الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
السعي في طلب الرزق، والمعيشة . ومن شواهده قوله تَعَالَى : ﱫﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﱪ البقرة :267 .
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَسْبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ كَسَبَ، يُقَال: كَسَبَ مَالاً أَيْ رَبِحَهُ وَاكْتَسَبَ كَذَلِكَ، وَكَسَبَ لأَِهْلِهِ وَاكْتَسَبَ: طَلَبَ الْمَعِيشَةَ، وَكَسَبَ الإِْثْمَ وَاكْتَسَبَهُ: تَحَمَّلَهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْفِعْل الْمُفْضِي إِلَى اجْتِلاَبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الْحِرْفَةُ:
2 - الْحِرْفَةُ - بِالْكَسْرِ - فِي اللُّغَةِ: الطُّعْمَةُ، وَالصِّنَاعَةُ يُرْتَزَقُ مِنْهَا، وَكُل مَا اشْتَغَل الإِْنْسَانُ وَرَضِيَ بِهِ يُسَمَّى صَنْعَةً وَحِرْفَةً؛ لأَِنَّهُ يَتَحَرَّفُ إِلَيْهَا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الرَّمْلِيُّ: الْحِرْفَةُ مَا يُتَحَرَّفُ بِهِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِرْفَةِ وَالْكَسْبِ هِيَ أَنَّ الْكَسْبَ أَعَمُّ مِنَ الْحِرْفَةِ؛ لأَِنَّ الْكَسْبَ قَدْ يَكُونُ حِرْفَةً وَقَدْ لاَ يَكُونُ.
ب - الرِّبْحُ:
3 - الرِّبْحُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكْسَبُ (5) .
قَال الأَْزْهَرِيُّ: رَبِحَ فِي تِجَارَتِهِ: إِذَا أَفْضَل فِيهَا (6) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (7) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّبْحِ وَالْكَسْبِ أَنَّ الرِّبْحَ ثَمَرَةُ الْكَسْبِ.
ج - الْغِنَى:
4 - الْغِنَى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ فِي اللُّغَةِ: الْيَسَارُ (8) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْوَاعٌ (9) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْغِنَى وَالْكَسْبِ أَنَّ الْكَسْبَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِل الْغِنَى. الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْكَسْبُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَهُوَ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ (10) ، قَال النَّبِيُّ ﷺ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ (11) ، فَإِنْ تَرَكَ الاِكْتِسَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَسِعَهُ، وَإِنِ اكْتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ (12) ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَحْبِسُ لأَِهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ (13) .
وَقَدْ يَكُونُ الْكَسْبُ مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ كَسْبُ مَا زَادَ عَلَى أَقَل الْكِفَايَةِ لِيُوَاسِيَ بِهِ فَقِيرًا أَوْ يَصِل بِهِ قَرِيبًا (14) .
وَيُبَاحُ كَسْبُ الْحَلاَل لِزِيَادَةِ الْمَال وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَال مَعَ سَلاَمَةِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمُرُوءَةِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ إِذَنْ (15) .
وَأَمَّا الْكَسْبُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ - وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ - فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِحُرْمَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَاظُمِ الْمُفْضِي إِلَى هَلاَكِ صَاحِبِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى (16) .
آدَابُ الْكَسْبِ:
6 - قَال أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كَسْبُهُ طَيِّبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: أَنْ لاَ يُؤَخِّرَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لأَِجْل الْكَسْبِ، وَلاَ يُدْخِل النَّقْصَ فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لأَِجْل الْكَسْبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ بِكَسْبِهِ اسْتِعْفَافًا لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ، وَلاَ يَقْصِدَ بِهِ الْجَمْعَ وَالْكَثْرَةَ.
الرَّابِعُ: أَنْ لاَ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي الْكَسْبِ جِدًّا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَرَى رِزْقَهُ مِنَ الْكَسْبِ، وَيَرَى الرِّزْقَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَسْبُ سَبَبًا (17) .
