المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
التَّعْرِيفُ
1 - الْمَدِينَةُ لُغَةً: الْمِصْرُ الْجَامِعُ، عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةَ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ أَيْ: أَقَامَ فِيهِ، وَقِيل: مَفْعَلَةٌ لأَِنَّهَا مِنْ دَانَ، وَالْجَمْعُ: مُدُنٌ، وَمَدَائِنُ (1) .
وَغَلَبَ إِطْلاَقُ " الْمَدِينَةِ " مُعَرَّفًا بِأَل لَدَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَدِينَةِ الرَّسُول ﷺ، وَيَكْثُرُ أَنْ يُقَال: " الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ " إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا مُنَوَّرَةٌ بِأَنْوَارِ سَاكِنِهَا عَلَيْهِ أَفْضَل الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمُ (2) .
أَسْمَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
2 - كَانَتِ الْمَدِينَةُ تُسَمَّى قَبْل الإِْسْلاَمِ يَثْرِبَ، فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ ﷺ " الْمَدِينَةَ " وَقَال: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُل الْقُرَى. يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ. تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ (3) . وَنَهَى أَنْ تُسَمَّى يَثْرِبَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ ﷺ قَال: مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةُ، هِيَ طَابَةُ (4) .
وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ " طَيْبَةُ " بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَيُقَال أَيْضًا: " طَيِّبَةٌ " مُشَدَّدَةُ الْيَاءِ وَدَارُ الْهِجْرَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءٍ، قِيل: إِنَّهَا تَبْلُغُ الأَْرْبَعِينَ (5) .
وَتَقَعُ الْمَدِينَةُ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ حَرَّةُ وَاقِمٍ، وَالأُْخْرَى: غَرْبِيَّهَا وَهِيَ حَرَّةُ الْوَبَرَةِ. وَالْحَرَّةُ: أَرْضٌ مُكْتَسِيَةٌ بِحِجَارَةٍ سَوْدَاءَ بُرْكَانِيَّةٍ، وَيُحِيطُ بِهَا مِنَ الشِّمَال جَبَل أُحُدٍ، وَمِنَ الْجُنُوبِ جَبَل عَيْرٍ. وَتَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ عَشْرُ مَرَاحِل، وَيُحْرِمُ أَهْلُهَا وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ (6) .
فَضْل الْمَدِينَةِ
3 - الْمَدِينَةُ مُهَاجَرُ النَّبِيِّ ﷺ وَفِيهَا مَثْوَاهُ ﷺ وَمِنْهَا انْتَشَرَ الإِْسْلاَمُ فِي الْعَالَمِ، وَلَهَا فَضَائِل كَثِيرَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا بِإِيجَازٍ: أ - مُضَاعَفَةُ الْبَرَكَةِ فِيهَا فَعَنْ أَنَسٍ ﵁ قَال قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ اجْعَل بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ (7) .
ب - تَفْضِيل الإِْقَامَةِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا فَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ ﵁ قَال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَقُول: تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (8) .
ج - تَغْلِيظُ ذَنْبِ مَنْ يَكِيدُ أَهْلَهَا: فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ﵁ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَرَادَ أَهْل الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ (9) .
د - حِمَايَتُهَا مِنْ دُخُول الدَّجَّال وَالطَّاعُونِ: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ، لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّال (10) .
هـ - إِنَّهَا مَجْمَعُ الإِْيمَانِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا (11) .
وَيَأْرِزُ أَيْ: يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِيهَا.
حَرَمُ الْمَدِينَةِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ مِثْل مَكَّةَ، فَيَحْرُمُ صَيْدُهَا وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا إِلاَّ مَا اسْتُنْبِتَ لِلْقَطْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهَا حَرَمٌ، فَلاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَدِلَّتُهُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ ف28) .
