اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
تمليك منافع الشيء مؤقتاً بغير عوض . ومن أمثلته : إعارة امرأة سوارها الذهبي لأختها لتحضر به عرساً .
تمليك منافع الشيء مؤقتاً بغير عوض.
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْعَارَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ التَّعَاوُرِ، وَهُوَ التَّدَاوُل وَالتَّنَاوُبُ مَعَ الرَّدِّ. وَالإِْعَارَةُ مَصْدَرُ أَعَارَ، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْعَارِيَّةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْفِعْل، وَعَلَى الشَّيْءِ الْمُعَارِ، وَالاِسْتِعَارَةُ طَلَبُ الإِْعَارَةِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُتَقَارِبَةٍ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ مَجَّانًا. (2)
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِلاَ عِوَضٍ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا شَرْعًا إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. (4)
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهَا إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمَال (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُمْرَى:
2 - الْعُمْرَى: تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ طُول حَيَاةِ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهِيَ أَخَصُّ.
ب - الإِْجَارَةُ:
3 - الإِْجَارَةُ: تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ بِعِوَضٍ، فَتَجْتَمِعُ مَعَ الإِْعَارَةِ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالتَّمْلِيكِ، وَتَنْفَرِدُ الإِْجَارَةُ بِأَنَّهَا بِعِوَضٍ، وَالإِْعَارَةُ بِأَنَّهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ (6) .
ج - الاِنْتِفَاعُ:
4 - الاِنْتِفَاعُ: هُوَ حَقُّ الْمُنْتَفِعِ فِي اسْتِعْمَال الْعَيْنِ وَاسْتِغْلاَلِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ، وَلاَ أَنْ يُعِيرَهُ لِغَيْرِهِ وَالْمَنْفَعَةُ أَعَمُّ مِنَ الاِنْتِفَاعِ، لأَِنَّ لَهُ فِيهَا الاِنْتِفَاعَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، كَأَنْ يُعِيرَهُ أَوْ يُؤَاجِرَهُ (7) .
دَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا:
5 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الإِْعَارَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْمَعْقُول: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (8) فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: الْمَاعُونُ الْعَوَارِيُّ. وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْعَوَارِيَّ بِأَنَّهَا الْقِدْرُ وَالْمِيزَانُ وَالدَّلْوُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ. وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ. وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ. وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ. (9) وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَال: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَال بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ. (10) وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْعَارِيَّةِ.
وَمِنَ الْمَعْقُول: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ هِبَةُ الأَْعْيَانِ جَازَتْ هِبَةُ الْمَنَافِعِ، وَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالأَْعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ جَمِيعًا. (11) حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْعَارَةِ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهَا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حُكْمَهَا فِي الأَْصْل النَّدْبُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (12) وَقَوْل النَّبِيِّ ﷺ كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ (13) وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً لأَِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الإِْحْسَانِ. لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ، (14) وَقَوْلُهُ: لَيْسَ فِي الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ (15) وَقِيل: هِيَ وَاجِبَةٌ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (16) نُقِل عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا عَارِيَّةَ الْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَنَحْوِهِمَا.
قَال صَاحِبُ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ، كَغَنِيٍّ عَنْهَا، فَيَجِبُ إِعَارَةُ كُل مَا فِيهِ إِحْيَاءُ مُهْجَةٍ مُحْتَرَمَةٍ لاَ أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ، وَكَذَا إِعَارَةُ سِكِّينٍ لِذَبْحِ مَأْكُولٍ يُخْشَى مَوْتُهُ، وَهَذَا الْمَنْقُول عَنِ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى. وَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا كَإِعْطَائِهَا لِمَنْ تُعِينُهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً كَإِعْطَائِهَا لِمَنْ تُعِينُهُ عَلَى فِعْلٍ مَكْرُوهٍ. (17)
أَرْكَانُ الإِْعَارَةِ:
7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِنَّ أَرْكَانَ الْعَارِيَّةِ أَرْبَعَةٌ هِيَ: الْمُعِيرُ، وَالْمُسْتَعِيرُ، وَالْمُعَارُ، وَالصِّيغَةُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ - إِلَى أَنَّ رُكْنَهَا هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، وَمَا عَدَاهُ يُسَمَّى أَطْرَافَ الْعَقْدِ، كَمَا يُسَمَّى الْمُعَارَ مَحَلًّا.
أ - الْمُعِيرُ: وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ الْمُعَارِ، مُخْتَارًا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ، فَلاَ تَصِحُّ إِعَارَةُ مُكْرَهٍ، وَلاَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلاَ إِعَارَةُ مَنْ يَمْلِكُ الاِنْتِفَاعَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ كَسُكَّانِ مَدْرَسَةٍ مَوْقُوفَةٍ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ إِذَا أَعَارَ مَالَهُ صَحَّتِ الإِْعَارَةُ. (18)
ب - الْمُسْتَعِيرُ: وَهُوَ طَالِبُ الإِْعَارَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ عَلَيْهِ بِالشَّيْءِ الْمُعَارِ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، فَلَوْ فَرَشَ بِسَاطَهُ لِمَنْ يَجْلِسُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَارِيَّةً، بَل مُجَرَّدُ إِبَاحَةٍ.
