِِجْرَاءِ الأَْهْوَاءِ (7) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِْلْحَادِ:
أَنَّ الإِْلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ (8) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (9) ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (10) .
جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ وَالدُّنْيَا:
6 - جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (11) . وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:
فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْل الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لأَِنَّ كُل مَنْ يُقَاتِل يَجُوزُ قَتْلُهُ.
(ر: أَهْل الْحَرْبِ ف 11)
وَلاَ يَجُوزُ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ قَتْل الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لاَ يُقَاتِل لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَل لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَال: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لاَ يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: لاَ يُقْتَل الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (12) .
(ر: جِهَادٌ ف 29) .
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْل الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ) .
الإِْكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:
7 - مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (13) .
وَوَرَدَ أَنَّ عَمَّارًا ﵁ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ ﷺ، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ فَقَال لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (14) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلاَلاً فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: أَحَدٌ أَحَدٌ (15) ، وَقَال النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (16) ، وَلأَِنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْقْرَارِ (17) .
وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا (18) ، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:
إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - أَوْ سَبَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ (19) .
وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لاَ يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ ﷺ فَفَعَل وَقَال: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلاَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً.
وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لأَِنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَل مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لاَ قَضَاءً وَلاَ دِيَانَةً، لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ (20) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْل وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لاَ فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لأَِنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لاَ يَحْتَمِل الإِْبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الإِْكْرَاهِ (21) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (22) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ بِالْقَتْل فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَل جَازَ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ.
أَمَّا الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْل كَالضَّرْبِ وَقَتْل الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَال وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلاَ يَجُوزُ مَعَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا (23) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالإِْكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} . وَقَال الأَْذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال عَلَى بَعْضِ الأَْشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ (24) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} ، ثُمَّ قَال: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الإِْكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَال نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ (25) .
وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لإِِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَال عَنْهُ الإِْكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلاَمِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلاَمِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لأَِنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ (26) .
8 - وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الإِْيمَانِ مَعَ الإِْكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْل أَفَضْل مِنَ الإِْقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِل كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُل فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَْرْضِ فَيُجْعَل فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَل نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ (27) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الأَْفْضَل الإِْتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.
صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ (28) .
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الإِْنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالأَْفْضَل أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ.
أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:
9 - ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ
صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلاً، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلاَسِفَةِ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (29) .
مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
10 - الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.
فَالأَْوَّل: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ (30) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالاِعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْل أَوْ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رِدَّةٌ ف 10 - 21) .
مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:
11 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: حُصُول الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُول الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلاً (31) .
أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ - كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ - مَذَاهِبُ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الإِْيمَانِ بِالْمُرْسَل كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلاَةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (32) ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (33) .
فَالآْيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْل وَالزِّنَا، لاَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ.
وَكَذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَال، وَذَمَّ قَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِانْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ عَلَى تَعْذِيبِ الْكَافِرِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُول ﷺ كَمَا يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْل الْمَشَايِخِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (34) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاءِ الْبُخَارِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإِْسْفِرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الإِْبْيَارِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ الْمَالِكِيُّ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ خِلاَفَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالإِْيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الآْخِرَةِ كَذَلِكَ. أَمَّا فِي حَقِّ الأَْدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلاَفِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مُخَاطَبَتِهِمْ بِالْفُرُوعِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لاَ تُتَصَوَّرُ مَعَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا فَلاَ مَعْنًى لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ لَوْ أَسْلَمَ، فَكَيْفَ يَجِبُ مَا لاَ يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ (35) ؟ .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الأَْوَامِرِ، لأَِنَّ الاِنْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكْلِيفُ بِهَا دُونَ الأَْوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَ الأَْوَامِرِ الْعَزِيمَةُ، وَفِعْل التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْل بِالْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالأَْوَامِرِ.
وَنَقَل ذَلِكَ الْقَوْل صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
وَقِيل: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالأَْوَامِرِ فَقَطْ.
وَقِيل: إِنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ. وَقِيل: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ.
وَقِيل: بِالتَّوَقُّفِ (36) .
وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْكُفَّارِ
12 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الإِْسْلاَمِ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (37) ، وَلاَ يُقَاتَلُونَ قَبْل الدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ لأَِنَّ قِتَال الْكُفَّارِ لَمْ يُفْرَضْ لِعَيْنِ الْقِتَال بَل لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَال وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالدَّعْوَةُ بِالْبَيَانِ أَهْوَنُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقِتَال لأَِنَّ فِي الْقِتَال مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتُمِل حُصُول الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الاِفْتِتَاحُ بِهَا، وَقَدْ " رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ يُقَاتِل الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ " (38) .
