المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
فعل ما يثاب عليه بعد معرفة من يُتقرب إليه به، وإن لم يتوقف على نية .ومن أمثلته قولهم : "كل قربة طاعة، ولا عكس ."
القُرْبَةُ: الوَسِيلَةُ وكُلُّ ما يُتَقَرَّبُ بِهِ كالطَّاعَةِ ونْحْوِها. وأَصْلُها مِن القُرْبِ، وهو: الدُّنُوُّ، يُقَال: قَرُبَ، يَقْرُبُ، قُرْباً وقُرْباناً وقُرْبَةً: إذا دَنا. وتُطْلَقُ القُرْبَةُ على الاقْتِرابِ، ومِنْهُ سُمِّيَ العَمَلُ الصّالِحُ قُرْبَةً؛ لأنَّ العَبْدَ يَطْلُبُ بِهِ الاِقْتِرابَ مِن اللهِ تعالى، ومِن مَعانيها أيضاً: الدَّرَجَةُ والمَكانَةُ. وجَمْعُها: قُرَبٌ وقُرُباتٌ.
يَرِد مُصطلَح (قُرْبَة) في مَواضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِن الفِقْهِ، منها: كتاب الصَّلاَةِ، باب: صِفَة الصَّلاةِ، وكتاب الاعْتِكافِ، باب: شُرُوط الاعْتِكافِ، وكتاب الأَضاحِي، باب: شُرُوط الذَّكاةِ، وكتاب الوَقْفِ، باب: صِفَة الوَقْفِ، وغَيْر ذلك مِن الأبواب.
قرب
فعل ما يثاب عليه بعد معرفة من يُتقرب إليه به، وإن لم يتوقف على نية.
* تهذيب اللغة : (9/110)
* مقاييس اللغة : (5/80)
* الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة : (ص 77)
* الكليات : (ص 724)
* الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة : (ص 77)
* المنثور في القواعد : (3/367)
* مختار الصحاح : (ص 250)
* لسان العرب : (1/662)
* تاج العروس : (4/7)
* التوقيف على مهمات التعاريف : (ص 269)
* القاموس الفقهي : (ص 298)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 360) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْبَةُ - بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالضَّمِّ لِلإِْتْبَاعِ - فِي اللُّغَةِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ قُرَبٌ وَقُرُبَاتٌ.
وَالْقُرْبَانُ - بِالضَّمِّ - مَا قُرِّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، تَقُول مِنْهُ: قَرَّبْتُ لِلَّهِ قُرْبَانًا، وَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ، أَيْ طَلَبَ بِهِ الْقُرْبَةَ عِنْدَهُ تَعَالَى، قَال اللَّيْثُ: الْقُرْبَانُ: مَا قَرَّبْتَ إِلَى اللَّهِ تَبْتَغِي بِذَلِكَ قُرْبَةً وَوَسِيلَةً (1) .
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْقُرْبَةَ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: الْقُرْبَةُ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ (2) .
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَال: الْقُرْبَةُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، أَوْ مَعَ الإِْحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ (3) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِبَادَةُ:
2 - الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، قَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ: فُلاَنٌ عَابِدٌ، وَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لأَِمْرِهِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ.
أَوْ هِيَ: فِعْلٌ لاَ يُرَادُ بِهِ إِلاَّ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ هِيَ أَنَّ الْقُرْبَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ عِبَادَةً وَقَدْ لاَ تَكُونُ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ، وَالْقُرْبَةُ الَّتِي لَيْسَتْ عِبَادَةً لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ.
ب - الطَّاعَةُ:
3 - الطَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِيَادُ وَالْمُوَافَقَةُ، يُقَال: أَطَاعَهُ إِطَاعَةً، أَيِ انْقَادَ لَهُ، وَالاِسْمُ: طَاعَةٌ (6) .
وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِعِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ، مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْكُلِّيَّاتِ: الطَّاعَةُ: فِعْل الْمَأْمُورَاتِ وَلَوْ نَدْبًا وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ وَلَوْ كَرَاهَةً (7) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ هِيَ: أَنَّ الْقُرْبَةَ أَخَصُّ مِنَ الطَّاعَةِ، لاِعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْبَةِ (8) .
وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ زَكَرِيَّا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، أَنَّ الْقُرْبَةَ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ.
وَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ.
وَالطَّاعَةُ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ، تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَوْ لاَ، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لأَِجْلِهِ أَوْ لاَ، فَنَحْوُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مِنْ كُل مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفُ وَالْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لاَ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةٌ لاَ قُرْبَةٌ وَلاَ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ لَيْسَ قُرْبَةً، لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُل بَعْدَهُ (9) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - مِنَ الْقُرَبِ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ كَالْفَرَائِضِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، فَهِيَ عِبَادَاتٌ مَقْصُودَةٌ شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ الاِهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً.
وَمِنَ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ الْقُرَبُ الَّتِي يُلْزِمُ الإِْنْسَانُ بِهَا نَفْسَهُ بِالنَّذْرِ (10) .
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ، كَالنَّوَافِل وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ (11) .
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ، إِذْ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ تَكُونُ قُرْبَةً بِنِيَّةِ إِرَادَةِ الثَّوَابِ بِهَا، كَالأَْفْعَال الْعَادِيَّةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْبَةُ، كَالطَّعَامِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ (12) .