ج - الْمُسْتَعَارُ (الْمَحَل) : هُوَ الَّذِي يَمْنَحُهُ الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا مَقْصُودًا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ. أَمَّا مَا تَذْهَبُ عَيْنُهُ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ كَالطَّعَامِ فَلَيْسَ إِعَارَةً، كَمَا لاَ تَحِل إِذَا كَانَتِ الإِْعَارَةُ لاِنْتِفَاعٍ مُحَرَّمٍ، كَإِعَارَةِ السِّلاَحِ لأَِهْل الْبَغْيِ أَوِ الْفَسَادِ، وَلاَ يُعَارُ مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ. (19)
د - الصِّيغَةُ: وَهِيَ كُل مَا يَدُل عَلَى الإِْعَارَةِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ فِعْلٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ اللَّفْظِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ. أَوِ الْكِتَابَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تَجُوزُ بِالْفِعْل.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ رُكْنَ الإِْعَارَةِ الإِْيجَابُ بِالْقَوْل مِنَ الْمُعِيرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَوْل فِي الْقَبُول، خِلاَفًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَتَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهَا وَلَوْ مَجَازًا. (20)
مَا تَجُوزُ إِعَارَتُهُ:
8 - تَجُوزُ إِعَارَةُ كُل عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَعَ بَقَائِهَا، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ لِلُّبْسِ، وَالْفَحْل لِلضِّرَابِ، وَالْكَلْبِ لِلصَّيْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعَارَ أَدْرُعًا مِنْ صَفْوَانَ. (21) وَذَكَرَ إِعَارَةَ الدَّلْوِ وَالْفَحْل. وَذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَارِيَّةً الْقِدْرِ وَالْمِيزَانِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ. وَمَا عَدَاهَا مَقِيسٌ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا. وَلأَِنَّ مَا جَازَ لِلْمَالِكِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْمَنَافِعِ مَلَكَ إِعَارَتَهُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَلأَِنَّهَا أَعْيَانٌ تَجُوزُ إِجَارَتُهَا فَجَازَتْ إِعَارَتُهَا. وَيَجُوزُ اسْتِعَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيَزِنَ بِهَا أَوْ لِلتَّزَيُّنِ، فَإِنِ اسْتَعَارَهَا لِيُنْفِقَهَا فَهَذَا قَرْضٌ، وَقِيل: لَيْسَ هَذَا جَائِزًا وَلاَ تَكُونُ الْعَارِيَّةُ فِي الدَّنَانِيرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ تَجُوزُ أَيْضًا إِعَارَةُ الْمُشَاعِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ أَمْ لاَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْجُزْءُ الْمُشَاعُ مَعَ شَرِيكٍ أَمْ مَعَ أَجْنَبِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَارِيَّةُ مِنْ وَاحِدٍ أَمْ مِنْ أَكْثَرَ، لأَِنَّ جَهَالَةَ الْمَنْفَعَةِ لاَ تُفْسِدُ الإِْعَارَةَ. وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. (22)
طَبِيعَتُهَا مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ:
9 - إِذَا تَمَّتِ الإِْعَارَةُ بِتَحَقُّقِ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا، فَهَل تَلْزَمُ بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا مِنَ الْمُعِيرِ أَوْ لاَ تَلْزَمُ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الأَْصْل أَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي إِعَارَتِهِ مَتَى شَاءَ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْعَارَةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ أَوْ وَقْتٍ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ أَعَارَهُ شَيْئًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ انْتِفَاعًا يَلْزَمُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْعَارِيَّةِ فِي أَثْنَائِهِ ضَرَرٌ بِالْمُسْتَعِيرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، لأَِنَّ الرُّجُوعَ يَضُرُّ بِالْمُسْتَعِيرِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْضْرَارُ بِهِ، مِثْل أَنْ يُعِيرَهُ لَوْحًا يُرَقِّعُ بِهِ سَفِينَتَهُ، فَرَقَّعَهَا