ثُمَّ إِذَا دَعَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَال لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (39) ، فَإِنْ أَبَوُا الإِْجَابَةَ إِلَى الإِْسْلاَمِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ (40) وَإِنْ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جَهْدَهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ (41) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (جِزْيَةٌ ف 25 - 30، وَجِهَادٌ ف 24) .
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ
13 - قَال الْقَرَافِيُّ: أَحْوَال الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الإِْجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلاَ يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلاَ الْغَصْبُ وَلاَ النَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا لأَِنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَلْزَمُهُ - وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا - مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لاَ ظِهَارٌ وَلاَ نَذْرٌ وَلاَ يَمِينٌ مِنَ الأَْيْمَانِ وَلاَ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَلاَ الزَّكَوَاتِ وَلاَ شَيْءٌ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: الإِْسْلاَمُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ (42) .
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْهَا رَضِيَ بِهِ حَال كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَهَذَا لاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ لِرِضَاهُ.
أَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْل وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ إِنَّمَا دَخَل عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لأَِنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الإِْسْلاَمِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الإِْسْلاَمَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَاتُ وَنَحْوُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لِحُصُول الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الآْدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الآْدَمِيِّينَ وَالإِْسْلاَمُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَل لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لاَ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيل حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ، وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَا بِهِ (43) .
مُعَامَلَةُ الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
14 - أَمَرَ الإِْسْلاَمُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا سَوَاءً أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَمْ كَافِرَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 3) .
نَجَاسَةُ الْكَافِرِ وَطَهَارَتُهُ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ، وَالآْدَمِيُّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا (44) ، لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (45) ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (46) ، نَجَاسَةَ الأَْبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَجَاسَةُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ الأَْسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ (47) .
مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُصْحَفِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْكَافِرُ الْمُصْحَفَ إِذَا اغْتَسَل، لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَال بِالْغُسْل، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لاَ فِي يَدِهِ (48) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ أَنْ يَحْمِل حِرْزًا مِنْ قُرْآنٍ وَلَوْ بِسَاتِرٍ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى امْتِهَانِهِ (49) . دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (50) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (51) .
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُرَادٌ بِهِ الْحَرَمُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى} (52) ، إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.
أَمَّا الْمَسَاجِدُ الأُْخْرَى غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَى عِيَاضٌ الأَْشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مُوسَى ﵁ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ ﵁ وَمَعَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ فَقَال: قُل لِكَاتِبِكَ هَذَا: يَقْرَأُ لَنَا كِتَابًا، فَقَال: إِنَّهُ لاَ يَدْخُل الْمَسْجِدَ، فَقَال: لِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَال: لاَ، هُوَ نَصْرَانِيٌّ، قَال: فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ.
فَإِنْ دَخَل مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ غُرَابٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ فَنَزَل فَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.
وَإِنْ وَفَدَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لِلإِْمَامِ مَوْضِعٌ يُنْزِلُهُمْ فِيهِ جَازَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ (53) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَنْزَل سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (54) ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ (55) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُول، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ نَجَّارٌ أَوْ بَنَّاءٌ وَغَيْرُهُ وَالْمَسْجِدُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ لَكِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَتْقَنَ لِلصَّنْعَةِ، فَلَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ لَكِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُسْلِمِ أَزْيَدَ مِنْ أُجْرَةِ الْكَافِرِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَإِلاَّ كَانَ مِنْهَا عَلَى الظَّاهِرِ.
وَإِذَا دَخَل الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ لِلْعَمَل فَيُنْدَبُ أَنْ يَدْخُل مِنْ جِهَةِ عَمَلِهِ (56) .
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ (57) ، وَلأَِنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مَحْمُولٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلاَءً وَاسْتِعْلاَءً، أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ الْمَمْنُوعُ نَفْسَ الدُّخُول (58) .
تَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ:
18 - قَال الإِْسْنَوِيُّ: لَوْ كَانَ - أَيِ الْمُحْتَضِرُ - كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا (59) ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ ﵁ قَال: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَال لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَال لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ (60) .
وَتَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ يَكُونُ وُجُوبًا إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلاَمُهُ فَيُنْدَبُ ذَلِكَ.
قَال الْجَمَل: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُلَقَّنُ إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ وَإِنْ بَلَغَ الْغَرْغَرَةَ وَلاَ بُعْدَ فِيهِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا خِلاَفُهُ وَإِنْ كُنَّا لاَ نُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ (61) .
وِلاَيَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَوِلاَيَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ
19 - لاَ يُعْتَبَرُ الْكَافِرُ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (62) ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلاَيَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ كَوِلاَيَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (63) . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْمُسْلِمَةَ، وَلاَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا (64) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (65) ، وقَوْله تَعَالَى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (66) .
ب - الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ (67) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قَضَاءٌ ف 22) .
أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ:
20 - أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَال، وَلاَ يُنْظَرُ صِفَةُ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَصِيغَةِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا فِي الْحَال مَعًا أَنَّ لَهُمَا الْمَقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلاَ رَضَاعٌ، وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُول اللَّهِ ﷺ عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَلاَ كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَال فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا كَإِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ أَوِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لَمْ يُقَرَّ (68) .
وَإِنْ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لأَِمْرِ النَّبِيِّ ﷺ لِغَيْلاَنَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى تِسْعِ نِسْوَةٍ: أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (69) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمِ الآْخَرُ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الآْخَرُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ وَإِسْلاَمٌ ف 5) .
نِكَاحُ الْمُسْلِمِ كَافِرَةً وَنِكَاحُ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً:
21 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِمَّنْ لاَ كِتَابَ لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (70) ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ (71) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لاَ يَحْصُل السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ (72) .
50
22 - وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زَوَاجُ الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ أَهْل الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (73) ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ تَزَوَّجُوا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ فَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ ﵁ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَسْلَمَتْ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِيَهُودِيَّةٍ مِنْ أَهْل الْمَدَائِنِ (74) . وَإِنَّمَا جَازَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إِسْلاَمِهَا، لأَِنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ وَالرُّسُل فِي الْجُمْلَةِ (75) .
وَمَعَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الزَّوَاجُ مِنْهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيل إِلَيْهَا فَتَفْتِنَهُ عَنِ الدِّينِ، أَوْ يَتَوَلَّى أَهْل دِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَالْكَرَاهِيَةُ أَشَدُّ، لأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ أَيْضًا، وَلأَِنَّهُ يُكْثِرُ سَوَادَ أَهْل الْحَرْبِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَى وَلَدُهُ مِنْهَا فَيُسْتَرَقُّ.
وَقَدْ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْل الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ فَطَلَّقُوهُنَّ إِلاَّ حُذَيْفَةُ ﵁، فَقَال لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا قَال: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَال: هِيَ خَمْرَةٌ (76) طَلِّقْهَا، قَال: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَال: هِيَ خَمْرَةٌ، قَال: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا خَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلاَلٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيل لَهُ: أَلاَ طَلَّقْتَهَا حِينَ أَمَرَكَ عُمَرُ؟ قَال: كَرِهْتُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْتُ أَمْرًا لاَ يَنْبَغِي لِي (77) .
وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ لأَِنَّهَا تَتَغَذَّى بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَتُغَذِّي وَلَدَهُ بِهِمَا، وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُضَاجِعُهَا وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ التَّغَذِّي، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِرَائِحَتِهِ، وَلاَ مِنَ الذَّهَابِ لِلْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَهِيَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ (78) .
23 - وَلاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (79) ، وَلأَِنَّ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفُ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إِلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَال فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنَ الأَْفْعَال وَيُقَلِّدْنَهُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الآْيَةِ بِقَوْلِهِ ﷿: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (80) ، لأَِنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إِلَى النَّارِ، لأَِنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ تَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ (81) .
24 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِأَهْل الْكِتَابِ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّوَاجِ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِّ الْكَافِرَةِ كِتَابِيًّا وَالآْخَرُ وَثَنِيًّا.
وَكَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ،. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ) .
وَصِيَّةُ الْكَافِرِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ
25 - إِسْلاَمُ الْمُوصِي لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ بِالْمَال لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لأَِنَّ الْكُفْرَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ، وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ.
وَكَمَا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .
الإِْجَارَةُ وَالاِسْتِئْجَارُ مِنَ الْكَافِرِ:
26 - قَال الْكَاسَانِيُّ: إِسْلاَمُ الْعَاقِدِ فِي الإِْجَارَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلاً، فَتَجُوزُ الإِْجَارَةُ وَالاِسْتِئْجَارُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لأَِنَّ هَذَا مِنْ عَقْدِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ جَمِيعًا كَالْبِيَاعَاتِ (82) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 98) . 27 - أَمَّا اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَقِصَارَتِهِ جَازَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأَِنَّ عَلِيًّا ﵁ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ " (83) .
أَمَّا إِجَارَتُهُ لِخِدْمَتِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ وَإِذْلاَلَهُ لَهُ وَاسْتِخْدَامَهُ (84) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 104) .
الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
: 28 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَصَرَّفَ الْكَافِرُ إِلاَّ بِحُضُورِ شَرِيكِهِ الْمُسْلِمِ، لأَِنَّ ارْتِكَابَهُ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ يُؤْمَنُ حِينَئِذٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْجَوَازِ أَيْضًا لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ الْكَافِرَ لاَ يَهْتَدِي إِلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: لاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لأَِنَّ الْكَافِرَ يَسَعُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَبِيعَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ. وَالتَّفْصِيل فِي (شَرِكَةٌ ف 41) .
الاِسْتِعَانَةُ بِالْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِالْكَفَّارِ فِي الْجِهَادِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ (85) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ ﷺ قِبَل بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بَحْرَةُ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ ﷺ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَال لِرَسُول اللَّهِ ﷺ: جِئْتُ لأَِتْبَعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ: أَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُل فَقَال لَهُ كَمَا قَال لَهُ أَوَّل مَرَّةٍ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا قَال أَوَّل مَرَّةٍ: قَال: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَال: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَال لَهُ كَمَا قَال أَوَّل مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَال: نَعَمْ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ: فَانْطَلِقْ (86) . وَأَمَّا إِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (اسْتِعَانَةٌ ف 5، أَهْل الْكِتَابِ ف 11، جِهَادٌ ف 26) .
الْوَقْفُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَهُ:
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ.
كَمَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ (87) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) سورة إبراهيم / 22.
(2) المنثور في القواعد 3 / 84.
(3) لسان العرب، والصحاح والخرشي 8 / 62، والقليوبي 4 / 174.
(4) لسان العرب والمصباح المنير.
(5) حاشية الجمل 3 / 177، 179، 4 / 199، والفواكه الدواني 1 / 91.
(6) المصباح المنير.
(7) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 296.
(8) المستصفى 1 / 99، والزواجر لابن حجر 1 / 24، والفواكه الدواني 1 / 91.
(9) سورة لقمان / 13.
(10) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405) ، ومسلم (1 / 91) من حديث أبي بكرة
(11) سورة التغابن / 10.
(12) المغني 8 / 479.
(13) سورة النحل / 106.
(14) حديث: " أن عمارًا أخذه المشركون. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 357) وصححه ووافقه الذهبي.
(15) حديث: " تعذيب بلال وقوله: أحد أحد. . . ". أخرجه البيهقي في السنن (8 / 209) .
(16) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) ، والحاكم (2 / 198) واللفظ لابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(17) المغني 8 / 145 - 146، والبدائع 7 / 176 - 177، والدردير مع الدسوقي 2 / 369، والشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 247، وأسنى المطالب 4 / 9.
(18) البدائع 7 / 176.
(19) تكملة فتح القدير والهداية 8 / 174 نشر دار إحياء التراث، وأشباه ابن نجيم ص 282.
(20) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 83 - 84، وتكملة فتح القدير 8 / 174 - 176.
(21) بدائع الصنائع 7 / 176 - 177، وتكملة فتح القدير 8 / 175.
(22) سورة النحل / 106.
(23) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 369.
(24) أسنى المطالب مع هامشه حاشية الرملي 4 / 9.
(25) المغني 8 / 145، 146.
(26) المغني 8 / 146.
(27) حديث: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 315 - 316) من حديث خباب بن الأرت.
(28) الشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 247، وحاشية الجمل 5 / 9.
(29) البدائع 7 / 102 - 103، وينظر المغني 8 / 362، والشبراملسي بهامش نهاية المحتاج 2 / 421.
(30) الفروق للقرافي 1 / 123 - 124، وتهذيب الفروق بهامشه 1 / 136 - 137.
(31) البحر المحيط للزركشي 1 / 397 - 398.
(32) سورة المدثر / 42 - 43.
(33) سورة الفرقان / 68 - 69.
(34) المستصفى للغزالي 1 / 91، 92، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 128، والبحر المحيط 1 / 398، 399، والحطاب 2 / 413، وحاشية الجمل 2 / 285، وكشاف القناع 1 / 223، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 3 / 231.
(35) المستصفى للغزالي 1 / 91، 92، وفواتح الرحموت 1 / 128، والبحر المحيط 1 / 399، 400، وحاشية ابن عابدين 2 / 4، والحطاب 2 / 413، والفواكه الدواني 1 / 407، والفروق للقرافي 3 / 207، وتهذيب الفروق 3 / 231 - 232.
(36) البحر المحيط 1 / 401، وفواتح الرحموت 1 / 128، وتهذيب الفروق 3 / 231 - 232.
(37) سورة النحل / 125.