وَمِنَ الْقُرُبَاتِ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَذَلِكَ كَالْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ، كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ إِذَا فَعَلَهَا الإِْنْسَانُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِمَّا لاَ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ فَلاَ يَحِل تَرْكُهُ لِسُنَّةٍ (13) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قُرْبَةٌ، فَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ﵁ الْتِزَامَهُ قِيَامَ اللَّيْل وَصِيَامَ النَّهَارِ وَاجْتِنَابَ النِّسَاءِ، وَقَال لَهُ: { أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي؟ فَقَال: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ، لَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. قَال: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ (14) ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنْ سَرْدِ الصَّوْمِ وَقِيَامِ اللَّيْل وَالاِخْتِصَاءِ، وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْفِطْرَ وَالنَّوْمَ ظَنًّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّهِمْ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ وَاعْتِدَاءٌ عَلَى مَا شَرَعَ (15) ، فَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (16) .
وَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ كَالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ لاَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا، وَكَالْوَصِيَّةِ مِنَ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ (17)
مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الْقُرْبَةُ:
5 - الْقُرُبَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ، أَوْ غَيْرَ عِبَادَةٍ كَالتَّبَرُّعَاتِ مِنْ صَدَقَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَوَقْفٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْقُرُبَاتُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلاَ تَصِحُّ قُرُبَاتُ الْعِبَادَةِ مِنَ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ (18) ، وَالصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا، قَال النَّوَوِيُّ: يُكْتَبُ لِلصَّبِيِّ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ مِنَ الطَّاعَاتِ: كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْقِرَاءَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ (19) ، وَحَدِيثُ صَلاَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ (20) ، وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَل النَّبِيُّ ﷺ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَْنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ. قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَل لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِْفْطَارِ (21) . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (22) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِغَر ف 32) وَمُصْطَلَحِ (جُنُون ف 11) .
وَإِنْ كَانَتِ الْقُرُبَاتُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا هُوَ مَالِيٌّ مِنْهَا أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ وَرُشْدٍ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ؛ لأَِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ وَعِتْقَهُ وَوَصِيَّتَهُ وَصَدَقَتَهُ صَحِيحَةٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ عُقُودٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ قُرُبَاتٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ (23) .
نِيَّةُ الْقُرْبَةِ:
6 - مِنَ الْقُرُبَاتِ مَا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَمِنْهَا مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.
أَوَّلاً: الْقُرُبَاتُ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ هِيَ كَمَا يَقُول الْقَرَافِيُّ: الَّتِي لاَ لَبْسَ فِيهَا، كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلاَلِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْ نِقَمِهِ، وَالرَّجَاءِ لِنِعَمِهِ، وَالتَّوَكُّل عَلَى كَرَمِهِ، وَالْحَيَاءِ مِنْ جَلاَلِهِ، وَالْمَحَبَّةِ لِجَمَالِهِ، وَالْمَهَابَةِ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيل، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ الأَْذْكَارِ، فَإِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِجَنَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (24) .
ثَانِيًا: الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهِيَ: الْعِبَادَاتُ، مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ مَنْدُوبَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ تَعْظِيمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلِهَا، وَالْخُضُوعُ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُل إِذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ بِالْفِعْل بِدُونِ الْمُعَظَّمِ مُحَالٌ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالنِّيَّاتِ (25) ، وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ فِي الْعِبَادَاتِ هِيَ إِخْلاَصُ الْعَمَل لِلَّهِ تَعَالَى (26) ، يَقُول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (27) .
وَنِيَّةُ الْقُرْبَةِ إِنَّمَا هِيَ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ، لِيَتَمَيَّزَ مَا لِلَّهِ عَنْ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ تَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ، وَيَظْهَرَ قَدْرُ تَعْظِيمِهِ لِرَبِّهِ (28) . فَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا تَكُونُ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ: الْغُسْل، يَكُونُ تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً، وَدَفْعُ الأَْمْوَال، يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً وَمُوَاصَلَةً عُرْفِيَّةً، وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، يَكُونُ عِبَادَةً وَحَاجَةً، وَحُضُورُ الْمَسَاجِدِ، يَكُونُ مَقْصُودًا لِلصَّلاَةِ وَتَفَرُّجًا يَجْرِي مَجْرَى اللَّذَّاتِ، وَالذَّبْحُ، قَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ الأَْكْل، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْقُرَبِ مِنْ غَيْرِهَا.
أَمَّا نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِي الْعِبَادَاتِ، فَهِيَ لِتَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهَا، لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: الصَّلاَةُ، تَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضٍ وَمَنْدُوبٍ، وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَضَاءً وَأَدَاءً، وَالْمَنْدُوبُ يَنْقَسِمُ إِلَى رَاتِبٍ كَالْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرِ، وَغَيْرِ رَاتِبٍ كَالنَّوَافِل، وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي قُرُبَاتِ الْمَال وَالصَّوْمِ وَالنُّسُكِ (29) .
ثَالِثًا: الأَْعْمَال الْوَاجِبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لاَ تُعْتَبَرُ قُرُبَاتٍ فِي ذَاتِهَا، لَكِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ قُرُبَاتٍ إِذَا نَوَى بِهَا الْقُرْبَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الَّتِي تَكُونُ صُوَرُ أَفْعَالِهَا كَافِيَةً فِي تَحْصِيل مَصَالِحِهَا، كَدَفْعِ الدُّيُونِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ، وَالأَْقَارِبِ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِل لَهَا، فَيَخْرُجُ الإِْنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا، فَمَنْ دَفَعَ دَيْنَهُ غَافِلاً عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ أَجْزَأَ عَنْهُ، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الْقُرْبَةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِامْتِثَال أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَصَل لَهُ الثَّوَابُ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَمِثْل ذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الأَْعْمَال، يَخْرُجُ الإِْنْسَانُ مِنْ عُهْدَتِهِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ فَإِنْ نَوَى بِتَرْكِهَا وَجْهَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّ التَّرْكَ يَصِيرُ قُرْبَةً وَيَحْصُل لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ لأَِجْل نِيَّةِ الْقُرْبَةِ (30) .
وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَإِنَّ صِفَتَهَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَتْ لأَِجْلِهِ، فَإِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقَوِّيَ عَلَى الطَّاعَاتِ، أَوِ التَّوَصُّل إِلَيْهَا كَانَتْ عِبَادَةً وَقُرْبَةً يُثَابُ عَلَيْهَا (31) .
وَفِي الْمَنْثُورِ: قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَرَدُّ السَّلاَمِ قُرْبَةٌ لاَ يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَقَطْعُ السَّرِقَةِ وَاسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ مِنَ الإِْمَامِ قُرْبَةٌ، وَلاَ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُثَبْ (32) .
الثَّوَابُ عَلَى الْقُرُبَاتِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
7 - يُثَابُ الإِْنْسَانُ وَيُعَاقَبُ عَلَى كَسْبِهِ وَاكْتِسَابِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِتَسَبُّبٍ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (33) ، وَقَال تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (34) ، أَيْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ جَزَاءُ سَعْيِهِ، وَقَال تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُل نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} (35) ، وَالْغَرَضُ بِالتَّكَالِيفِ تَعْظِيمُ الإِْلَهِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابُ مَعْصِيَتِهِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِيهِ (36) .
وَالثَّوَابُ عَلَى الْعَمَل فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَلاَ اسْتِحْقَاقَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّل عَلَى عَمَلٍ لأَِجْلِهِ بِجَعْل الثَّوَابِ لَهُ، كَمَا لَهُ أَنْ يَتَفَضَّل بِإِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَى غَيْرِ عَمَلٍ رَأْسًا (37) .
أَثَرُ الْقَصْدِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْقُرْبَةِ:
8 - قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الإِْنْسَانُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا تَمَيَّزَ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ، فَهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ مَهْمَا قَصَدَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْقُرْبَةَ كَالْمَعْرِفَةِ وَالإِْيمَانِ وَالأَْذَانِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ مِنَ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ، فَهَذَا لاَ يُثَابُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِنِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: نِيَّةُ إِيجَادِ الْفِعْل، وَالثَّانِيَةُ: نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ جَل، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ أُثِيبَ عَلَى أَجْزَائِهِ الَّتِي لاَ تَقِفُ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ كَالتَّسْبِيحَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ وَالتَّهْلِيلاَتِ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا شُرِعَ لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلاَ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الأُْخْرَوِيَّةُ إِلاَّ تَبَعًا، كَإِقْبَاضِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالصَّنَائِعِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا بَقَاءُ الْعَالَمِ، فَهَذَا لاَ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ جَل (38) .
وَقَدْ يَقُومُ الإِْنْسَانُ بِعَمَلٍ وَيَسْتَوْفِي شُرُوطَهُ وَأَرْكَانَهُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنَّوَايَا، وَلِذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ (39) .
كَمَا قَدْ يُتْبِعُ الإِْنْسَانُ الْعَمَل الصَّحِيحَ بِمَا يُضَيِّعُ ثَوَابَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَنُّ وَالأَْذَى يُبْطِل ثَوَابَ الصَّدَقَةِ (40) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى} (41) .
وَقَدْ يَعْمَل الإِْنْسَانُ الْعَمَل فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الصَّحِيحَ، فَقَدْ وَرَدَ حَدِيثَانِ يُؤَيِّدَانِ هَذَا الْمَعْنَى، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ سَارِقٍ وَزَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَفِي نِهَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُل أُتِيَ فَقِيل لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ (42) .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُل الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ، وَقَال لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ (43) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ (44) .
نَقْل ثَوَابِ الْقُرْبَةِ لِلْغَيْرِ:
9 - تَنْقَسِمُ الْقُرُبَاتُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ، وَلَمْ يَجْعَل لَهُمْ نَقْلَهُ لِغَيْرِهِمْ، كَالإِْيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَهَبَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إِيمَانَهُ لِيَدْخُل الْجَنَّةَ دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هِبَةُ ثَوَابِ مَا سَبَقَ مَعَ بَقَاءِ الأَْصْل، لاَ سَبِيل إِلَيْهِ.
وَقِسْمٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي نَقْل ثَوَابِهِ، وَهُوَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ.
وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ (45) ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ نَقْل ثَوَابِ مَا أَتَى بِهِ الإِْنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْحْيَاءِ وَالأَْمْوَاتِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ جَعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْمْوَاتِ وَالأَْحْيَاءِ جَازَ، وَيَصِل ثَوَابُهُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ " عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ { أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَيَذْبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلاَغِ، وَذَبَحَ الآْخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ وَآل مُحَمَّدٍ (46)
وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّ رَجُلاً قَال لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا (47) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَعَلَى ذَلِكَ عَمَل الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا، وَالتَّكْفِينِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، وَجَعْل ثَوَابِهَا لِلأَْمْوَاتِ (48) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَيَّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا الإِْنْسَانُ وَجَعَل ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: كَالدُّعَاءِ وَالاِسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَاجِبَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ (49) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَجُوزُ نَقْل ثَوَابِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَى الْغَيْرِ، وَلاَ يَحْصُل شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (50) ، وَقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (51) ، وَيَجُوزُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَالصَّدَقَاتِ (52) .
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: تَنْفَعُ الْمَيِّتَ صَدَقَةٌ عَنْهُ، وَوَقْفٌ وَبِنَاءُ مَسْجِدٍ، وَحَفْرُ بِئْرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَدُعَاءٌ لَهُ مِنْ وَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ كَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَكِنْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالأَْذْكَارِ وَجْهًا، أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِل إِلَى الْمَيِّتِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الأَْصْحَابِ (53) .
الأَْجْرُ عَلَى الْقُرُبَاتِ:
10 - الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ وَلاَ يَتَعَدَّى نَفْعُهَا فَاعِلَهَا كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ الأَْجْرَ عِوَضُ الاِنْتِفَاعِ وَلَمْ يَحْصُل لِغَيْرِهِ هَاهُنَا انْتِفَاعٌ؛ وَلأَِنَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ يَقَعُ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (54) .
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا لِلْغَيْرِ كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ كَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الأَْفْعَال كَوْنَهَا قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهَا.
لَكِنْ أَجَازَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ اسْتِحْسَانًا وَمِثْل ذَلِكَ الإِْمَامَةُ وَالأَْذَانُ لِلْحَاجَةِ.
أَمَّا مَا يَقَعُ تَارَةً قُرْبَةً وَتَارَةً غَيْرَ قُرْبَةٍ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ (55) .
وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الْقُرُبَاتِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا كَالْقَضَاءِ، لاَ يُعْتَبَرُ أَجْرًا، يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً، بَل رِزْقٌ لِلإِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَنْ عَمِل مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ، وَمَا يَأْخُذُهُ فَهُوَ رِزْقٌ لِلْمَعُونَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَال الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَال الْبِرِّ، وَالْمُوصَى بِهِ كَذَلِكَ وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ، لَيْسَ كَالأُْجْرَةِ (56) .
وَذَهَبَ الْقَرَافِيُّ إِلَى أَنَّ بَابَ الأَْرْزَاقِ أَدْخَل فِي بَابِ الإِْحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الإِْجَارَةِ أَبْعَدُ مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَل فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي مَسَائِل مِنْهَا: الْقُضَاةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الْقَضَاءِ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرُوا عَلَى الْقَضَاءِ بِسَبَبِ أَنَّ الأَْرْزَاقَ إِعَانَةٌ مِنَ الإِْمَامِ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، لاَ أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ وَنُهُوضِهَا، وَلَوِ اسْتُؤْجِرُوا عَلَى ذَلِكَ لَدَخَلَتِ التُّهْمَةُ فِي الْحُكْمِ بِمُعَاوَضَةِ صَاحِبِ الْعِوَضِ، وَيَجُوزُ فِي الأَْرْزَاقِ الَّتِي تُطْلَقُ لِلْقَاضِي الدَّفْعُ وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيل وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ، وَلَوْ كَانَ إِجَارَةً لَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ (57) . وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ وَالإِْمَامَةُ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَهُوَ نَفَقَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا (58) .
النِّيَابَةُ فِي الْقُرْبَةِ:
11 - مِنَ الْقُرُبَاتِ مَا لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ بِالإِْجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ، مِثْل الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ عَنِ الْحَيِّ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ، إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَأَمَّا قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ (59) ، فَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُهْدَةِ لاَ فِي حَقِّ الثَّوَابِ.
وَمِنَ الْقُرُبَاتِ مَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ بِالإِْجْمَاعِ، وَهِيَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالإِْبْرَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الإِْنْسَانُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ بِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَال، وَهُوَ يَحْصُل بِفِعْل النَّائِبِ.
أَمَّا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ، وَقَال الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرَمِ، وَقَال أَشْهَبُ: إِنْ أَجَّرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلاَفِ (60) .
أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، كَذَلِكَ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِحْجَاجِ رَجُلٍ عَنْهُ جَازَ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عَنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا الصَّوْمُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ لِمَنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، أَحَدُهُمَا لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (61) ، وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الأَْظْهَرُ، أَمَّا الْحَجُّ فَمَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَلَمْ يُؤَدِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَال: أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ ﷺ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: حُجِّي عَنْهَا (62) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبَيْنِ بِأَصْل الشَّرْعِ - أَيِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ - لأَِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ، أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ وَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ، سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْل النَّذْرِ عَنْهُ (63) . الإِْيثَارُ بِالْقُرَبِ:
12 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي حَاشِيَةِ الأَْشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ عَنِ الْمُضْمِرَاتِ عَنِ النِّصَابِ: وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل فَدَخَل رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْل عِلْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ. اهـ
فَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الإِْيثَارِ بِالْقُرَبِ بِلاَ كَرَاهَةٍ، وَنَقَل الْعَلاَّمَةُ الْبِيرِيُّ فُرُوعًا تَدُل عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ، وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (64) ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ ﵊ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَال لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَال الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ، لاَ أُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَال: فَتَلَّهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي يَدِهِ (65) ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى طَلَبِ الإِْذْنِ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ بِلاَ كَرَاهَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَل مِنْهُ. أهـ.