كَمَا يَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُكْتَسِبٍ تَحْصِيل عِلْمِ الْكَسْبِ، وَذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الَّتِي لاَ تَنْفَكُّ الْمَكَاسِبُ عَنْهَا، وَهِيَ الْبَيْعُ وَالرِّبَا وَالسَّلَمُ وَالإِْجَارَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقِرَاضُ، وَمَهْمَا حَصَل عِلْمُ هَذِهِ الْعُقُودِ وَقَفَ الْمُكْتَسِبُ عَلَى مُفْسِدَاتِ الْمُعَامَلَةِ فَيَتَّقِيهَا (18) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْكَسْبِ وَبَيْنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الاِشْتِغَال بِالْكَسْبِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ بَعْدَ تَحْصِيل مَا لاَ بُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْهُ:
فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي لاَ يُقْصَدُ بِهِ التَّكَاثُرُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّوَسُّل إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، مِنْ صِلَةِ الإِْخْوَانِ وَالتَّعَفُّفِ عَنْ وُجُوهِ النَّاسِ، هُوَ أَفْضَل مِنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ (19) ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الاِكْتِسَابِ أَعَمُّ، فَإِنَّ مَا اكْتَسَبَهُ الزَّارِعُ تَصِل مَنْفَعَتُهُ إِلَى الْجَمَاعَةِ عَادَةً، وَالَّذِي يَشْتَغِل بِالْعِبَادَةِ إِنَّمَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّهُ بِفِعْلِهِ يُحَصِّل النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَالثَّوَابَ لِجِسْمِهِ، وَمَا كَانَ أَعَمَّ فَهُوَ أَفْضَل، لِقَوْلِهِ ﷺ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (20) ، وَلِهَذَا كَانَ الاِشْتِغَال بِطَلَبِ الْعِلْمِ أَفْضَل مِنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ أَعَمُّ، وَلِهَذَا كَانَتِ الإِْمَارَةُ وَالسَّلْطَنَةُ بِالْعَدْل أَفْضَل مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ كَمَا اخْتَارَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْعِبَادَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْجِهَادُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي طَلَبِ الْحَلاَل (21) ، يَعْنِي طَلَبَ الْحَلاَل لِلإِْنْفَاقِ عَلَى الْعِيَال، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالْكَسْبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالإِْحْسَانِ إِلَى الأَْقَارِبِ وَالأَْجَانِبِ، وَفِي التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ لاَ يَتَمَكَّنُ إِلاَّ مِنْ أَدَاءِ بَعْضِ الأَْنْوَاعِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ (22) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ أَنَّ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَل؛ لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ وَالرُّسُل عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ الأَْوْقَاتِ، وَلاَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْعِبَادَةِ فِي عُمُرِهِمْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْكَسْبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ لأَِنْفُسِهِمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ أَعْلَى مَنَاهِجِ الدِّينِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، وَكَذَا النَّاسُ فِي الْعَادَةِ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ يَحْتَاجُونَ إِلَى دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَيَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ لاَ بِالْكَسْبِ، وَالنَّاسُ إِنَّمَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْعِبَادِ دُونَ الْمُكْتَسِبِينَ (23) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أَحْوَجَ مِنَ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ، وَمَا أَبْطَرَ مِنَ الْغِنَى مَذْمُومٌ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَفْضِيل الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ؛ لأَِنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ، وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ، وَالْقُدْرَةَ أَفْضَل مِنَ الْعَجْزِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى؛ لأَِنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ، وَالْغَنِيَّ مُلاَبِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَل مِنْ مُلاَبَسَتِهَا، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ السَّلاَمَةِ (24) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَعْلَى (25) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل التَّوَسُّطِ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى، لِيَصِل إِلَى فَضِيلَةِ الأَْمْرَيْنِ، وَيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ الْحَالَيْنِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيل الاِعْتِدَال، وَأَنَّ خِيَارَ الأُْمُورِ أَوْسَاطُهَا (26) .
التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَسْبِ الرِّزْقِ وَبَيْنَ التَّوَكُّل:
9 - جَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ (27) .
وَتَقْصِيرُ الإِْنْسَانِ عَنْ طَلَبِ كِفَايَتِهِ - كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ - قَدْ يَكُونُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: فَيَكُونُ تَارَةً كَسَلاً، وَتَارَةً تَوَكُّلاً، وَتَارَةً زُهْدًا وَتَقَنُّعًا.
فَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِكَسَلٍ فَقَدْ حُرِمَ ثَرْوَةَ النَّشَاطِ وَمَرَحَ الاِغْتِبَاطِ، فَلَنْ يُعْدَمَ أَنْ يَكُونَ كَلًّا قَصِيًّا أَوْ ضَائِعًا شَقِيًّا.
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِتَوَكُّلٍ فَذَلِكَ عَجْزٌ قَدْ أَعْذَرَ بِهِ نَفْسَهُ، وَتَرْكُ حَزْمٍ قَدْ غَيَّرَ اسْمَهُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَكُّل عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحِيَل وَالتَّسْلِيمِ إِلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ الإِْعْذَارِ (28) ، فَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ كَانَ يُرَافِقُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ رُفَقَاءَ، فَجَاءَتْ رُفْقَةٌ يُهْرَفُونَ (29) بِرَجُلٍ يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مِثْل فُلاَنٍ، إِنْ نَزَلْنَا فَصَلاَةٌ وَإِنْ رَكِبْنَا فَقِرَاءَةٌ، وَلاَ يُفْطِرُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ كَانَ يَرْحَل لَهُ، وَمَنْ كَانَ يَعْمَل لَهُ؟ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ فَقَالُوا: نَحْنُ، فَقَال: كُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ (30) .
وَجَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: قَال قَوْمٌ: إِنَّ الْكَسْبَ يَنْفِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوَكُّل قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (31) فَمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّوَكُّل يَكُونُ حَرَامًا، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ يَنْفِي التَّوَكُّل قَوْلُهُ ﷺ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا (32) .
وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ (33) .
أَنْوَاعُ الْكَسْبِ:
10 - إِنَّ حَاجَةَ الإِْنْسَانِ لِلْمَادَّةِ لاَزِمَةٌ لاَ يَعْرَى مِنْهَا بَشَرٌ، فَإِذَا عَدِمَ الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ نَفْسِهِ لَمْ تَدُمْ لَهُ حَيَاةٌ، وَلَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ دُنْيَا، وَإِذَا تَعَذَّرَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ لَحِقَهُ مِنَ الْوَهَنِ فِي نَفْسِهِ وَالاِخْتِلاَل فِي دُنْيَاهُ بِقَدْرِ مَا تَعَذَّرَ مِنَ الْمَادَّةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ الْقَائِمَ بِغَيْرِهِ يَكْمُل بِكَمَالِهِ، وَيَخْتَل بِاخْتِلاَلِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْمَوَادُّ مَطْلُوبَةً لِحَاجَةِ الْكَافَّةِ إِلَيْهَا، أَعْوَزَتْ بِغَيْرِ طَلَبٍ (34) .
ثُمَّ إِنَّهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ جَعَل سَدَّ حَاجَةِ النَّاسِ وَتَوَصُّلَهُمْ إِلَى مَنَافِعِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: بِمَادَّةٍ وَكَسْبٍ.
فَأَمَّا الْمَادَّةُ فَهِيَ حَادِثَةٌ عَنِ اقْتِنَاءِ أُصُولٍ نَامِيَةٍ بِذَوَاتِهَا.
وَأَمَّا الْكَسْبُ فَيَكُونُ بِالأَْفْعَال الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَادَّةِ، وَالتَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَقَلُّبٌ فِي تِجَارَةٍ،
وَالثَّانِي: تَصَرُّفٌ فِي صِنَاعَةٍ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ هُمَا فَرْعٌ لِوَجْهَيِ الْمَادَّةِ، فَصَارَتْ أَسْبَابُ الْمَوَادِّ الْمَأْلُوفَةِ وَجِهَاتُ الْمَكَاسِبِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: نَمَاءُ زِرَاعَةٍ، وَنِتَاجُ حَيَوَانٍ، وَرِبْحُ تِجَارَةٍ، وَكَسْبُ صِنَاعَةٍ (35) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الْمُخْتَلِفَةِ:
11 - قَال السَّرَخْسِيُّ: الْمَكَاسِبُ أَرْبَعَةٌ: الإِْجَارَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَكُل ذَلِكَ فِي الإِْبَاحَةِ سَوَاءٌ (36) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَفْضَل أَنْوَاعِ الْكَسْبِ الْجِهَادُ؛ لأَِنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ حُصُول الْكَسْبِ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَقَهْرِ عَدُوِّ اللَّهِ (37) . ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ: فَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَل مِنَ التِّجَارَةِ لأَِنَّهَا أَعَمُّ نَفْعًا، فَبِعَمَل الزِّرَاعَةِ يَحْصُل مَا يُقِيمُ بِهِ الْمَرْءُ صُلْبَهُ، وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ، وَبِالتِّجَارَةِ لاَ يَحْصُل ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْمُو الْمَال، وَقَال ﷺ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (38) ، وَالاِشْتِغَال بِمَا يَكُونُ نَفْعُهُ أَعَمُّ يَكُونُ أَفْضَل؛ وَلأَِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الزِّرَاعَةِ أَظْهَرُ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَل مِمَّا يَكْتَسِبُهُ الزُّرَّاعُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَالطُّيُورُ، وَكُل ذَلِكَ صَدَقَةٌ لَهُ (39) ، قَال ﷺ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ (40) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: التِّجَارَةُ أَفْضَل مِنَ الزِّرَاعَةِ (41) .
وَتَأْتِي الصِّنَاعَةُ بَعْدَ الْجِهَادِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ (42) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: أُصُول الْمَكَاسِبِ: الزِّرَاعَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالصَّنْعَةُ، وَأَيُّهَا أَطْيَبُ؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ مَذَاهِبَ لِلنَّاسِ: أَشْبَهُهَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ التِّجَارَةَ أَطْيَبُ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَالأَْشْبَهُ عِنْدِي: أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَطْيَبُ؛ لأَِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّل.
قَال النَّوَوِيُّ: قَال النَّبِيُّ ﷺ: مَا أَكَل أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُل مِنْ عَمَل يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُل مِنْ عَمَل يَدِهِ (43) ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ الزِّرَاعَةِ وَالصَّنْعَةِ؛ لِكَوْنِهِمَا مِنْ عَمَل يَدِهِ، لَكِنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَلُهُمَا لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا لِلآْدَمِيِّ وَغَيْرِهِ وَعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا (44) .
سُؤَال الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ:
12 - الأَْصْل أَنَّ سُؤَال الْمَال، وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ أَيْ فِي الْمَسْئُول مِنْهُمَا حَرَامٌ (45) ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ:
أَحَدُهَا: إِظْهَارُ الشَّكْوَى.
