الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
التَّزْكِيَةُ: مَصْدَرُ زَكَّى، يُقالُ: زَكَّى فلانٌ فلاناً: إذا نَسَبَهُ إلى الزَّكاءِ، وهو الصَّلاحُ، وزَكَّى الشُّهودَ تَزْكِيَةً: مَدَحَهُمْ وعْدَّلَهُمْ ووَصَفَهُم بِأنّهُم أزْكِياءُ، ومِن معاني التَّزْكِيَةُ: التَّطْهيرُ والزِّيادَةُ والنَّماءُ والمَدْحُ، يُقالُ: زَكَّى نَفْسَهُ، أيْ: طَهَّرَها ومَدَحَها، وزَكَّى مالَهُ: إذا نَمّاهُ وزادَهُ وأَصْلَحَهُ.
يَرِد مُصْطلَح (تَزْكِيَة) في كِتابِ الزَّكاةِ، ويُرادُ به: إِخْراجُ القَدْرِ الواجِبِ في المالِ.
زكى
بَيانُ صَلاحِيَّةِ الشَّخْصِ لِلشَّهادَةِ على غَيْرِه.
التَّزْكِيَةُ: هي إِظْهارُ شَخْصٍ صَلاحِيَّةَ شَخْصٍ آخَرَ للشَّهادَةِ؛ بِذِكْرِ صِفاتِهِ الحَسَنَةِ، كالصِّدْقِ والأَمانَةِ ونحْوِهما. والتَّزْكِيَةُ قِسْمانِ: 1- تَزْكِيَةٌ لِلأَشْخاصِ، وهي الـمَقْصودَةُ في بابِ الشَّهادَةِ. 2- تَزْكِيَةٌ لِلأَعْمالِ، ويُرادُ بِها: الاِسْتِقامَةُ على طاعَةِ اللهِ تعالى.
التَّزْكِيَةُ: مَصْدَرُ زَكَّى، يُقالُ: زَكَّى فلانٌ فلاناً: إذا نَسَبَهُ إلى الزَّكاءِ، وهو الصَّلاحُ، وزَكَّى الشُّهودَ، تَزْكِيَةً: مَدَحَهُمْ وعْدَّلَهُم ووَصَفَهُم بِأَنَّهُمْ أزْكِياءُ، ومِن معاني التَّزْكِيَةُ: التَّطْهيرُ والزِّيادَةُ والنَّماءُ والمَدْحُ.
شهادة اثنين لآخر بالصلاح، والعدالة.
* مشارق الأنوار : (1/310)
* المغرب في ترتيب المعرب : (ص 366)
* لسان العرب : (14/358)
* المعجم الوسيط : (1/396)
* المصباح المنير في غريب الشرح الكبير : (ص 254)
* التوقيف على مهمات التعاريف : (ص 174)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 129)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (11/238)
* معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية : (2/203) -
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّزْكِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ زَكَّى. يُقَال: زَكَّى فُلاَنٌ فُلاَنًا: إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الزَّكَاءِ، وَهُوَ الصَّلاَحُ. وَزَكَا الرَّجُل يَزْكُو: إِذَا صَلُحَ، فَهُوَ زَكِيٌّ وَالْجَمْعُ أَزْكِيَاءٌ. (1)
قَال الرَّاغِبُ: أَصْل الزَّكَاةِ النُّمُوُّ الْحَاصِل عَنْ بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِالأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ. يُقَال: زَكَا الزَّرْعُ يَزْكُو: إِذَا حَصَل مِنْهُ نُمُوٌّ وَبَرَكَةٌ. وَقَال تَعَالَى: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} (2) إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ حَلاَلاً لِمَا لاَ يُسْتَوْخَمُ عُقْبَاهُ، وَمِنْهُ الزَّكَاةُ لِمَا يُخْرِجُ الإِْنْسَانُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَتَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ رَجَاءِ الْبَرَكَةِ، أَوْ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَيْ تَنْمِيَتِهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنَّ الْخَيْرَيْنِ مَوْجُودَانِ فِيهَا.
وَبِزَكَاةِ النَّفْسِ وَطَهَارَتِهَا يَصِيرُ الإِْنْسَانُ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا الأَْوْصَافَ الْمَحْمُودَةَ، وَفِي الآْخِرَةِ الأَْجْرَ وَالْمَثُوبَةَ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى الإِْنْسَانُ مَا فِيهِ تَطْهِيرُهُ، وَذَلِكَ يُنْسَبُ تَارَةً إِلَى الْعَبْدِ؛ لِكَوْنِهِ مُكْتَسِبًا لِذَلِكَ؛ نَحْوُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (3) وَتَارَةً يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ فَاعِلاً لِذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ نَحْوُ {بَل اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (4) وَتَارَةً إِلَى النَّبِيِّ ﷺ لِكَوْنِهِ وَاسِطَةً فِي وُصُول ذَلِكَ إِلَيْهِمْ نَحْوُ {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (5) وقَوْله تَعَالَى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} (6) وَتَارَةً إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ آلَةٌ فِي ذَلِكَ نَحْوُ {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (7) وَنَحْوُ {لأَِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} (8) أَيْ مُزَكًّى بِالْخِلْقَةِ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الاِجْتِبَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَل بَعْضَ عِبَادِهِ عَالِمًا وَطَاهِرَ الْخَلْقِ لاَ بِالتَّعَلُّمِ وَالْمُمَارَسَةِ، بَل بِتَوْفِيقٍ إِلَهِيٍّ.
وَتَزْكِيَةُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْفِعْل وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِلَيْهِ قُصِدَ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} وَقَوْلِهِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} . (9)
وَالثَّانِي: بِالْقَوْل كَتَزْكِيَةِ الْعَدْل غَيْرَهُ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ أَنْ يَفْعَل الإِْنْسَانُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} (10) وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ؛ لِقُبْحِ مَدْحِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ عَقْلاً وَشَرْعًا، وَلِهَذَا قِيل لِحَكِيمٍ: مَا الَّذِي لاَ يَحْسُنُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ فَقَال: مَدْحُ الرَّجُل نَفْسَهُ. (11)
وَالْفُقَهَاءُ يُعَبِّرُونَ عَنِ النِّسْبَةِ إِلَى الصَّلاَحِ بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ التَّعْدِيل فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ. (12)
وَيُعَرِّفُونَ التَّزْكِيَةَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِأَنَّهَا: تَعْدِيل الشُّهُودِ.
وَتَزْكِيَةُ الرَّجُل مَالَهُ: أَنْ يُخْرِجَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهِ.
وَالْجَرْحُ ضِدُّ التَّزْكِيَةِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ فِي الْجِسْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَرَحَهُ بِلِسَانِهِ جَرْحًا: إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ: جَرَحْتُ الشَّاهِدَ أَوِ الرَّاوِيَ: إِذَا أَظْهَرْتَ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ أَوْ رِوَايَتُهُ (13) .
وَقَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْ يُبْعَثُ إِلَيْهِ لِلتَّحَرِّي عَنِ الشُّهُودِ (الْمُزَكِّي) وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يُزَكِّي وَيَجْرَحُ، وَلَكِنْ وُصِفَ بِأَحْسَنِ الْوَصْفَيْنِ. حُكْمُ التَّزْكِيَةِ:
2 - ذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، إِلاَّ إِذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فِي عَدَالَةِ مَنْ شَهِدَ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَأَوْجَبَ فِيهِمَا التَّزْكِيَةَ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَال.
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُل الأُْمُورِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْقَاضِي حَال الشُّهُودِ، فَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُمْ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّزْكِيَةِ. وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَجْرُوحُونَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
3 - وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الأَْوَّل عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ بِقَوْل عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَبِأَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَتَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ فَقَال: نَعَمْ. فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: نَعَمْ. فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ (14) . وَلأَِنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ سَبَبُهَا الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيل ذَلِكَ الإِْسْلاَمُ، فَإِذَا وُجِدَ فَلْيُكْتَفَ بِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلاَفِهِ دَلِيلٌ.
وَاسْتُدِل لأَِبِي حَنِيفَةَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلُزُومِ التَّحَرِّي فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ: بِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلاَفِ غَيْرِهَا.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّزْكِيَةِ فِي كُل الأُْمُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (15) وَلاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَرْضِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَهُ.
وَبِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَوَجَبَ الْعِلْمُ بِهَا كَالإِْسْلاَمِ، كَمَا لَوْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ.
أَمَّا الأَْعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَقَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ بِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فِي زَمَنِ رَسُول اللَّهِ إِيثَارًا لِدِينِ الإِْسْلاَمِ وَصُحْبَةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ. وَلِلأَْثَرِ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَاهِدَيْنِ، فَقَال لَهُمَا عُمَرُ: لَسْتُ أَعْرِفُكُمَا وَلاَ يَضُرُّكُمَا إِنْ لَمْ أَعْرِفْكُمَا، جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا، فَأَتَيَا بِرَجُلٍ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: تَعْرِفُهُمَا؟ فَقَال: نَعَمْ. فَقَال عُمَرُ: صَحِبْتُهُمَا فِي السَّفَرِ الَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ جَوَاهِرُ النَّاسِ؟ قَال: لاَ قَال: عَامَلْتُهُمَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الرَّحِمُ؟ قَال: لاَ. قَال: كُنْتُ جَارًا لَهُمَا تَعْرِفُ صَبَاحَهُمَا وَمَسَاءَهُمَا؟ قَال: لاَ. قَال: يَا ابْنَ أَخِي لَسْت تَعْرِفُهُمَا. جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا بَحْثٌ يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْتَفَى بِدُونِهِ. (16)
4 - هَذَا، وَقَدْ قَال عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْخِلاَفَ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ لَيْسَ اخْتِلاَفًا حَقِيقِيًّا، بَل هُوَ اخْتِلاَفُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَهْدِهِ كَانُوا أَهْل خَيْرٍ وَصَلاَحٍ؛ لأَِنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ (17) فَكَانَ الْغَالِبُ فِي أَهْل زَمَانِهِ الصَّلاَحَ وَالسَّدَادَ، فَوَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنِ السُّؤَال عَنْ حَالِهِمْ فِي السِّرِّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي قَرْنِهِمَا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى السُّؤَال عَنِ الْعَدَالَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَقَّقَ الاِخْتِلاَفَ. (18) مَتَى تَسْقُطُ التَّزْكِيَةُ:
5 - قَال إِسْمَاعِيل بْنُ حَمَّادٍ نَاقِلاً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَرْبَعَةُ شُهُودٍ لاَ يُسْأَل عَنْ عَدَالَتِهِمْ: شَاهِدَا رَدِّ الظِّنَّةِ، وَشَاهِدَا تَعْدِيل الْعَلاَنِيَةِ، وَشَاهِدَا الْغُرْبَةِ، وَشَاهِدَا الأَْشْخَاصِ. (19)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الشَّاهِدَ الْمُبْرِزَ فِي الْعَدَالَةِ - أَيِ الْفَائِقَ أَقْرَانَهُ فِيهَا - لاَ يُعْذَرُ فِيهِ لِغَيْرِ الْعَدَاوَةِ، وَيُعْذَرُ فِيهِ فِيهَا. وَمِثْلُهَا الْقَرَابَةُ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُخْشَى مِنْهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ. (20)
وَنَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُقْبَل شَهَادَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ، وَذَلِكَ إِذَا حَضَرَ مُسَافِرَانِ، فَشَهِدَا عِنْدَ حَاكِمٍ لاَ يَعْرِفُهُمَا، يُقْبَل شَهَادَتُهُمَا إِذَا رَأَى فِيهِمَا سِيمَا الْخَيْرِ، لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِمَا، فَفِي التَّوَقُّفِ عَنْ قَبُولِهَا تَضْيِيعُ الْحُقُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِمَا إِلَى السِّيمَا الْجَمِيلَةِ. (21)
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الشُّهُودَ الْمَذْكُورِينَ لاَ يُسَمُّونَ لِمَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ لِيُزَكِّيَهُمْ أَوْ يَطْعَنَ فِيهِمْ، بَل يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَزْكِيَةٍ؛ لِلأَْسْبَابِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا. أَقْسَامُ التَّزْكِيَةِ:
6 - التَّزْكِيَةُ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ.
أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ الشُّهُودِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمُهُمْ دِرَايَةً وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً، فَيُوَلِّيهِ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَال الشُّهُودِ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الاِحْتِيَاطِ فِيهِ. وَبَعْدَ أَنْ يَخْتَارَ، يَكْتُبَ فِي رُقْعَةٍ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ جُمْلَةً بِأَنْسَابِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ وَمُصَلاَّهُمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ كُل مَا يُمَيِّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ تَمْيِيزًا لاَ تَتَمَكَّنُ مَعَهُ الشُّبْهَةُ، فَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ تَتَّحِدَ الأَْسْمَاءُ وَتَتَّفِقَ الأَْوْصَافُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي دَفَعَ الْمَكْتُوبَ إِلَى مَنْ يَسْتَأْمِنُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَخْفَاهُ عَنْ كُل مَنْ سِوَاهُ؛ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَحَدٌ فَيَخْدَعَ الأَْمِينَ، وَعَلَى الْمُرْسَل أَمِينِ الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ أَحْوَال الشُّهُودِ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ، فَيَسْأَل عَنْهُمْ أَهْل الثِّقَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْل مَحِلاَّتِهِمْ، وَأَنْ يَسْأَل أَهْل أَسْوَاقِهِمْ.
أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ، فَتَكُونُ بَعْدَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ. وَكَيْفِيَّتُهَا: أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكِّيَ بَعْدَمَا زَكَّى؛ لِيُزَكِّيَ الشُّهُودَ أَمَامَهُ. وَهَل يَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ وَالتَّزْكِيَةِ فِي الْعَلاَنِيَةِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْيَوْمَ وَقَعَ الاِكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ مِنْ بَلاَءٍ وَفِتْنَةٍ. (22)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْقَاضِي تَزْكِيَةُ السِّرِّ مَعَ تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ. فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَزْكِيَةِ السِّرِّ أَجْزَأَهُ قَطْعًا كَالْعَلاَنِيَةِ عَلَى الرَّاجِحِ. (23)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بَعْدَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ يُشَافِهُ الْمَبْعُوثُ الْحَاكِمَ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ.
وَقِيل: يُشَافِهُ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ بِمَا يَعْلَمُهُ الْمَبْعُوثُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ. وَقِيل: تَكْفِي كِتَابَتُهُ. (24)
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ. (25)
7 - ثُمَّ هَل الْمُعْتَبَرُ قَوْل الْمُرْسَل إِلَيْهِ (الْمُزَكِّي) أَوْ قَوْل الْمُرْسَلِينَ، وَيُسَمُّونَ أَصْحَابَ الْمَسَائِل؟
قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُعَوَّل عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْمُزَكِّي. وَنَقَل الشَّيْخَانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُمَا نَقَلاَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الأَْصْحَابِ أَنَّ الْمُعَوَّل عَلَى قَوْل أَصْحَابِ الْمَسَائِل، خِلاَفًا لأَِبِي إِسْحَاقَ، وَأَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ اعْتَذَرَ عَنْ قَبُولِهَا، وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ - وَالأَْصْل حَاضِرٌ - لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. (26) التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ:
اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ، فَقَدْ نَقَل مُعِينُ الْحُكَّامِ عَنِ الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَوْ عَدَّلَهُ وَاحِدٌ، وَجَرَّحَهُ آخَرُ، أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ. وَهَذَا قَوْل مُحَمَّدٍ. لأَِنَّ الْعَدَالَةَ وَالْجَرْحَ لاَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ بِقَوْل الْوَاحِدِ فَصَارَا مُتَسَاوِيَيْنِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: الْجَرْحُ أَوْلَى، لأَِنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيل يَثْبُتُ بِقَوْل الْوَاحِدِ عِنْدَهُمَا، وَتَرَجَّحَ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيل؛ لأَِنَّ الْجَارِحَ فِي الْجَرْحِ اعْتَمَدَ عَلَى الدَّلِيل، وَهُوَ الْعِيَانُ وَالْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّ سَبَبَ الْجَرْحِ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ.
وَلَوْ جَرَّحَهُ وَاحِدٌ وَعَدَّلَهُ اثْنَانِ، فَالتَّعْدِيل أَوْلَى. وَلَوْ عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ فَالْجَرْحُ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ التَّرْجِيحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى الاِثْنَيْنِ. (27)
8 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ عَدَّل شَاهِدَانِ رَجُلاً وَجَرَّحَهُ آخَرَانِ، فَفِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ.
قِيل: يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا؛ لاِسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
وَقِيل: يُقْضَى بِشُهُودِ الْجَرْحِ، لأَِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى شُهُودِ التَّعْدِيل، إِذِ الْجَرْحُ مِمَّا يَبْطُنُ فَلاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كُل النَّاسِ، بِخِلاَفِ الْعَدَالَةِ. وَلِلَّخْمِيِّ تَفْصِيلٌ، قَال: إِنْ كَانَ اخْتِلاَفُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي فِعْل شَيْءٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَدَعْوَى إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَنَّهُ فَعَل كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَالَتِ الْبَيِّنَةُ الأُْخْرَى: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ قُضِيَ بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ؛ لأَِنَّهَا زَادَتْ عِلْمًا فِي الْبَاطِنِ. وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ قُضِيَ بِآخِرِهِمَا تَارِيخًا، وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَدْلاً فَفَسَقَ، أَوْ كَانَ فَاسِقًا فَتَزَكَّى، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ تَقْيِيدِ الْجَرْحِ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ فَبَيِّنَةُ الْجَرْحِ مُقَدَّمَةٌ؛ لأَِنَّهَا زَادَتْ. (28)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيل لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ.