أَقُول: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إِذَا عَارَضَ تِلْكَ الْقُرْبَةَ مَا هُوَ أَفْضَل مِنْهَا، كَاحْتِرَامِ أَهْل الْعِلْمِ وَالأَْشْيَاخِ كَمَا أَفَادَهُ الْفَرْعُ السَّابِقُ وَالْحَدِيثُ. . .، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل عَلَيْهِ مَا فِي النَّهْرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الإِْيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ الأَْوَّل فَلَمَّا أُقِيمَتْ آثَرَ بِهِ، وَقَوَاعِدُنَا لاَ تَأْبَاهُ (66) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: الإِْيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ، وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ، قَال تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (67) .
قَال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لاَ إِيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ، فَلاَ إِيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ، وَلاَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلاَ بِالصَّفِّ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ وَالإِْجْلاَل، فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إِجْلاَل الإِْلَهِ وَتَعْظِيمَهُ.
وَقَال الإِْمَامُ: لَوْ دَخَل الْوَقْتُ - وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ - فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ، لاَ أَعْرِفُ فِيهِ خِلاَفًا؛ لأَِنَّ الإِْيثَارَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ، لاَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ: لاَ يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ، فَإِنِ انْتَقَل إِلَى أَبْعَدَ مِنَ الإِْمَامِ كُرِهَ، قَال أَصْحَابُنَا: لأَِنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ.
وَقَال الْقَرَافِيُّ: مَنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ، وَمَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْيثَارُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ إِيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ لاِسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ فَلاَ يَسُوغُ فِيهِ الإِْيثَارُ، وَالْحَقُّ فِي حَال الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُهْجَتَيْنِ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ إِلاَّ وَاحِدَةً تُسْتَدْرَكُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ، فَحَسُنَ إِيثَارُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَال الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ: كَرِهَ قَوْمٌ إِيثَارَ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ؛ لأَِنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَيْهِ قُرْبَةٌ وَالإِْيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ (68) .
مَرَاتِبُ الْقُرُبَاتِ:
13 - أ - أَفْضَل الْقُرُبَاتِ هُوَ الإِْيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ سُئِل النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (69) ، جَعَل النَّبِيُّ ﷺ الإِْيمَانَ أَفْضَل الأَْعْمَال، لِجَلْبِهِ لأَِحْسَنِ الْمَصَالِحِ وَدَرْئِهِ لأَِقْبَحِ الْمَفَاسِدِ مَعَ شَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَرَفِ مُتَعَلَّقِهِ، وَثَوَابُهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ، وَالْخُلُوصُ مِنَ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ (70) .
ب - ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لأَُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ (71) .
جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ، وَفِي الإِْتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَال الأَْمْرِ وَاحْتِرَامُ الآْمِرِ، وَتَعْظِيمُهُ بِالاِنْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذُل الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَل (72) .
ج - وَبَعْدَ مَنْزِلَةِ الْفَرَائِضِ فِي الْقُرْبَةِ تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّوَافِل، بِدَلِيل مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، قَال الْفَاكِهَانِيُّ: إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ الْفَرَائِضَ وَدَاوَمَ عَلَى إِتْيَانِ النَّوَافِل، نَال مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُل فَرِيضَةٍ تُقَدَّمُ عَلَى نَوْعِهَا مِنَ النَّوَافِل كَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَفَرَائِضِ الصِّيَامِ عَلَى نَوَافِلِهِ وَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَهَكَذَا (73) .
د - وَإِذَا كَانَتْ قُرَبُ الْفَرَائِضِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الإِْيمَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَل هَذِهِ الْفَرَائِضِ، فَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ أَفْضَل الأَْعْمَال لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةُ (74) ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلاَةُ، وَقِيل: إِنَّ الصِّيَامَ أَفْضَل، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: كُل عَمَل ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ (75) ، وَقِيل: إِنَّ الْحَجَّ أَفْضَل الأَْعْمَال (76) .
هـ - وَالْقُرَبُ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْقُرَبِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ لأَِنَّ طَلَبَ الْفِعْل مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّتَهُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنَ الْبَعْضِ فَقَطْ؛ وَلأَِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكْرَارِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْل، وَفَرْضُ الأَْعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْل، وَالْفِعْل الَّذِي تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الَّذِي لاَ تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إِلاَّ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ (77) .
و عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَال الإِْنْسَانِ، فَقَدْ سُئِل النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَل أَفْضَل؟ فَقَال: الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا، وَسُئِل: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَسُئِل أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَهَذَا جَوَابٌ لِسُؤَال السَّائِل، فَيَخْتَصُّ بِمَا يَلِيقُ بِالسَّائِل مِنَ الأَْعْمَال؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الأَْفْضَل إِلاَّ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى ذِي الْجَلاَل، فَكَأَنَّ السَّائِل قَال: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل لِي فَقَال: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ "، لِمَنْ لَهُ وَالِدَانِ يَشْتَغِل بِبِرِّهِمَا، وَقَال لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَل الأَْعْمَال بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ (78) ، وَقَال لِمَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ: الصَّلاَةُ لأَِوَّل وَقْتِهَا (79) .
ز - وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَرَاتِبِ النَّوَافِل مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ نَوَافِل الصَّلاَةِ أَفْضَل مِنْ تَطَوُّعِ غَيْرِهَا لأَِنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، لِجَمْعِهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ لاَ تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَفْضَل تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} (80) ، ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، ثُمَّ الصَّلاَةُ (81) .
ح - أَمَّا الْقُرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَمَرْتَبَتُهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: مَرَاتِبُ الْقُرَبِ تَتَفَاوَتُ، فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ، وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ؛ لأَِنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ، وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنَ الْكُل، لأَِنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنَ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَال (82) ، وَقِيل: إِنَّ الْقَرْضَ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ (83) ؛ لأَِنَّ " رَسُول اللَّهِ ﷺ رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمٍ، وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ، فَسَأَل جِبْرِيل: مَا بَال الْقَرْضِ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَال: لأَِنَّ السَّائِل يَسْأَل وَعِنْدَهُ أَيْ مَا يَكْفِيهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ (84) .
وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ - لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ - أَفْضَل مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْل الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْل تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةَ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ (85) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (86) .
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْضَل مِنَ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ (87) .
وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الإِْحْيَاءِ: أَنَّ فَضْل الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَتَصَدُّقُ الْبَخِيل بِدِرْهَمٍ أَفْضَل فِي حَقِّهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ أَيَّامٍ (88) .
نَذْرُ الْقُرْبَةِ:
14 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَذْرِ مَا يُعْتَبَرُ قُرْبَةً مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ الاِهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً، فَهَذَا النَّذْرُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقُرْبَةِ الْمَنْذُورَةِ أَنْ لاَ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الإِْنْسَانِ ابْتِدَاءً، كَالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لاَزِمٌ لَهُ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ مُوَضِّحًا مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ: قَال أَصْحَابُنَا: نَذْرُ الْوَاجِبِ كَالصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ لاَ يَنْعَقِدُ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَنْعَقِدَ نَذْرُهُ مُوجِبًا كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِنْ تَرَكَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ.
لَكِنْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي الْوَاجِبِ، كَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَنَحْوُهُ كَصَلاَةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَال: وَعِنْدَ الأَْكْثَرِ لاَ يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ (89) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَذْرِ الْقُرَبِ الَّتِي لاَ أَصْل لَهَا فِي الْفُرُوضِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَدُخُول الْمَسْجِدِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ نَذْرِ هَذِهِ الْقُرَبِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَصِحُّ هَذَا النَّذْرُ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا لاَ أَصْل لَهُ فِي الْفُرُوضِ لاَ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِ مِثْل هَذِهِ الْقُرَبِ (90) .
الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ:
15 - تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ خَتْمُ عَمَلِهِ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ، فَتَزِيدُ بِهَا حَسَنَاتُهُ، وَقَدْ تَكُونُ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِيُدْرِكَ بِهَا مَا فَاتَ. وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ (91) وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ، وَلِهَذَا لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا لاَ قُرْبَةَ فِيهِ كَوَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَنِيسَةِ (92) .
وَقَدْ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إِذَا كَانَ عَلَى الإِْنْسَانِ قُرَبٌ وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ (93) .
وَرَغْمَ أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ لاَ تَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْقُرَبِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا لِلصَّبِيِّ، فَصَحَّ مِنْهُ كَالإِْسْلاَمِ وَالصَّلاَةِ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ يَحْصُل ثَوَابُهَا لَهُ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْ مِلْكِهِ وَمَالِهِ، فَلاَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي عَاجِل دُنْيَاهُ وَلاَ أُخْرَاهُ (94) .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتِ الْفَرَائِضُ مِنْهَا، سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْل الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لأَِنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنَ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الأَْهَمُّ، فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إِذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالأَْهَمِّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْقُرْآنِ دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ حَيْثُ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الأُْضْحِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ، وَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا.
فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إِلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ (95) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَمَّا أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فَكُّ أَسِيرٍ، ثُمَّ مُدَبَّرٍ فِي حَال الصِّحَّةِ، ثُمَّ صَدَاقُ مَرِيضٍ، ثُمَّ زَكَاةٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مَالِهِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَاقِي ثُلُثِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِحُلُول الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْحَوْل فَتَخْرُجَ مِنْ رَأْسِ الْمَال، كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إِنْ مَاتَ الْمَالِكُ بَعْدَ إِفْرَاكِ الْحَبِّ وَطِيبِ الثَّمَرِ وَمَجِيءِ السَّاعِي، فَتَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ بَاقِي الثُّلُثِ زَكَاةَ الْفِطْرِ الَّتِي فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَقَتْل خَطَأٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ (96) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَصَّى بِشَيْءٍ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ صُرِفَ فِي الْقُرَبِ جَمِيعِهَا، لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْمُخَصِّصِ، وَيَبْدَأُ مِنْهَا بِالْغَزْوِ نَصًّا، لِقَوْل أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّهُ أَفْضَل الْقُرَبِ، وَلَوْ قَال الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَيْثُ يُرِيكَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَهُ صَرْفُهُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ رَأَى وَضْعَهُ فِيهَا عَمَلاً بِمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ، وَالأَْفْضَل صَرْفُهُ إِلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِ الْمُوصِي غَيْرِ الْوَارِثِينَ؛ لأَِنَّهُ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (97) .
الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ:
16 - الأَْصْل فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، إِذْ هُوَ حَبْسُ الأَْصْل وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَال أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَال: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيل، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ فِيهِ (98) .
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (99) .
وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً (100) .
وَالْوَقْفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ هُوَ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَالْقُرْبَةُ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ بِوَقْفِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَقْفُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ كَالصَّلاَةِ وَالْحَجِّ، بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ أَصْلاً، بَل التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ (101) .
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: الْوَقْفُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ فِي وَقْفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ تَوَدُّدًا، أَوْ عَلَى أَوْلاَدِهِ خَشْيَةَ بَيْعِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِتْلاَفِ ثَمَنِهِ، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فَيُبَاعَ فِي دَيْنِهِ، أَوْ رِيَاءً وَنَحْوَهُ، فَهَذَا وَقْفٌ لاَزِمٌ لاَ ثَوَابَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى (102) .