وَالثَّانِي: إِذْلاَل نَفْسِهِ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِل نَفْسَهُ.
وَالثَّالِثُ: إِيذَاءُ الْمَسْئُول غَالِبًا. وَإِنَّمَا يُبَاحُ السُّؤَال فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الْمُهِمَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الضَّرُورَةِ (46) .
وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَاجُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى التَّكَسُّبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَسْأَل لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: مَنْ سَأَل وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ خُمُوشٌ فِي وَجْهِهِ (47) .
وَوَرَدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَال: أَخْبَرَنِي رَجُلاَنِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلاَهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَال: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلاَ لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ (48) مَعْنَاهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا فِي السُّؤَال، وَقَال ﷺ: {لاَ تَحِل الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ (49) يَعْنِي لاَ يَحِل السُّؤَال لِلْقَوِيِّ الْقَادِرِ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَأَل فَأُعْطِيَ حَل لَهُ أَنْ يَتَنَاوَل، لِقَوْلِهِ ﷺ: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا فَلَوْ كَانَ لاَ يَحِل التَّنَاوُل لَمَا قَال ﷺ لَهُمَا ذَلِكَ.
وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (50) وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَقِيرٌ (51) هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَرَى أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَحِل لِغَنِيٍّ وَلاَ لِقَوِيٍّ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ (52) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَال بِلاَ ضَرُورَةٍ، وَفِي الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ حَرَامٌ، وَالثَّانِي يَحِل بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُذِل نَفْسَهُ، وَلاَ يُلِحَّ فِي السُّؤَال، وَلاَ يُؤْذِيَ الْمَسْئُول، وَإِلاَّ حَرُمَ اتِّفَاقًا (53) .
وَإِذَا كَانَ الْمُحْتَاجُ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ فَيَطُوفَ عَلَى الأَْبْوَابِ وَيَسْأَل، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ كَانَ آثِمًا عِنْدَ أَهْل الْفِقْهِ؛ لأَِنَّهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَإِنَّ السُّؤَال يُوصِلُهُ إِلَى مَا يُقَوِّمُ بِهِ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْكَسْبِ، وَلاَ ذُل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَاحِبِهِ أَنَّهُمَا {أَتَيَا أَهْل قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} .
وَقَال بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ: السُّؤَال مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا؛ لأَِنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ (54) .
وَمَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ حَتَّى عَجَزَ عَنْ طَلَبِ الْقُوتِ، فَفَرْضٌ عَلَى كُل مَنْ عَلِمَ بِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ، أَوْ يَدُل عَلَيْهِ مَنْ يُطْعِمُهُ؛ صَوْنًا لَهُ عَنِ الْهَلاَكِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ اشْتَرَكُوا فِي الإِْثْمِ، قَال ﵊: مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ (55) وَإِنْ أَطْعَمَهُ وَاحِدٌ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ (56) .
نَفَقَةُ الْقَرِيبِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَجِبُ لِلْفَقِيرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْبَوَيْنِ وَقَالُوا: تَجِبُ النَّفَقَةُ لَهُمَا إِذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ وَإِنْ قَدَرَا عَلَى الْكَسْبِ؛ لأَِنَّهُمَا يَتَضَرَّرَانِ بِالْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَدَرَ الْقَرِيبُ الْفَقِيرُ عَلَى الْكَسْبِ فَأَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا كَمَا قَال النَّوَوِيُّ: تَجِبُ لأَِصْلٍ دُونَ فَرْعٍ (57) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .
إِجْبَارُ الْمُفَلِسِ عَلَى التَّكَسُّبِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُفَلِسِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَنْ يَكْتَسِبَ أَوْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِوَفَاءِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (58) ، أَمَرَ بِإِنْظَارِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِاكْتِسَابِهِ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ﵁ أَنَّ رَجُلاً أُصِيبَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (59) .
وَلأَِنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ لِلْمَال فَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَيْهِ كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَمَا لاَ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّزْوِيجِ لِتَأْخُذَ الْمَهْرَ (60) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ عَصَى بِهِ - كَإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ عَمْدًا - وَجَبَ عَلَيْهِ الاِكْتِسَابُ، وَأُمِرَ بِهِ، وَلَوْ بِإِيجَارِ نَفْسِهِ، لأَِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ عَلَى الرَّدِّ (61) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَوَّارٍ الْعَنْبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَاعَ سُرَّقًا فِي دَيْنِهِ، وَكَانَ سُرَّقٌ رَجُلاً دَخَل الْمَدِينَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ وَرَاءَهُ مَالاً، فَدَايَنَهُ النَّاسُ، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَالٌ، فَسَمَّاهُ سُرَّقًا، وَبَاعَهُ بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ (62) ، وَالْحُرُّ لاَ يُبَاعُ، ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ مَنَافِعَهُ وَلأَِنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الأَْعْيَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَتَحْرِيمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ وَثُبُوتِ الْغِنَى بِهَا، فَكَذَلِكَ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا، وَلأَِنَّ الإِْجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ إِجْبَارُهُ عَلَيْهَا كَبَيْعِ مَالِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ إِلاَّ مَنْ فِي كَسْبِهِ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَمُونُهُ (63) . وَذَهَبَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى التَّكَسُّبِ إِذَا كَانَ صَانِعًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ التَّكَسُّبَ فِي عَقْدِ الدَّيْنِ (64) .