فَإِنْ قَال الْمُعَدِّل: عَرَفْتُ سَبَبَ الْجَرْحِ وَتَابَ مِنْهُ وَأَصْلَحَ، قُدِّمَ قَوْلُهُ عَلَى قَوْل الْجَارِحِ. (29)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال فِي الْمُغْنِي: فَإِذَا رَجَعَ أَصْحَابُ مَسْأَلَةٍ فَأَخْبَرَ اثْنَانِ بِالْعَدَالَةِ، قَبِل الْقَاضِي شَهَادَتَهُ. وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ رَدَّ شَهَادَتَهُ وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْعَدَالَةِ وَالآْخَرُ بِالْجَرْحِ بَعَثَ آخَرَيْنِ، فَإِنْ عَادَا فَأَخْبَرَا بِالتَّعْدِيل تَمَّتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيل، وَسَقَطَ الْجَرْحُ لأَِنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَتِمَّ، وَإِنْ أَخْبَرَا بِالْجَرْحِ ثَبَتَ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ. وَإِنْ أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِالْجَرْحِ وَالآْخَرُ بِالتَّعْدِيل تَمَّتِ الْبَيِّنَتَانِ وَيُقَدَّمُ الْجَرْحُ. (30) وَقْتُ التَّزْكِيَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَكُونُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ لاَ قَبْلَهَا. (31)
عَدَدُ مَنْ يُقْبَل فِي التَّزْكِيَةِ:
10 - تَقَدَّمَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ.
فَبِالنِّسْبَةِ لِتَزْكِيَةِ السِّرِّ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إِنَّ الْقَاضِيَ يَجْتَزِئُ بِوَاحِدٍ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ شَهَادَةً بَل هِيَ إِخْبَارٌ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِمَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ، فَالأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِيهَا إِلاَّ اثْنَانِ؛ لأَِنَّهَا شَهَادَةٌ.
وَقَال ابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ. وَعَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ أَقَل مَا يُزَكِّي الرَّجُل أَرْبَعَةُ شُهُودٍ. وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ: وَالتَّزْكِيَةُ تَخْتَلِفُ، فَتَكُونُ بِالْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ لِلْحَاكِمِ وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ.
قَال الْمُتَيْطِيُّ: وَمَا كَثُرَ مِنَ الشُّهُودِ فَهُوَ أَحْسَنُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ التَّزْكِيَةُ فِي شَاهِدٍ شَهِدَ بِزِنًا، فَإِنَّ مُطَرِّفًا رَوَى عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لاَ يُزَكِّيهِ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ. (32)
مَنْ تُقْبَل تَزْكِيَتُهُ:
11 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ - عَدَا الْحَنَفِيَّةِ - قَالُوا: يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدِ التَّزْكِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا نَاقِدًا فَطِنًا، لاَ يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ، وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ شُرُوطُ التَّعْدِيل. وَلاَ تُقْبَل التَّزْكِيَةُ مِنَ الأَْبْلَهِ وَالْجَاهِل بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَدْلاً مَقْبُولاً فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَلاَ يُقْبَل قَوْل مَنْ يَرَى تَعْدِيل كُل مُسْلِمٍ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَعْدِيل السِّرِّ يُقْبَل فِيهِ تَعْدِيل الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِرَحِمِهِ؛ لأَِنَّ تَعْدِيل السِّرِّ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: هُوَ شَهَادَةٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ.
12 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقْبَل تَعْدِيل الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَغَيْرِهِ، إِذَا كَانَتِ امْرَأَةً بَرْزَةً تُخَالِطُ النَّاسَ وَتُعَامِلُهُمْ؛ لأَِنَّ لَهَا خِبْرَةً بِأُمُورِهِمْ فَيُفِيدُ السُّؤَال. قَالُوا: وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ السِّرِّ مِنَ الأَْعْمَى وَالصَّبِيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ. وَهَذَا خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُقْبَل تَزْكِيَةُ النِّسَاءِ، لاَ فِي حَقِّ الرِّجَال وَلاَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّبْرِيزُ فِي الْعَدَالَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِالرِّجَال.
قَال: وَقَدْ قِيل: إِنَّهُنَّ يُزَكِّينَ الرِّجَال إِذَا شَهِدُوا فِيمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي الْمَبْسُوطَةِ. وَالْقِيَاسُ جَوَازُ تَزْكِيَتِهِنَّ لِلنِّسَاءِ. (33)
تَزْكِيَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدِ
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عَدَّل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شُهُودَ الْمُدَّعِي، بِأَنْ قَال: صَدَقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، أَوْ قَال: هُمْ عُدُولٌ فِي شَهَادَتِهِمْ، يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْمَال بِإِقْرَارِهِ لاَ بِالشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمَال.
وَإِنْ قَال: هُمْ عُدُولٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ هَذَا التَّعْدِيل؛ لأَِنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجُحُودِ ظَالِمٌ وَكَاذِبٌ، فَلاَ تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُ.