بِهِ وَلَجَّجَ بِهَا فِي الْبَحْرِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ مَا دَامَتْ فِي الْبَحْرِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْل دُخُولِهَا فِي الْبَحْرِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ، لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ فِي إِعَارَتِهِ بَطَلَتْ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَجْرِ الْمِثْل إِذَا حَصَل ضَرَرٌ، كَمَنِ اسْتَعَارَ جِدَارَ غَيْرِهِ لِوَضْعِ جُذُوعِهِ فَوَضَعَهَا، ثُمَّ بَاعَ الْمُعِيرُ الْجِدَارَ، لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَفْعُهَا، وَقِيل: لَهُ رَفْعُهَا إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ وَقْتَ الْبَيْعِ بَقَاءَ الْجُذُوعِ. وَقَدِ ارْتَضَى الْقَوْل بِالرَّفْعِ صَاحِبُ الْخُلاَصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَاعْتَمَدَهُ فِي تَنْوِيرِ الْبَصَائِرِ، وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ يَأْمُرَ الْجَارَ بِرَفْعِ الْجُذُوعِ عَلَى أَيِّ حَالٍ. (23)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَعَارَ الْمُعِيرُ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ إِعَارَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَحْصُل غَرْسٌ وَلاَ بِنَاءٌ فَلِلْمُعِيرِ الرُّجُوعُ فِي الإِْعَارَةِ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَعَلَى غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ يَلْزَمُهُ بَقَاءُ الأَْرْضِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ الْمُدَّةَ الْمُعْتَادَةَ، وَإِنْ رَجَعَ الْمُعِيرُ بَعْدَ حُصُول الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ الأَْرْضِ وَلَوْ كَانَتِ الإِْعَارَةُ قَرِيبَةً، لِتَفْرِيطِ الْمُسْتَعِيرِ بِتَرْكِهِ اشْتِرَاطَ الأَْجَل، لَكِنْ مَاذَا يَلْزَمُ الْمُعِيرَ حِينَئِذٍ؟ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَفْعُ مَا أَنْفَقَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ ثَمَنِ الأَْعْيَانِ الَّتِي بَنَى بِهَا أَوْ غَرَسَهَا مِنْ أُجْرَةِ النَّقْلَةِ. وَفِي قَوْلٍ إِنَّ عَلَيْهِ دَفْعَ الْقِيمَةِ إِنْ طَال زَمَنُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِتَغَيُّرِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِطُول الزَّمَانِ. وَفِي قَوْلٍ إِنَّ مَحَل دَفْعِ الْقِيمَةِ إِذَا كَانَتِ الأَْعْيَانُ الَّتِي بَنَى بِهَا الْمُسْتَعِيرُ هِيَ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَشْتَرِهَا أَوْ كَانَتْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ. وَمَحَل دَفْعِ مَا أَنْفَقَ إِنِ اشْتَرَاهُ لِلْعِمَارَةِ. وَكُل ذَلِكَ فِي الإِْعَارَةِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً فَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَيَدْفَعُ لَهُ الْمُعِيرُ فِي بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ قِيمَتَهُ. (24)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْعَارَةَ إِنْ قُيِّدَتْ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ لَزِمَتْ، وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ قَبْل انْتِهَاءِ الْعَمَل أَوِ الأَْجَل أَيًّا كَانَ الْمُسْتَعَارُ، أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ أَوْ لِسُكْنَى أَوْ لِوَضْعِ شَيْءٍ بِهَا، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا لِرُكُوبٍ أَوْ حَمْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ عَرْضًا.
وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدْ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ بِأَنْ أُطْلِقَتْ فَلاَ تَلْزَمُ، وَلِرَبِّهَا أَخْذُهَا مَتَى شَاءَ، وَلاَ يَلْزَمُ قَدْرُ مَا تَقْصِدُ الإِْعَارَةَ لِمِثْلِهِ عَادَةً عَلَى الْمُعْتَمَدِ. وَفِي غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَلْزَمُ بَقَاؤُهُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ لِمَا يُعَارُ لِمِثْلِهِ عَادَةً. وَقِيل: إِنَّهُ تَلْزَمُ إِذَا أُعِيرَتِ الأَْرْضُ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَحَصَلاَ.