5 - وَقَدْ فَرَّعَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةِ الْحَرَمِ لِلْمَدِينَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ نَقْل تُرَابِ الْحَرَمِ وَأَحْجَارِهِ إِلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَقَالُوا: إِنَّ الأَْوْلَى أَنْ لاَ يَدْخُل تُرَابُ الْحِل وَأَحْجَارُهُ الْحَرَمَ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَمَّا جَعَلَهَا اللَّهُ حَرَمًا آمِنًا حَرُمَ بِذَلِكَ كُل شَيْءٍ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ فِيهَا، وَأَمَّا أَنَّ الأَْوْلَى عَدَمُ إِدْخَال تُرَابِ الْحِل وَأَحْجَارِهِ فَلِئَلاَّ تَحْدُثَ لَهَا حُرْمَةٌ لَمْ تَكُنْ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إِلَى إِدْخَالِهَا إِلَى الْحَرَمِ، لِمِثْل بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ (12) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَتَفْضِيل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ (13) .
وَذَهَبَ الإِْمَامُ مَالِكٌ إِلَى تَفْضِيل الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَتَفْضِيل الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁.
وَقَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيل مَكَّةَ وَحَرَمِهَا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ ﵁ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَال: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ (14) . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِمَكَّةَ: مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ (15) .
فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلاَّنِ عَلَى تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَمِنْهَا الْمَدِينَةُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (16) وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ﵄ زِيَادَةُ: وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا (17) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ عَلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ.
وَاسْتَدَل مَالِكٌ بِأَدِلَّةٍ فِي فَضْل الْمَدِينَةِ مِنْهَا مَا سَبَقَ إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الَّتِي تَأْكُل الْقُرَى، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى زِيَادَةِ فَضْل الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ ﷺ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا لِمَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ (18) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهَا لِنَبِيِّهِ ﷺ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَفُضَلاَءِ الصَّحَابَةِ، وَلاَ يَخْتَارُ لَهُمْ إِلاَّ أَفْضَل الْبِقَاعِ (19) .
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْخِلاَفَ لَيْسَ فِي الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، فَإِنَّهَا أَفْضَل مِنَ الْمَدِينَةِ كُلِّهَا، إِلاَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ الْجَسَدِ الشَّرِيفِ لِلنَّبِيِّ ﷺ.
وَذَكَرَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضَ نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ ﷺ أَفْضَل الأَْرْضِ، وَالْخِلاَفُ فِيمَا سِوَاهُ (20) .
مَشَاهِدُ الْمَدِينَةِ
7 - مَشَاهِدُ الْمَدِينَةِ مَوَاضِعُ ذَاتُ فَضْلٍ، وَمَأْثُرَةٍ تَارِيخِيَّةٍ، اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ زِيَارَتَهَا، وَهِيَ نَحْوُ ثَلاَثِينَ مَوْضِعًا يَعْرِفُهَا أَهْل الْمَدِينَةِ وَمِنْ أَهَمِّهَا مَا يَلِي:
أ - الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ
8 - وَهُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الإِْسْلاَمِ بَعْدَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَالصَّلاَةُ فِيهِ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ آخَرَ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مَعَالِمُ مِنْهَا: الرَّوْضَةُ الشَّرِيفَةُ وَالْمِنْبَرُ وَالْمِحْرَابُ، وَالْحُجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي تَشَرَّفَتْ بِضَمِّ رُفَاتِهِ ﷺ وَرُفَاتِ صَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ﵄.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُنْظَرُ فِي (الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَزِيَارَةُ النَّبِيِّ ﷺ ف4) .
ب - مَسْجِدُ قُبَاءٍ:
9 - وَهُوَ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الإِْسْلاَمِ، وَأَوَّل مَنْ وَضَعَ أَسَاسَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ سُمِّيَ بِاسْمِ قُبَاءٍ، قَرْيَةٍ تَبْعُدُ عَنِ الْمَدِينَةِ قَدْرَ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ تَقْرِيبًا.
وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَالصَّلاَةُ فِيهِ كُل أُسْبُوعٍ، وَأَفْضَلُهُ يَوْمُ السَّبْتِ (21) ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قَال: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ: يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُل سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا (22) .
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: الصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ (23) .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقَال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ فِي أَصْحَابِهِ يَنْقُلُونَ حِجَارَتَهُ عَلَى بُطُونِهِمْ وَيُؤَسِّسُهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ. . . (24) .
ج - الْبَقِيعُ
- وَيُقَال لَهُ: بَقِيعُ الْغَرْقَدِ، لِوُجُودِ شَجَرِ الْغَرْقَدِ فِيهِ (25) ، وَكَانَ مَقْبَرَةَ أَهْل الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَقَعُ إِلَى الشَّرْقِ مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ (26) ، مِنْ أَصَحِّهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّ جِبْرِيل أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَال: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْل بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. . . (27) .
وَعَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَيْضًا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْل إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَِهْل بَقِيعِ الْغَرْقَدِ (28) . قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ زَائِرُ الْمَدِينَةِ كُل يَوْمٍ إِلَى الْبَقِيعِ خُصُوصًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلاَمِ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ (29) .
وَفِي الْبَقِيعِ قُبُورُ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَانَتْ قَدْ بُنِيَتْ عَلَيْهِمْ قِبَابٌ، وَقَدْ أُزِيلَتْ، لَكِنَّ أَهْل الْخِبْرَةِ يَعْرِفُونَ مَوَاضِعَهُمْ، مِنْهُمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ﵄ إِلَى الْغَرْبِ، وَشَرْقِيُّهُ قَبْرُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ﵄ وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ وَبَعْضِ أَهْل الْبَيْتِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، كَقَبْرِ صَفِيَّةَ ﵂ عَمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وَإِبْرَاهِيمَ ﵁ ابْنِهِ إِلَى جَنْبِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَإِلَى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ﵄ وَثَمَّةَ مَوْضِعُ قُبُورِ مَنْ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا (30) .
د - جَبَل أُحُدٍ وَقُبُورُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَهُ
11 - أُحُدٌ جَبَلٌ عَظِيمٌ يُطِل عَلَى الْمَدِينَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ جِبَالٍ أُخَرَ هُنَاكَ، وَبِاسْمِهِ سُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَل ظَهْرَ جَيْشِهِ إِلَى جَبَل أُحُدٍ. وَوَرَدَ أَنَّهُ ﷺ قَال: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ (31) كَمَا جَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَال: اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ (32) .
وَتُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ شُهَدَاءِ أُحُدٍ ﵃ وَقَدْ أُحِيطَتْ، قُبُورُهُمْ بِسِيَاجٍ، وَأُعْلِمَ عَلَى قَبْرِ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةَ ﵁ بِعَلاَمَةِ قَبْرٍ كَبِيرَةٍ، وَمَعَهُ فِي الْقَبْرِ الْمُجَدَّعُ فِي اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ ﵁ قِيل لَهُ: الْمُجَدَّعُ لأَِنَّهُ دَعَا يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقَاتِل وَيُسْتَشْهَدَ وَيُقْطَعَ أَنْفُهُ وَأُذُنُهُ وَيُمَثَّل بِهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ.
وَإِلَى جَانِبِهِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ﵁ دَاعِيَةُ الإِْسْلاَمِ فِي الْمَدِينَةِ وَثَمَّةَ بَاقِي الشُّهَدَاءِ، وَلاَ يُعْرَفُ قَبْرُ أَحَدٍ مِنْهُمْ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ حَوْل حَمْزَةَ فِي بُقْعَةِ الْمَوْقِعَةِ ﵃ وَعِدَّتُهُمْ سَبْعُونَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْبَاقِي مِنَ الأَْنْصَارِ، مِنْهُمْ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ غَسِيل الْمَلاَئِكَةِ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ النَّبِيِّ ﷺ وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمَالِكُ بْنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمْ، ﵃ جَمِيعًا (1) .
وَيُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ بِالصِّيغَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْل الْقُبُورِ، نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّلاَمِ عَلَى أَهْل الْبَقِيعِ.
__________
(1) القاموس المحيط ومختار الصحاح.
(2) جواهر الإكليل 1 / 267.
(3) حديث: " أمرت بقرية تأكل القرى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 87، ومسلم 2 / 1006) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله. . . ". أخرجه أحمد (4 / 285) من حديث البراء بن عازب، وفي إسناده راو متكلم فيه، ذكر الذهبي في ترجمته من الميزان (2 / 425) هذا الحديث من مناكيره.
(5) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 1 / 109، وفتح الباري 4 / 69 - 71 طبعة النهضة المصرية، ومتن الإيضاح للنووي ص156.
(6) معجم البلدان لياقوت الحموي / مدينة يثرب.
(7) حديث: " اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 68) ، ومسلم (2 / 994) واللفظ لمسلم.
(8) حديث: " تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 14 - 90) ، ومسلم (2 / 1009) واللفظ للبخاري.
(9) حديث: " من أراد أهل المدينة بسواء أذابه الله. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 94) ، ومسلم (2 / 1008) واللفظ لمسلم.
(10) حديث: " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 95) . ومسلم (2 / 1005) .
(11) حديث: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 93) .
(12) المهذب والمجموع 7 / 436 - 439، والفروع: 3 / 481 - 482، وإعلام الساجد في أحكام المساجد ص245.
(13) ابن عابدين 2 / 256، ومغني المحتاج 1 / 482، والمغني 3 / 556.
(14) حديث عبد الله بن عدي: " أرأيت رسول الله ﷺ واقفًا على الحزورة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 722) وقال: حديث حسن غريب صحيح.
(15) حديث: " ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 723) وقال: حديث حسن غريب.
(16) حديث: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63) ، ومسلم (2 / 1012) .
(17) حديث: " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا ". أخرجه أحمد (4 / 5) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 5) : رجاله رجال الصحيح.
(18) حديث: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 262) ، ومسلم (2 / 1003) من حديث عائشة ﵂.
(19) انظر الاستدلالات في المنتقى للباجي شرح الموطأ: 7 / 197، هداية السالك: 1 / 46 - 47.
(20) وفاء الوفا للسمهودي 1 / 28، وابن عابدين 2 / 257، ومغني المحتاج 1 / 482.
(21) المجموع 8 / 276.
(22) حديث: " كان النبي ﷺ يأتي مسجد قباء كل سبت راكبًا وماشيًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 69) ، ومسلم (2 / 1017) .
(23) حديث: " الصلاة في مسجد قباء كعمرة ". أخرجه الترمذي (2 / 146) من حديث أسيد بن ظهر الأنصاري، وقال: حديث حسن غريب.
(24) الدرة الثمينة في تاريخ المدينة: 2 / 380.
(25) الغرقد: نبات من الفصيلة الصنوبرية يرتفع قدر متر ويتكاتف حتى يغطي ما تحته.
(26) انظر طائفة منها في هداية السالك: 1 / 118 - 119، والإيضاح للنووي ص162.
(27) حديث: " أن جبريل أتى النبي ﷺ فقال: إن ربك يأمرك. . . ". أخرجه مسلم (2 / 671) .
(28) حديث عائشة: " كان رسول الله ﷺ كلما كان ليلتها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 669) .
(29) المجموع 8 / 275 طبعة دار الفكر.
(30) هداية السالك: 1 / 94، 95.
(31) حديث: " أُحُد جبل يحبنا ونحبه ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 377) ، ومسلم (2 / 1011) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(32) حديث: " أن النبي ﷺ صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 220) .
الموسوعة الفقهية الكويتية: 308/ 36
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".