وَقَال فِي كِتَابِ التَّزْكِيَةِ: وَيَجُوزُ تَعْدِيل الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لأَِنَّ تَعْدِيل الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْدِيل الْمُزَكِّي، وَإِقْرَارُهُ بِكَوْنِ الشَّاهِدِ عَدْلاً لاَ يَكُونُ إِقْرَارًا بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ لاَ مَحَالَةَ. (34)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْعَدَالَةِ لِمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِهَذَا الإِْقْرَارِ، وَلَوْ عَلِمَ خِلاَفَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ إِقْرَارَهُ بِعَدَالَتِهِ كَإِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ، حَتَّى لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِخِلاَفِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ. (35)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي مَجْهُول الْحَال، فَقَال الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فِيهِ قَوْلاَنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَوَّلاً - لاَ يَكْفِي فِي الأَْصَحِّ فِي التَّعْدِيل قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هُوَ عَدْلٌ، وَقَدْ غَلِطَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيَّ.
وَقِيل: يَكْفِي فِي حَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ اعْتَرَفَ بِمَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يُقْضَى عَلَيْهِ. (36)
وَالْقَوْلاَنِ هُمَا الْوَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لأَِنَّ الْبَحْثَ عَنْ عَدَالَتِهِ لِحَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِعَدَالَتِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ كَسَائِرِ أَقَارِيرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ؛ لأَِنَّ فِي الْحُكْمِ بِهَا تَعْدِيلاً لَهُ، فَلاَ يَثْبُتُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ؛ وَلأَِنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ رَضِيَ الْخَصْمُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِقَوْل فَاسِقٍ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ مَعَ تَعْدِيلِهِ أَوْ مَعَ انْتِفَائِهِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَال مَعَ تَعْدِيلِهِ؛ لأَِنَّ التَّعْدِيل لاَ يَثْبُتُ بِقَوْل الْوَاحِدِ. وَلاَ يَجُوزُ مَعَ انْتِفَاءِ تَعْدِيلِهِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعَدْل غَيْرُ جَائِزٍ، بِدَلِيل شَهَادَةِ مَنْ ظَهَرَ فِسْقُهُ. فَإِنْ قُلْنَا بِالأَْوَّل فَلاَ يَثْبُتُ تَعْدِيلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيل، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ لإِِقْرَارِهِ بِوُجُودِ شُرُوطِ الْحُكْمِ، وَإِقْرَارُهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ. (37)
تَجْدِيدُ التَّزْكِيَةِ:
14 - قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَل عَنْ شُهُودِهِ كُل قَلِيلٍ؛ لأَِنَّ الرَّجُل يَنْتَقِل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَل هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مَا كَانَ، فَلاَ يَزُول حَتَّى يَثْبُتَ الْجَرْحُ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ الْبَحْثُ كُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَتَغَيَّرُ الْحَال فِيهَا؛ لأَِنَّ الْعَيْبَ يَحْدُثُ، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ.
وَلأَِصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ مِثْل هَذَيْنِ. (38) وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَتِ الْعَدَالَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي حَادِثَةٍ أُخْرَى، فَلاَ يَشْتَغِل بِتَعْدِيلِهِمْ إِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا، وَإِلاَّ سَأَل عَنْهُمْ.
وَفِي الْحَدِّ الْفَاصِل بَيْنَهُمَا قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَرِيبَ مُقَدَّرٌ بِسِتِّهِ أَشْهُرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي. (39)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْمُزَكِّي ثَانِيًا: قَبْل عَامٍ مِنْ تَارِيخِ شَهَادَتِهِ السَّابِقَةِ، وَجَهِل، وَلَمْ يَكْثُرْ مُعَدِّلُوهُ، وَوُجِدَ مَنْ يُعَدِّلُهُ عِنْدَ شَهَادَتِهِ ثَانِيًا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا قَالَهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَةٍ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِسَحْنُونَ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَةٍ.
فَإِنْ فُقِدَ قَيْدٌ مِنَ الثَّلاَثَةِ الأَْخِيرَةِ: بِأَنْ لَمْ يُجْهَل حَالُهُ، أَوْ كَثُرَ مُعَدِّلُوهُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُعَدِّلُهُ ثَانِيًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَزْكِيَةٍ أُخْرَى اكْتِفَاءً بِالتَّزْكِيَةِ السَّابِقَةِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ. أَمَّا لَوْ فُقِدَ الْقَيْدُ الأَْوَّل، كَمَا لَوْ شَهِدَ مَجْهُول الْحَال بَعْدَ تَمَامِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ زَكَّاهُ قَبْلَهُ كَثِيرُونَ احْتَاجَ لإِِعَادَةِ التَّزْكِيَةِ اتِّفَاقًا. (40) بَيَانُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل:
15 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُقْبَل الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فَاسِقٌ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ؛ لأَِنَّ التَّعْدِيل يُسْمَعُ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ؛ لأَِنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ يَجْعَل الْمُجَرَّحَ فَاسِقًا، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ. وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَى، فَيُفْضِي الْجَرْحُ إِلَى جَرْحِ الْجَارِحِ، وَتَبْطُل شَهَادَتُهُ، وَلاَ يَتَجَرَّحُ بِهَا الْمَجْرُوحُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ، بِخِلاَفِ سَبَبِ التَّعْدِيل. وَاسْتَدَل مَنْ قَالُوا بِاشْتِرَاطِ بَيَانِ سَبَبِ الْجَرْحِ بِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ، كَاخْتِلاَفِهِمْ فِي شَارِبِ النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُقْبَل مُجَرَّدُ الْجَرْحِ؛ لِئَلاَّ يُجَرِّحَهُ بِمَا لاَ يَرَاهُ الْقَاضِي جَرْحًا؛ وَلأَِنَّ الْجَرْحَ يَنْقُل عَنِ الأَْصْل، فَإِنَّ الأَْصْل فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ وَالْجَرْحُ يَنْقُل عَنْهَا، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ النَّاقِل؛ لِئَلاَّ يَعْتَقِدَ نَقْلَهُ عَنْ أَصْل الْعَدَالَةِ بِمَا لاَ يَرَاهُ الْحَاكِمُ نَاقِلاً. (41)
الْفَرْقُ بَيْنَ شُهُودِ الدَّعْوَى وَشُهُودِ التَّزْكِيَةِ:
16 - يَخْتَلِفُ شُهُودُ التَّزْكِيَةِ عَنْ شُهُودِ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ، وَيَتَّفِقَانِ فِي أُمُورٍ:
فَيَتَّفِقَانِ فِي الْجُمْلَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْل الْكَامِل وَالضَّبْطِ وَالْوِلاَيَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الشَّاهِدُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ، وَأَلاَّ تَجُرَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّاهِدِ نَفْعًا. وَهَذِهِ الشَّرَائِطُ هِيَ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ فِي كُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ. وَهَذَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ.