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّهُ لاَ قُرْبَةَ فِيهِ، جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: إِنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالأَْغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الأَْصَحِّ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ. وَالثَّانِي: لاَ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ وَأَهْل الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ (103) .
وَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: يُشْتَرَطُ فِي مَحَل الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى ذَاتِهِ وَصُورَتِهِ قُرْبَةً، وَالْمُرَادُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ يَكُونُ قُرْبَةً حَمْلاً عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي وَقْفِ الْمُسْلِمِ (1) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 72.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 237.
(4) لسان العرب.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 72، 2 / 237.
(6) لسان العرب والمصباح المنير.
(7) الكليات للكفوي 3 / 156.
(8) الكليات للكفوي 3 / 156.
(9) حاشية ابن عابدين 1 / 72.
(10) حاشية ابن عابدين 1 / 72، والبدائع 5 / 82، والاختيار 4 / 76، وروضة الطالبين 3 / 301، والفروق 1 / 130.
(11) حاشية ابن عابدين 1 / 72، والمنثور في القواعد 3 / 61، والحطاب 2 / 545.
(12) المنثور في القواعد 3 / 287، والأشباه لابن نجيم ص 24.
(13) المنثور 3 / 278.
(14) حديث: " أرغبت عن سنتي؟ . . . " أخرجه أبو داود (2 / 101) .
(15) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 174.
(16) سورة المائدة / 87.
(17) مغني المحتاج 3 / 122، وشرح منتهى الإرادات 2 / 540.
(18) البحر المحيط 1 / 415 - 416، والمنثور للزركشي 3 / 99، والمغني 5 / 555.
(19) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334) ، والحاكم (1 / 197) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم.
(20) حديث: أن ابن عباس صلى مع النبي ﷺ صلاة العيد. أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 190) .
(21) حديث: الربيع بنت معوذ: " أرسل النبي ﷺ غداة عاشوراء. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 200) .
(22) المجموع للنووي 7 / 34 تحقيق المطيعي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 119.
(23) مغني المحتاج 4 / 354، والبحر المحيط 1 / 415.
(24) الذخيرة ص 237، والمنثور في القواعد 3 / 288.
(25) الذخيرة ص 240، والفروق للقرافي 1 / 130.
(26) المنثور 3 / 285، والذخيرة ص 235.
(27) سورة البينة / 5.
(28) الذخيرة للقرافي ص 236، والأشباه للسيوطي ص 13، والأشباه لابن نجيم ص 29، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 285.
(29) الأشباه للسيوطي ص 13، والأشباه لابن نجيم ص 29، والذخيرة للقرافي ص 236 - 237، وقواعد الأحكام 1 / 176 - 177.
(30) الفروق للقرافي 2 / 50 و1 / 130، والذخيرة ص 240، والمنثور 3 / 61، 287، 288، والأشباه لابن نجيم ص 23، وقواعد الأحكام 1 / 176 - 177.
(31) الأشباه لابن نجيم ص 23، والمنثور 3 / 287، والفروق للقرافي 1 / 130.
(32) المنثور 3 / 61.
(33) سورة الطور / 16.
(34) سورة النجم / 39.
(35) سورة الأنعام / 164.
(36) قواعد الأحكام 1 / 114 ط. دار الكتب العلمية بيروت.
(37) بدائع الصنائع 2 / 212.
(38) قواعد الأحكام 1 / 149 ط. دار الكتب العلمية بيروت.
(39) حديث: " إنما الأعمال بالنية. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ، ومسلم (3 / 1515 - 1516) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ لمسلم.
(40) الموافقات للشاطبي 1 / 292، وفتح الباري 3 / 277.
(41) سورة البقرة / 264.
(42) حديث: " المتصدق الذي وقعت صدقته في يد سارق وزانية وغني. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 290) .
(43) حديث " معن بن يزيد الذي أخذ صدقة أبيه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 291) .
(44) فتح الباري 3 / 290 - 291.
(45) الفروق للقرافي 3 / 192، ومنح الجليل 1 / 306.
(46) حديث: أن رسول الله ﷺ " كان إذا أراد أن يضحي. . . " أخرجه أحمد (6 / 225) من حديث عائشة.
(47) حديث: عائشة " أن رجلاً قال للنبي ﷺ. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 388 - 389) ومعنى افتلتت في الحديث: ماتت فجأة.
(48) بدائع الصنائع 2 / 212.
(49) المغني لابن قدامة 2 / 567 - 568 - 569، وشرح منتهى الإرادات 1 / 362.
(50) سورة النجم / 39.
(51) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عمله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1255) من حديث أبي هريرة.
(52) الفروق للقرافي 3 / 192، ومنح الجليل 1 / 306، 442.
(53) مغني المحتاج 3 / 69 - 70، والمنثور 3 / 312.
(54) البدائع 4 / 191، وجواهر الإكليل 2 / 189، ومغني المحتاج 2 / 344، والمغني 5 / 559.
(55) البدائع 4 / 191، وحاشية ابن عابدين 5 / 34 - 35، والهداية 3 / 247، وجواهر الإكليل 2 / 188 - 189، ومغني المحتاج 2 / 344، والمنثور 3 / 30 - 31، والمغني 3 / 231 و5 / 555، 559.
(56) الاختيارات لابن تيمية ص 153.
(57) الفروق للقرافي 3 / 3.
(58) المغني 3 / 231.
(59) أثر ابن عباس: لا يصلي أحد عن أحد. أخرجه النسائي في سننه الكبرى (2 / 341) ، وصحح إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 209) .