(38) حديث: " أن رسول الله ﷺ لم يكن يقاتل الكفرة حتى يدعوهم إلى الإسلام ". ورد ضمن حديث بريدة أنه كان إذا أمر أميرًا أمره بذلك، أخرجه مسلم (3 / 1357) .
(39) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . ". سبق تخريجه ف 6.
(40) حديث: " فإن هم أبوا فسلهم الجزية. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1357) .
(41) بدائع الصنائع 7 / 100، والمغني 8 / 361، 362، والمواق بهامش الحطاب 3 / 350.
(42) حديث: " الإسلام يهدم ما كان قبله. . . ". أخرجه مسلم (1 / 112) من حديث عمرو بن العاص.
(43) الفروق للقرافي 3 / 184 - 185، وينظر المنثور في القواعد للزركشي 3 / 100، والبحر المحيط 1 / 409، وأسنى المطالب 4 / 209.
(44) حاشية ابن عابدين 1 / 148، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 50، ونهاية المحتاج 1 / 221، وكشاف القناع 1 / 193.
(45) سورة الإسراء / 70.
(46) سورة التوبة / 28.
(47) حديث: " ربط النبي ﷺ الأسير في المسجد وهو ثمامة بن أثال " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 555) ، ومسلم (3 / 1386) من حديث أبي هريرة
(48) بدائع الصنائع 1 / 37، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 119.
(49) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 126.
(50) المهذب 2 / 259، والمغني 8 / 531، والدسوقي 1 / 139، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 248.
(51) سورة التوبة / 28.
(52) سورة الإسراء / 1.
(53) المهذب 2 / 259، والمغني 8 / 532.
(54) حديث: " أن النبي ﷺ أنزل سبي بني قريظة في مسجد المدينة. أورده الشيرازي في المهذب (2 / 259) ، ولم نهتد إلى من أخرجه من المصادر الحديثية
(55) حديث: " ربط ثمامة بن أثال في المسجد ". تقدم في ف 15.
(56) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 139.
(57) حديث: " إنزال وفد ثقيف في مسجده ﷺ ". ذكره ابن إسحاق في سيرته كما في السيرة النبوية لابن هشام (4 / 184) .
(58) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 148، 5 / 248.
(59) حاشية الجمل 2 / 136.
(60) حديث: " كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 219) .
(61) حاشية الجمل 2 / 136.
(62) سورة النساء / 141.
(63) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 312، والمهذب 2 / 37، والمغني 6 / 472.
(64) حاشية ابن عابدين 2 / 312، والمهذب 2 / 37، والمغني 6 / 472، والدسوقي 2 / 221، والخرشي 3 / 181 - 182.
(65) سورة التوبة / 71.
(66) سورة الأنفال / 73.
(67) بدائع الصنائع 7 / 3، والدسوقي 4 / 129، والمهذب 2 / 291، وكشاف القناع 6 / 295، والأحكام السلطانية للماوردي ص 65.
(68) بدائع الصنائع 2 / 310، والدسوقي 2 / 267، 269، والمهذب 2 / 53، والمغني 6 / 613.
(69) المهذب 2 / 53، والمغني 6 / 620، والبدائع 2 / 314، والدسوقي 2 / 271 - 272. وحديث: " أمر النبي ﷺ لغيلان. . . ". أخرجه البيهقي (7 / 183) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 169) : رجال إسناده ثقات
(70) سورة البقرة / 221.
(71) البدائع 2 / 270، والدسوقي 2 / 267، والمهذب 2 / 45، والمغني 6 / 592.
(72) بدائع الصنائع 2 / 270.
(73) سورة المائدة / 5.
(74) بدائع الصنائع 2 / 270، والدسوقي 2 / 267، والمهذب 2 / 45، والمغني 6 / 589.
(75) بدائع الصنائع 2 / 270.
(76) وفي بعض النسخ " جمرة ".
(77) المهذب 2 / 45، والمغني 6 / 590، والدسوقي 2 / 267.
(78) الدسوقي 2 / 267.
(79) سورة البقرة / 221.
(80) سورة البقرة / 221.
(81) بدائع الصنائع 2 / 271 - 272.
(82) بدائع الصنائع 4 / 176.
(83) حديث: " أن عليًا أجر نفسه من يهودي. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 818) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 53) .
(84) المغني 5 / 554.
(85) المغني 8 / 414 - 415، والمهذب 2 / 231، وحاشية ابن عابدين 3 / 235، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 178.
(86) حديث عائشة: " خرج رسول الله ﷺ قبل بدر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1449 - 1450) .
(87) حاشية ابن عابدين 3 / 361، حاشية الدسوقي 4 / 78، المهذب 1 / 448 وشرح منتهى الإرادات 2 / 493.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 14/ 35
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".