أَمَّا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَمَّنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ فِيهَا، وَمِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ شُهُودِ تَزْكِيَةِ السِّرِّ وَالشَّهَادَةِ أَمَامَ الْقَاضِي.
وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ شَاهِدَ التَّزْكِيَةِ فِي الْعَلاَنِيَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ: مُبْرَزًّا فِي الْعَدَالَةِ فَطِنًا حَذِرًا لاَ يُخْدَعُ وَلاَ يُسْتَغْفَل.
قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي النَّوَادِرِ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ أَقْبَل شَهَادَتَهُ وَلاَ أَقْبَل تَعْدِيلَهُ؛ لأَِنَّهُ يُحْسِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا سَمِعَ وَلاَ يُحْسِنُ التَّعْدِيل. (42)
وَفِي كِتَابِ (الْمُتَيْطِيَّةِ) مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: شُهُودُ التَّزْكِيَةِ بِخِلاَفِ شُهُودِ الْحُقُوقِ. قَال مَالِكٌ: قَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُل وَلاَ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ تَعْدِيل الْعَارِفِ.
وَقَال سَحْنُونٌ: لاَ يَجُوزُ فِي التَّعْدِيل إِلاَّ الْعَدْل الْمُبَرَّزُ الْفَطِنُ الَّذِي لاَ يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلاَ يَسْتَزِل فِي رَأْيِهِ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَل. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: شُهُودُ التَّزْكِيَةِ كَشُهُودِ سَائِرِ الْحُقُوقِ. (43) 17 - وَمِثْل مَا تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُزَكِّي مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل؛ لأَِنَّهُ يَشْهَدُ بِهِمَا.
وَالأَْمْرُ الثَّانِي: خِبْرَةُ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ أَوْ يُجَرِّحُهُ، بِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، لِيَتَأَتَّى لَهُ بِهَا التَّعْدِيل أَوِ الْجَرْحُ. (44)
وَلاَ يَخْرُجُ كَلاَمُ الْحَنَابِلَةِ عَنْ ذَلِكَ. فَقَدْ قَالُوا: لاَ يُقْبَل التَّعْدِيل إِلاَّ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْمَعْرِفَةِ الْمُتَقَادِمَةِ؛ وَلأَِنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ فِي بَاطِنِهِ فَاسِقٌ. (45)
تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ الذِّمِّيِّينَ لِمِثْلِهِمْ:
18 - إِذَا تَرَافَعَ الذِّمِّيُّونَ أَمَامَ قَاضٍ مُسْلِمٍ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الْفَصْل فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ الذِّمِّيِّينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ الذِّمِّيِّينَ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّزْكِيَةُ لِلذِّمِّيِّ تَكُونُ بِالأَْمَانَةِ فِي دِينِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ يَقَظَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُسْلِمُونَ سَأَلُوا عَنْهُ عُدُول الذِّمِّيِّينَ. (46) وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى حُكْمِ تَزْكِيَةِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
رُجُوعُ الْمُزَكِّي عَنِ التَّزْكِيَةِ:
19 - يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِلشُّهُودِ، بِأَنْ قَالُوا مَثَلاً: إِنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ مَجُوسٌ، وَقَدْ زَكَّيْنَاهُمْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ، فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لَوْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ. وَقَال الصَّاحِبَانِ: بَل يُقْتَصُّ مِنْهُمْ وَأَمَّا إِذَا قَالُوا: أَخْطَأْنَا فِي التَّزْكِيَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ.
وَقِيل: الْخِلاَفُ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَ الْمُزَكُّونَ أَنَّ الشُّهُودَ أَحْرَارٌ، فَإِذَا هُمْ عَبِيدٌ أَمَّا إِذَا قَالُوا: هُمْ عُدُولٌ، فَبَانُوا عَبِيدًا لاَ يَضْمَنُونَ إِجْمَاعًا؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلاً. (47)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْمُزَكِّي لِشُهُودِ الزِّنَا أَوْ قَتْل الْعَمْدِ عَنْ تَزْكِيَتِهِمْ، بَعْدَ رَجْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَوْ قَتْلِهِ قِصَاصًا، فَلاَ يَغْرَمُ الْمُزَكِّي شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ رَجَعَ الشُّهُودُ الأُْصُول أَمْ لاَ. (48)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُزَكِّي الرَّاجِعِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ؛ لأَِنَّهُ أَلْجَأَ الْقَاضِيَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْقَتْل.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: لاَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَثْنَى عَلَى الشَّاهِدِ، وَالْحُكْمُ يَقَعُ بِالشَّاهِدِ، فَكَانَ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِل.
وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ: يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ دُونَ الْقِصَاصِ. قَال الْقَفَّال: الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا قَال الْمُزَكِّيَانِ: عَلِمْنَا كَذِبَ الشَّاهِدَيْنِ. فَإِنْ قَالاَ: عَلِمْنَا فِسْقَهُمَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهُمَا قَدْ يَكُونَانِ صَادِقَيْنِ مَعَ الْفِسْقِ، وَطَرَدَ الإِْمَامُ الْخِلاَفَ فِي الْحَالَيْنِ. (49)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُزَكِّيَيْنِ إِذَا رَجَعَا عَنِ التَّزْكِيَةِ ضَمِنَا؛ لأَِنَّهُمَا تَسَبَّبَا فِي الْحُكْمِ غَيْرِ الْحَقِّ، فَيَضْمَنَانِ كَرُجُوعِ شُهُودِ الإِْحْصَانِ. (50)
تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ:
20 - يَكْفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَزْكِيَةُ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ صَاحِبَهُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْعَدْل لاَ يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ. وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، وَلَكِنَّ الْعَدْل لاَ يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لاَ يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ. وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَال: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ، حَيْثُ كَانَ بِتَعْدِيلِهِ رَفِيقَهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُ تَتَضَمَّنُ مِثْل هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الشَّرْعُ مَعَ عَدَالَتِهِ ذَلِكَ مَانِعًا، كَذَلِكَ تَعْدِيلُهُ لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ. (51)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الشَّاهِدَ لاَ يُزَكِّي مَنْ شَهِدَ مَعَهُ، وَلاَ تُقْبَل مَعَهُ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ.
وَأَجَازَ سَحْنُونٌ إِذَا شَهِدَتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُزَكِّيَ كُل طَائِفَةٍ صَاحِبَتَهَا، وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ وَلَوْ شَهِدَتَا فِي حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. (52)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ الآْخَرَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ. (53)
التَّزْكِيَةُ تَكُونُ عَلَى عَيْنِ الْمُزَكِّي:
21 - التَّزْكِيَةُ الَّتِي تُشْتَرَطُ وَتُقْبَل تَكُونُ عَلَى عَيْنِ الْمُزَكِّي، وَذَلِكَ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ. وَصِفَتُهَا: أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكِّيَ - بَعْدَمَا زَكَّى الشُّهُودَ فِي السِّرِّ - لِيُزَكِّيَهُمْ عَلاَنِيَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُشِيرَ إِلَيْهِمْ فَيَقُول: هَؤُلاَءِ عُدُولٌ عِنْدِي، إِزَالَةً لِلاِلْتِبَاسِ، وَاحْتِرَازًا عَنِ التَّبْدِيل وَالتَّزْوِيرِ.
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: لاَ يُزَكَّى الشَّاهِدُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْقَاضِي إِلاَّ عَلَى عَيْنِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَل الْمُزَكِّيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَدَالَةِ إِذَا كَانَ الْمُزَكِّي عَالِمًا بِوُجُوهِهَا، وَلاَ عَنِ الْجُرْحَةِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا. (54)
وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَابِلَةُ بِتَكْرَارِ سُؤَال الْمُزَكِّي أَمَامَ الشُّهُودِ وَإِشَارَتِهِ إِلَى عَيْنِ مَنْ يُزَكِّيهِمْ. (55)
الإِْعْذَارُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي تَزْكِيَةِ الْمُزَكِّينَ
22 - هَل عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَعْذُرَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَنْ زَكَّى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؟ أَوْ يَطْلُبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ لاَ يَعْذُرَ أَصْلاً.
الَّذِي يُفِيدُهُ كَلاَمُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَعْذُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَنْ زَكَّى شُهُودَ الْمُدَّعِي. إِذْ قَالُوا: الْيَوْمَ وَقَعَ الاِكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ؛ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ مِنْ بَلاَءٍ وَفِتْنَةٍ. (56)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِمَّا لاَ يُعْذَرُ فِيهِ مُزَكِّي السِّرِّ، وَهُوَ مَنْ يُخْبِرُ الْقَاضِيَ فِي السِّرِّ بِحَال الشُّهُودِ مِنْ عَدَالَةٍ أَوْ جَرْحٍ. وَلَوْ سَأَل الطَّالِبُ الْمُقِيمَ لِلْبَيِّنَةِ عَمَّنْ جَرَّحَهَا لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى سُؤَالِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَل الْمَطْلُوبُ عَمَّنْ زَكَّى بَيِّنَةَ الطَّالِبِ، فَإِنَّهُ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقِيمُ لِذَلِكَ إِلاَّ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي فَلاَ يُعْذَرُ فِي نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ الْمُبَرَّزُ فِي الْعَدَالَةِ الْفَائِقُ أَقْرَانَهُ فِيهَا لاَ يُعْذَرُ فِيهِ لِغَيْرِ الْعَدَاوَةِ، وَيُعْذَرُ فِيهِ فِيهَا، وَمِثْلُهَا الْقَرَابَةُ. وَكَذَلِكَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يُخْشَى مِنْهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى مَنْ يُخْشَى مِنْهُ لاَ يُسَمَّى لَهُ. (57)
وَمُؤَدَّى ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْمَذْكُورِينَ يُعْذَرُ فِيهِمْ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بَعْدَ السُّؤَال وَالْبَحْثِ وَمُشَافَهَةِ الْمُزَكِّي بِمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا سَتَرَهُ، وَقَال لِلْمُدَّعِي: زِدْنِي فِي شُهُودِكَ، أَوْ تَعْدِيلاً عَمِل بِمُقْتَضَاهُ. (58)
وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَل بِمُقْتَضَى الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُول لِلْمُدَّعِي الَّذِي أَحْضَرَ الشُّهُودَ: إِنَّ شُهُودَكَ قَدْ جَرَّحَهُمْ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، وَلاَ يَقُول لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِنَّ مَنْ شَهِدُوا عَلَيْكَ قَدْ عَدَّلَهُمْ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ.