تَكْلِيفُ الصَّغِيرِ بِالتَّكَسُّبِ:
15 - نَدَبَ الإِْسْلاَمُ إِلَى الاِسْتِغْنَاءِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ بِالْكَسْبِ، فَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُهَيْل بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ يَخْطُبُ وَيَقُول: لاَ تُكَلِّفُوا الأَْمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ، فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا، وَلاَ تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ، وَعُفُّوا إِذَا أَعَفَّكُمُ اللَّهُ، وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا (65) .
وَقَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ضِمْنَ تَعْلِيقِهِ عَلَى أَثَرِ عُثْمَانَ ﵁: الصَّغِيرُ إِذَا كُلِّفَ الْكَسْبَ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِالْخَرَاجِ وَهُوَ لاَ يُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا اضْطَرَّهُ إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِمَّا لَزِمَهُ مِنَ الْخَرَاجِ بِأَنْ يَسْرِقَ (66) .
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الأَْثَرِ الْمَذْكُورِ: هَذَا كَلاَمٌ صَحِيحٌ وَاضِحُ الْمَعْنَى، مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَالْقَوْل فِي شَرْحِهِ تَكَلُّفٌ (67) . التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ:
16 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَرَاهَةَ التَّكَسُّبِ بِعَمَل الصِّنَاعَاتِ مِثْل الْخِيَاطَةِ فِي الْمَسْجِدِ (68) ، وَلاَ يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَل، مِثْل رَقْعِ ثَوْبِهِ أَوْ خَصْفِ نَعْلِهِ (69) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: فَأَمَّا مَنْ يَنْسَخُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، أَوِ اتَّفَقَ قُعُودُهُ فِيهِ فَخَاطَ ثَوْبًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَقْعَدًا لِلْخِيَاطَةِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَقَال فِي الرَّوْضَةِ: يُكْرَهُ عَمَل الصَّنَائِعِ مِنْهُ أَيِ الْمُدَاوَمَةُ، أَمَّا مَنْ دَخَل لِصَلاَةٍ أَوِ اعْتِكَافٍ فَخَاطَ ثَوْبَهُ لَمْ يُكْرَهْ (70) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا كَانَتِ الصِّنَاعَةُ لأَِجْل حِفْظِ الْمَسْجِدِ لاَ لِلتَّكَسُّبِ (71) فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْخَيَّاطُ إِذَا كَانَ يَخِيطُ فِي الْمَسْجِدِ يُكْرَهُ، إِلاَّ إِذَا جَلَسَ لِدَفْعِ الصِّبْيَانِ وَصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ، فَحِينَئِذٍ لاَ بَأْسَ بِهِ (72) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ تَكَسُّبٌ بِصَنْعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِذَلِكَ غَيْرَ كِتَابَةٍ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ نَوْعٌ مِنْ تَحْصِيل الْعِلْمِ (73) .
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ عَمَل الصِّنَاعَاتِ مَا يَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةِ آحَادِ النَّاسِ مِمَّا يُتَكَسَّبُ بِهِ، فَلاَ يُتَّخَذُ الْمَسْجِدُ مَتْجَرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِمَا يَشْمَل الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِثْل الْمُثَاقَفَةِ (وَهِيَ الْمُلاَعَبَةُ لإِِظْهَارِ الْمَهَارَةِ وَالْحِذْقِ) وَإِصْلاَحِ آلاَتِ الْجِهَادِ مِمَّا لاَ مِهْنَةَ فِي عَمَلِهِ لِلْمَسْجِدِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (74) .
وَأَمَّا التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَرَاهَتَهُ (75) ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ (76) .
وَفِي جَامِعِ الذَّخِيرَةِ: جَوَّزَ مَالِكٌ أَنْ يُسَاوِمَ رَجُلاً ثَوْبًا عَلَيْهِ أَوْ سِلْعَةً تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهَا، وَقَال الْجُزُولِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ وَلاَ الشِّرَاءُ، وَاخْتُلِفَ إِذَا رَأَى سِلْعَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ هَل يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْبَيْعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لاَ؟ قَوْلاَنِ: مِنْ غَيْرِ سِمْسَارٍ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالسِّمْسَارِ فِيهِ فَمَمْنُوعٌ بِاتِّفَاقٍ (77) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكُل عَقْدٍ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، بَل يَكُونُ مَا يَحْتَاجُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ بِدُونِ إِحْضَارِ السِّلْعَةِ (78) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْمَسْجِدِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَلاَ يَصِحَّانِ (79) .
وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُقِدَ مِنَ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ لاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ (80) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ لاَ يُكْرَهُ بَل يُبَاحُ (81) ، وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ تَرْخِيصَ بَعْضِ أَهْل الْعِلْمِ فِيهِ (82) .
الْكَسْبُ الْخَبِيثُ وَمَصِيرُهُ:
17 - طَلَبُ الْحَلاَل فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (83) ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالأَْكْل مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (84) ، وَقَال فِي ذَمِّ الْحَرَامِ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (85) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ (86) .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: وَلاَ يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالاً مِنْ حَرَامٍ، فَيُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَلاَ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَل مِنْهُ، وَلاَ يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلاَّ كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ (87) ، وَقَال النَّبِيُّ ﷺ: لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ (88) .
وَالْحَرَامُ كُلُّهُ خَبِيثٌ، لَكِنَّ بَعْضَهُ أَخْبَثُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي دَرَجَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ، بَل الْمَغْصُوبُ أَغْلَظُ؛ إِذْ فِيهِ إِيذَاءُ الْغَيْرِ وَتَرْكُ طَرِيقِ الشَّرْعِ فِي الاِكْتِسَابِ، وَلَيْسَ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إِلاَّ تَرْكُ طَرِيقِ التَّعَبُّدِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ ظُلْمًا مِنْ فَقِيرٍ أَوْ صَالِحٍ أَوْ يَتِيمٍ أَخْبَثُ وَأَغْلَظُ مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوِيٍّ أَوْ غَنِيٍّ أَوْ فَاسِقٍ (89) .
وَالْكَسْبُ الْخَبِيثُ هُوَ أَخْذُ مَال الْغَيْرِ لاَ عَلَى وَجْهِ إِذْنِ الشَّرْعِ، فَيَدْخُل فِيهِ الْقِمَارُ وَالْخِدَاعُ وَالْغُصُوبُ وَجَحْدُ الْحُقُوقِ وَمَا لاَ تَطِيبُ نَفْسُ مَالِكِهِ، أَوْ حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَإِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُ مَالِكِهِ كَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (90) .
وَالْوَاجِبُ فِي الْكَسْبِ الْخَبِيثِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ بِرَدِّهِ إِلَى أَرْبَابِهِ إِنْ عَلِمُوا، وَإِلاَّ إِلَى الْفُقَرَاءِ (91) .
قَال النَّوَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الْغَزَالِيِّ: إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَرَامٌ، وَأَرَادَ التَّوْبَةَ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا وَجَبَ دَفْعُهُ إِلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَالِكٍ لاَ يَعْرِفُهُ، وَيَئِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ كَالْقَنَاطِرِ وَالرُّبُطِ وَالْمَسَاجِدِ وَمَصَالِحِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فَقِيرٍ أَوْ فُقَرَاءَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْقَاضِي إِنْ كَانَ عَفِيفًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفِيفًا لَمْ يَجُزَ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ صَارَ الْمُسْلِمُ ضَامِنًا، بَل يَنْبَغِي أَنْ يُحَكِّمَ رَجُلاً مِنْ أَهْل الْبَلَدِ دَيِّنًا عَالِمًا، فَإِنَّ التَّحَكُّمَ أَوْلَى مِنَ الاِنْفِرَادِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّرْفُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِذَا دَفَعَهُ إِلَى الْفَقِيرِ لاَ يَكُونُ حَرَامًا عَلَى الْفَقِيرِ، بَل يَكُونُ حَلاَلاً طَيِّبًا، وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، لأَِنَّ عِيَالَهُ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَالْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِيهِمْ، بَل هُمْ أَوْلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ؛ لأَِنَّهُ أَيْضًا فَقِيرٌ.
قَال النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَل قَوْل الْغَزَالِيِّ الْمَذْكُورَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الْفَرْعِ ذَكَرَهُ الآْخَرُونَ مِنَ الأَْصْحَابِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ، وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ﵁ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْل الْوَرَعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُ هَذَا الْمَال وَرَمْيُهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (92) .
وَمَنْ وَرِثَ مَالاً وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ مُوَرِّثُهُ: أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ حَرَامٍ؟ وَلَمْ تَكُنْ عَلاَمَةٌ فَهُوَ حَلاَلٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ (93) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ الرَّجُل وَكَسْبُهُ خَبِيثٌ، كَأَنْ كَانَ مِنْ بَيْعِ الْبَاذَقِ أَوِ الظُّلْمِ أَوْ أَخْذِ الرِّشْوَةِ، فَالأَْوْلَى لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا الْمَال إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا أَرْبَابَهُ تَصَدَّقُوا بِهِ؛ لأَِنَّ سَبِيل الْكَسْبِ الْخَبِيثِ التَّصَدُّقُ إِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَى صَاحِبِهِ (94) .