(60) البدائع 2 / 103، 212، وحاشية ابن عابدين 2 / 236، 237، ومنح الجليل 1 / 442، 449 و 3 / 352، والحطاب 2 / 543، 544، والفروق 2 / 205 و3 / 185 - 186، والمهذب 1 / 206، والمنثور 3 / 312، ومغني المحتاج 1 / 468، و 3 / 67 - 70، والقليوبي 3 / 73، ومنتهى الإرادات 1 / 121، 418، 457، والمغني 9 / 30 - 31.
(61) حديث: " من مات وعليه صوم صام عنه وليه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 192) ، ومسلم (2 / 803) من حديث عائشة.
(62) حديث بريدة: " أتت النبي ﷺ امرأة. . . " أخرجه مسلم (2 / 805) .
(63) البدائع 2 / 103، 212، وحاشية ابن عابدين 2 / 236، 237، منح الجليل 1 / 442، 449، و 3 / 352، والحطاب 2 / 543، 544، والفروق 2 / 205 و 3 / 185 - 186، والمهذب 1 / 206، والمنثور 3 / 312، ومغني المحتاج 1 / 468 و 3 / 87 إلى 70، والقليوبي 3 / 73، ومنتهى الإرادات 1 / 121، 418، 457، والمغني 9 / 30، 31.
(64) سورة الحشر / 9.
(65) حديث: " أنه ﵊ أتى بشراب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1604) .
(66) حاشية ابن عابدين 1 / 382 - 383.
(67) سورة الحشر / 9.
(68) الأشباه للسيوطي ص 129 - 130.
(69) حديث سئل النبي ﷺ: " أي الأعمال أفضل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 380) ، ومسلم (1 / 88) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(70) قواعد الأحكام 1 / 46 - 47، والفروق 2 / 215.
(71) حديث " إن الله قال من عادى لي وليًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 340 - 341) .
(72) الفروق 2 / 122، وقواعد الأحكام 1 / 55، وفتح الباري 11 / 341 - 343.
(73) قواعد الأحكام 1 / 55، والفروق 2 / 122، وفتح الباري 11 / 343.
(74) حديث: " اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة " أخرجه ابن ماجه (1 / 101 - 102) ، والحاكم (1 / 130) من حديث ثوبان، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(75) حديث: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 118) ، ومسلم (2 / 806) من حديث أبي هريرة.
(76) الفروق 1 / 133، والمجموع شرح المهذب 3 / 457 تحقيق المطيعي، وقواعد الأحكام 1 / 55 - 56، والحطاب 2 / 538.
(77) تهذيب الفروق بهامش الفروق 2 / 201.
(78) أحاديث: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، وحج مبرور، والجهاد في سبيل الله. أخرجها البخاري (فتح الباري 1 / 77، 10 / 400) .
(79) قواعد الأحكام 1 / 56.
(80) سورة النساء / 95.
(81) الشرح الصغير 1 / 145 ط. الحلبي، والمهذب 1 / 89، والمجموع 2 / 456 - 459، وشرح منتهى الإرادات 1 / 222 - 223.
(82) المنثور 3 / 62.
(83) منح الجليل 3 / 46، والمهذب 1 / 309.
(84) حديث " أن رسول الله ﷺ رأى ليلة أسري به مكتوبًا على باب الجنة. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 812) من حديث أنس بن مالك، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 47) .
(85) الاختيار 4 / 172.
(86) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2 / 223) من حديث جابر بن عبد الله.
(87) الأشباه ص 174.
(88) المنثور 2 / 421 - 422.
(89) بدائع الصنائع 5 / 82، وحاشية الدسوقي 2 / 162، والمواق بهامش الحطاب 3 / 316، وروضة الطالبين 3 / 301، وحاشية الجمل 5 / 323، والمغني 9 / 1 - 6، ومنتهى الإرادات 3 / 449.
(90) البدائع 5 / 83، والدسوقي 2 / 162، وروضة الطالبين 3 / 302، وحاشية الجمل 5 / 323، والمغني 9 / 2، وشرح منتهى الإرادات 3 / 450.
(91) حديث: " إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 904) من حديث أبي هريرة، والرواية الثانية للبيهقي (6 / 269) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 98) ، وأشار ابن حجر في " بلوغ المرام " (ص 323) إلى تقويته بطرقه.
(92) بدائع الصنائع 7 / 330، ومنح الجليل 4 / 643، 649، والمهذب 1 / 458، ومغني المحتاج 3 / 39، والمغني 9 / 2 - 3.
(93) البدائع 7 / 330، ومغني المحتاج 3 / 39، والمغني 9 / 1، ومنح الجليل 4 / 643.
(94) المغني 9 / 101، ومغني المحتاج 3 / 39، ومنح الجليل 4 / 643.
(95) الهداية 4 / 247 - 248.
(96) جواهر الإكليل 2 / 322 - 323.
(97) شرح منتهى الإرادات 2 / 550.
(98) حديث ابن عمر: " أصاب عمر بخيبر أرضًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 399) .
(99) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله. . . " تقدم فقرة (9) .
(100) منح الجليل 4 / 34، والخرشي 7 / 81، والاختيار 3 / 40 - 41، والمهذب 1 / 447، ومغني المحتاج 2 / 376، والمغني 5 / 597 - 598، وشرح منتهى الإرادات 2 / 489.
(101) حاشية ابن عابدين 3 / 358.
(102) شرح منتهى الإرادات 2 / 490، ومغني المحتاج 2 / 381، والدسوقي 4 / 77.
(103) مغني المحتاج 2 / 381.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 92/ 33
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".