هَذَا وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
تَزْكِيَةُ رُوَاةِ الأَْحَادِيثِ:
23 - الأَْحْكَامُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ فِي شُهُودِ الدَّعَاوَى.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِرُوَاةِ الأَْحَادِيثِ فَقَدْ أَجْمَعَ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ: أَنْ يَكُونَ عَدْلاً ضَابِطًا لِمَا يَرْوِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلاً، سَالِمًا مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَمَا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ مُتَيَقِّظًا غَيْرَ مُغَفَّلٍ، حَافِظًا إِنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، ضَابِطًا لِكِتَابِهِ إِنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ. وَإِنْ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْمَعْنَى اشْتُرِطَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يُحِيل الْمَعَانِيَ.
وَعَدَالَةُ الرَّاوِي تَارَةً تَثْبُتُ بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ، وَتَارَةً تَثْبُتُ بِالاِسْتِفَاضَةِ، فِيمَنِ اشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ مِنْ أَهْل النَّقْل أَوْ نَحْوِهِمْ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَمَنْ شَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ فِي فَنِّ أُصُول الْفِقْهِ. وَذَلِكَ مِثْل الإِْمَامِ مَالِكٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ الْحَافِظِ.
وَالتَّعْدِيل مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ؛ لأَِنَّ أَسْبَابَهُ كَثِيرَةٌ يَصْعُبُ حَصْرُهَا، بِخِلاَفِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل إِلاَّ مُفَسَّرًا مُبَيَّنَ السَّبَبِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يُجَرَّحُ وَلاَ يُجَرَّحُ. (59)
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ وَأَحْكَامٌ أُخْرَى يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَفِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ. تَزْكِيَةُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ:
24 - نَهَى اللَّهُ ﷿ عَنْ تَزْكِيَةِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (60) وَقَال تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَل اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} . (61) وَلَيْسَ مِنَ التَّزْكِيَةِ الْمَذْمُومَةِ بَيَانُ الإِْنْسَانِ لِبَعْضِ صِفَاتِهِ عَلَى سَبِيل التَّعْرِيفِ، حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ فِي تَوْلِيَتِهِ، كَمَا حَصَل لِنَبِيِّ اللَّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَْرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} . (62)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَدْحٌ) .
__________
(1) المصباح. مادة: " زكى ".
(2) سورة الكهف / 19.
(3) سورة الشمس / 9.
(4) سورة النساء / 49.
(5) سورة التوبة / 103.
(6) سورة التوبة / 151.
(7) سورة مريم / 13.
(8) سورة مريم / 13.
(9) سورة الأعلى / 14.
(10) سورة النجم / 32.
(11) المفردات في غريب القرآن ص 213 ط دار المعرفة ببيروت.
(12) تبصرة الحكام هامش فتح العلي المالك 1 / 256، والبدائع 6 / 270.
(13) معين الحكام 104، 105، والمصباح.
(14) حديث: " أن أعرابيا جاء إلى النبي ﷺ فشهد برؤية الهلال. . . " أخرجه الترمذي (3 / 74 - 75 - ط الحلبي) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) من حديث ابن عباس ﵄، وحكم الترمذي والنسائي عليه بالإرسال.
(15) سورة البقرة / 282.
(16) البدائع 6 / 270، وابن عابدين 4 / 57، وتبصرة الحكام 1 / 256، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 63 - 64.
(17) حديث: " خير القرون قرني. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 244 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود ﵁.
(18) البدائع 6 / 270، والمغني 9 / 64، ومعين الحكام ص 103.
(19) معين الحكام ص 106.
(20) الخرشي 7 / 159.
(21) المغني 9 / 70.
(22) معين الحكام ص 107.
(23) الشرح الكبير 4 / 170 - 171.
(24) قليوبي وعميرة 4 / 307.
(25) المغني 9 / 15.
(26) قليوبي وعميرة 4 / 306.
(27) معين الحكام / 107.
(28) فتح العلي المالك 1 / 259.
(29) قليوبي وعميرة 4 / 107.
(30) المغني 9 / 65، 66 ط الرياض.
(31) ابن عابدين 4 / 573، وتبصرة الحكام 1 / 257، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 63.
(32) معين الحكام 104، وتبصرة الحكام 1 / 256، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 67 وما بعدها.
(33) تبصرة الحكام 1 / 255، ومعين الحكام 106، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 63 - 64.
(34) معين الحكام ص 106 - 107.
(35) الشرح الكبير 4 / 159.
(36) قليوبي وعميرة 4 / 307.
(37) المغني 9 / 66 - 67.
(38) المغني 9 / 71.
(39) معين الحكام ص 106، وشرح أدب القاضي للصدر الشهيد 3 / 42 بغداد نشر وزارة الأوقاف.
(40) حاشية الدسوقي 4 / 171.
(41) معين الحكام ص 105، والمغني 9 / 68 - 69، وتبصرة الحكام 1 / 458، وقليوبي وعميرة 4 / 307.
(42) معين الحكام ص 106.
(43) تبصرة الحكام 1 / 255.
(44) قليوبي وعميرة 4 / 307.
(45) المغني 9 / 68 - 69.
(46) ابن عابدين 4 / 375.
(47) ابن عابدين 4 / 398.
(48) التاج والإكليل 2 / 245.
(49) روضة الطالبين 11 / 298 ط المكتب الإسلامي.
(50) الكافي 3 / 561 ط المكتب الإسلامي.
(51) ابن عابدين 4 / 394.
(52) تبصرة الحكام 1 / 258.
(53) روضة الطالبين 11 / 172، والمغني 1 / 63، 67.
(54) معين الحكام ص 105، وتبصرة الحكام 1 / 256، والروضة 11 / 169، ومغني المحتاج 4 / 403.
(55) المغني 10 / 60، مكتبة القاهرة، والإنصاف 11 / 286، وكشاف القناع 6 / 350 - 351.
(56) معين الحكام ص 105.
(57) الخرشي 7 / 158 - 159.
(58) نهاية المحتاج 8 / 265 ط البابي الحلبي.
(59) علوم الحديث لابن الصلاح 94 - 96.
(60) سورة النجم / 32.
(61) سورة النساء / 49.
(62) سورة يوسف / 55.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 238/ 11
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".