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: إِنْ عَلِمَ الْمَال الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ لاَ يَحِل لَهُ (لِلْوَارِثِ) أَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ حُكْمًا، وَأَمَّا فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ بِنِيَّةِ الْخُصَمَاءِ (95) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَرِثَ مَالاً، وَعَلِمَ أَنَّ فِيهِ حَرَامًا وَشَكَّ فِي قَدْرِهِ، أَخْرَجَ الْقَدْرَ الْحَرَامَ بِالاِجْتِهَادِ (96) .
وَيَمْنَعُ وَالِي الْحِسْبَةِ النَّاسَ مِنَ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَمْنَعُ مِنَ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الآْخِذَ وَالْمُعْطِيَ (97) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (حِسْبَةٌ ف 34) .
__________
(1) المصباح المنير مادة (كسب) ، والكسب للإمام محمد بن الحسن الشيباني ص 32 بتحقيق سهل زكار.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) القاموس المحيط، والمصباح المنير.
(4) نهاية المحتاج 6 / 253.
(5) المعجم الوسيط.
(6) المصباح المنير مادة (ربح) .
(7) قواعد الفقه للبركتي.
(8) مختار الصحاح.
(9) بدائع الصنائع 2 / 47، 48، 319، والتاج والإكليل مع مواهب الجليل 2 / 342، والمهذب 2 / 42.
(10) الفتاوى الهندية 5 / 348، والكسب لمحمد بن الحسن ص 57، ومطالب أولي النهى 6 / 341، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 278.
(11) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يحبس. . . " أخرجه مسلم (2 / 692) من حديث عبد الله بن عمرو.
(12) الفتاوى الهندية 5 / 349، والكسب ص 58.
(13) حديث: " أن النبي ﷺ كان يحبس لأهله قوت سنتهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 502) من حديث عمر بن الخطاب.
(14) الفتاوى الهندية 5 / 349، والكسب ص 60، ومطالب أولي النهى 6 / 342.
(15) مطالب أولي النهى 6 / 341، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 178، والفتاوى الهندية 5 / 349، والكسب ص 60.
(16) الفتاوى الهندية 5 / 349، ومطالب أولي النهى 6 / 342.
(17) تنبيه الغافلين 2 / 500 - 501.
(18) إحياء علوم الدين 2 / 66.
(19) الكسب ص 48، والمبسوط 30 / 251، والآداب الشرعية 3 / 280، ومطالب أولي النهى 6 / 341، والمدخل لابن الحاج 4 / 299 - 300.
(20) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2 / 223) من حديث جابر وقواه السخاوي في المقاصد الحسنة ص325.
(21) حديث: " العبادة عشرة أجزاء " وحديث: " الجهاد عشرة أجزاء. . . " أوردهما السرخسي في المبسوط (30 / 252) ولم نعثر عليهما فيما لدينا من مراجع السنن.
(22) الكسب ص48 - 49، والمبسوط 30 / 251 - 252.
(23) الكسب ص 48 - 49، والمبسوط للسرخسي 30 / 251 - 252.
(24) أدب الدنيا والدين للماوردي 351 - 352 تحقيق محمد السواس ط. دار ابن كثير.
(25) الكسب ص 50، والمبسوط 30 / 252.
(26) أدب الدنيا والدين للماوردي 352.
(27) الكسب ص 44، والمبسوط 30 / 250.
(28) أدب الدنيا والدين للماوردي ص344 - 345 ط. دار ابن كثير.
(29) أي يمدحونه ويطنبون في الثناء عليه.
(30) حديث أبي قلابة: " أن رسول الله ﷺ كان يرافق بين أصحابه. . . " أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2 / 356) مرسلاً.
(31) سورة المائدة / 23.
(32) حديث: " لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله. . . " أخرجه الترمذي (4 / 573) من حديث عمر بن الخطاب، وقال: حديث حسن صحيح.
(33) المبسوط 30 / 247، وانظر الكسب ص 37 وما بعدها.
(34) أدب الدنيا والدين للماوردي ص333 - 334.
(35) أدب الدنيا والدين للماوردي ص335 - 336، وانظر روضة الطالبين 3 / 281.
(36) المبسوط 30 / 258 - 259، والكسب ص 63.
(37) الاختيار 4 / 171، والفتاوى الهندية 5 / 349.
(38) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " تقدم تخريجه ف7.
(39) الكسب ص 64 - 65، والمبسوط 30 / 259، والفتاوى الهندية 5 / 348.
(40) حديث: " ما من مسلم يغرس غرسًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 3) ومسلم (3 / 1189) من حديث أنس بن مالك.
(41) الفتاوى الهندية 5 / 349، والمبسوط 30 / 259، والكسب ص 64.
(42) الاختيار 4 / 171، والفتاوى الهندية 5 / 349.
(43) حديث: " ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 303) من حديث المقدام بن معد يكرب.
(44) روضة الطالبين 3 / 281.
(45) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 3 / 225 ط. الحلبي، وإحياء علوم الدين 4 / 210 ط. مطبعة الاستقامة، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص 322.
(46) مختصر منهاج القاصدين ص 322، وإحياء علوم الدين 4 / 211 - 212.
(47) حديث: " من سأل وهو غني عن المسألة. . . " أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 624) وقال: رواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به.
(48) حديث: عبيد الله بن عدي بن الخيار: " أن رجلين أخبراه. . " أخرجه أبو داود (2 / 285) وصححه ابن عبد الهادي كما في نصب الراية (2 / 401) .
(49) حديث: " لا تحل الصدقة لغني. . . " أخرجه الترمذي (3 / 33) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن.
(50) سورة التوبة / 60.
(51) الكسب ص 90 - 91.
(52) بريقة محمودية 3 / 266.
(53) المرجع نفسه.
(54) الكسب ص 91.
(55) حديث: " ما آمن بي من بات شبعان. . . " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1 / 232) من حديث أنس بن مالك، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 168) وقال: رواه الطبراني والبزار، وإسناد البزار حسن.
(56) الاختيار 4 / 175.
(57) تبيين الحقائق 3 / 64، والدسوقي 2 / 522، ومغني المحتاج 3 / 448، وكشاف القناع 5 / 481.
(58) سورة البقرة / 280.
(59) حديث: أبي سعيد: " أن رجلاً أصيب في عهد رسول الله ﷺ. . . " أخرجه مسلم (3 / 1191) .
(60) الفتاوى الهندية 5 / 63، وتبيين الحقائق 5 / 199، ومعين الحكام 232، والشرح الصغير 3 / 359، ونهاية المحتاج 4 / 319، والمغني 4 / 495.
(61) نهاية المحتاج 4 / 319 - 320، ومغني المحتاج 2 / 154.
(62) حديث: " بيع النبي ﷺ سرقا في دينه. . " أخرجه الحاكم (2 / 54) وصححه ووافقه الذهبي.
(63) المغني 4 / 495، 496.
(64) الصاوي مع الشرح الصغير 3 / 359، وانظر منح الجليل 3 / 131 - 132.
(65) المنتقى شرح الموطأ للباجي 7 / 306، وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4 / 396.
(66) المنتقى 7 / 306.
(67) الاستذكار لابن عبد البر 27 / 288.
(68) الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 632 ط. باكستان، والحطاب 6 / 13، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 325، وتحفة الراكع والساجد لتقي الدين الجراعي الحنبلي ص 209.
(69) إعلام الساجد ص325 - 326، وتحفة الراكع والساجد ص209.
(70) إعلام الساجد ص 325 - 326.
(71) الحموي على الأشباه 2 / 632.
(72) الفتاوى الهندية 1 / 110.
(73) مطالب أولي النهى 1 / 175.
(74) الحطاب 6 / 13.
(75) مواهب الجليل 6 / 14، وإعلام الساجد ص 324 - 325، وتحفة الراكع والساجد ص 208.
(76) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد. . . " أخرجه الترمذي (3 / 601) وقال: حديث حسن غريب.
(77) مواهب الجليل 6 / 14.
(78) حاشية ابن عابدين 1 / 445، والحموي على الأشباه 2 / 633.
(79) مطالب أولي النهى 1 / 175.
(80) تحفة الراكع والساجد ص 208، ومواهب الجليل 6 / 14.
(81) إعلام الساجد ص 325.
(82) إعلام الساجد ص 324.
(83) مختصر منهاج القاصدين ص 86، وانظر إحياء علوم الدين 2 / 90.
(84) سورة البقرة / 172.
(85) سورة البقرة / 188.
(86) مختصر منهاج القاصدين 87.
(87) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 188 ط. المطبعة الأزهرية، وتنبيه الغافلين 2 / 501 وحديث: " لا يكسب عبد مالاً من حرام. . . " أخرجه أحمد (1 / 387) ، وأورده الهيثمي في المجمع (1 / 53) وقال: رواه أحمد، وإسناده بعضهم مستور، وأكثرهم ثقات.
(88) الزواجر 1 / 188. وحديث: " لا يربو لحم نبت. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 513) من حديث كعب بن عجرة وقال: حديث حسن.
(89) مختصر منهاج القاصدين ص 87 - 88 وانظر إحياء علوم الدين 2 / 95 ط. الحلبي.
(90) تفسير القرطبي 2 / 317، وانظر الزواجر 1 / 187 - 188.
(91) منحة الخالق على البحر الرائق 2 / 221، والطحطاوي على الدر 1 / 390، والفتاوى الهندية 5 / 349، وحاشية ابن عابدين 5 / 247، وكشاف القناع 4 / 115.
(92) المجموع 9 / 351، وانظر إحياء علوم الدين 2 / 127 - 133.
(93) المجموع 9 / 351، وانظر إحياء علوم الدين 1 / 129.
(94) الفتاوى الهندية 5 / 349، وحاشية ابن عابدين 5 / 247.
(95) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 193.
(96) المجموع 9 / 351.
(97) الأحكام السلطانية للماوردي ص 258.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 234/ 34
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".