وَدَلِيل جَوَازِ الرُّجُوعِ إِلاَّ فِيمَا اسْتُثْنِيَ أَنَّ الإِْعَارَةَ مَبَرَّةٌ مِنَ الْمُعِيرِ، وَارْتِفَاقٌ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، فَالإِْلْزَامُ غَيْرُ لاَئِقٍ بِهَا. (25)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَذِنَ أَحَدٌ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِبِنَاءِ مَحَلٍّ فِي دَارِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَلِبَاقِي الْوَرَثَةِ مُطَالَبَتُهُ بِرَفْعِهِ إِنْ لَمْ تَقَعِ الْقِسْمَةُ، أَوْ لَمْ يَخْرُجْ فِي قَسْمِهِ. وَإِذَا اسْتَعَارَ أَحَدٌ دَارًا، فَبَنَى فِيهَا بِلاَ إِذْنِ الْمَالِكِ. أَوْ قَال لَهُ صَاحِبُ الدَّارِ: ابْنِ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ بَاعَ الْمُعِيرُ الدَّارَ بِحُقُوقِهَا يُؤْمَرُ الْبَانِي بِهَدْمِ بِنَائِهِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ إِنْسَانٌ مَدْفِنًا لِدَفْنِ مَيِّتٍ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ حَتَّى يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَرْجِعُ حِينَئِذٍ وَتَنْتَهِي الْعَارِيَّةُ. وَحُكْمُ الْوَرَثَةِ حُكْمُ مُوَرِّثِهِمْ فِي عَدَمِ الرُّجُوعِ، وَلاَ أُجْرَةَ لِذَلِكَ، مُحَافَظَةً عَلَى كَرَامَةِ الْمَيِّتِ، وَلِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِعَدَمِ الأُْجْرَةِ، وَالْمَيِّتُ لاَ مَال لَهُ. وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى هَذَا الْحُكْمَ. (26)
آثَارُ الرُّجُوعِ:
10 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمُعِيرَ إِذَا رَجَعَ فِي إِعَارَتِهِ بَطَلَتِ الإِْعَارَةُ، وَيَبْقَى الْمُعَارُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِأَجْرِ الْمِثْل كَمَا مَرَّ إِنْ حَصَل ضَرَرٌ لِلْمُسْتَعِيرِ بِأَخْذِ الْمُعَارِ مِنْهُ. وَأَوْرَدُوا الأَْحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِكُل نَوْعٍ مِمَّا يُعَارُ. فَقَالُوا فِي إِعَارَةِ الأَْرْضِ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ: لَوْ أَعَارَ أَرْضًا إِعَارَةً مُطْلَقَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ صَحَّ لِلْعِلْمِ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ، وَيُكَلِّفُ الْمُعِيرُ الْمُسْتَعِيرَ قَلْعَ الزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهِ مَضَرَّةٌ بِالأَْرْضِ، فَيُتْرَكَانِ بِالْقِيمَةِ مَقْلُوعَيْنِ، لِئَلاَّ تَتْلَفَ أَرْضُهُ، أَوْ يَأْخُذُ الْمُسْتَعِيرُ غِرَاسَهُ وَبِنَاءَهُ بِلاَ تَضْمِينِ الْمُعِيرِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعِيرَ قِيمَتَهُمَا قَائِمَيْنِ فِي الْحَال وَيَكُونَانِ لَهُ وَأَنْ يَرْفَعَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّفْعُ مُضِرًّا بِالأَْرْضِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُعِيرِ. وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي الْعَارِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَعَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ. وَأَشَارَ أَيْضًا إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي الْمُؤَقَّتَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ فَيُقْلِعُ الْمُعِيرُ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ إِلاَّ أَنْ يَضُرَّ الْقَلْعُ بِالأَْرْضِ، فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ قِيمَتَهُمَا مَقْلُوعَيْنِ لاَ قَائِمَيْنِ.
وَإِنْ وَقَّتَ الْمُعِيرُ الإِْعَارَةَ فَرَجَعَ عَنْهَا قَبْل الْوَقْتِ كُلِّفَ الْمُسْتَعِيرُ قَلْعَهَا، وَضَمِنَ الْمُعِيرُ لَهُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ، لَكِنْ هَل يَضْمَنُهُمَا قَائِمَيْنِ أَوْ مَقْلُوعَيْنِ؟ .
مَا مَشَى عَلَيْهِ الْكَنْزُ وَالْهِدَايَةُ أَنَّهُ يَضْمَنُهُمَا مَقْلُوعَيْنِ، وَذُكِرَ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُحِيطِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ قَائِمًا إِلاَّ أَنْ يُقْلِعَهُ الْمُسْتَعِيرُ وَلاَ ضَرَرَ، فَإِنْ ضَمِنَ فَضَمَانُ الْقِيمَةِ مَقْلُوعًا. وَعِبَارَةُ الْمَجْمَعِ: وَأَلْزَمْنَاهُ الضَّمَانَ فَقِيل: مَا نَقَصَهُمَا الْقَلْعُ، وَقِيل: قِيمَتُهُمَا وَيَمْلِكُهُمَا. وَقِيل: إِنْ ضَرَّ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ ضَمَانِ مَا نَقَصَ، وَضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَمِثْلُهُ فِي دُرَرِ الْبِحَارِ وَالْمَوَاهِبُ وَالْمُلْتَقَى وَكُلُّهُمْ قَدَّمُوا الأَْوَّل، وَبَعْضُهُمْ جَزَمَ بِهِ وَعَبَّرَ عَنْ غَيْرِهِ بِقِيل فَلِذَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ابْنُ عَابِدِينَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ، وَالثَّانِي رِوَايَةُ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ (27) .
وَقَال الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ فِي الْمَنْهَجِ: إِذَا أَعَارَ لِبِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ، وَلَوْ إِلَى مُدَّةٍ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَرَسَ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ قَلْعَهُ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُسْتَعِيرُ الْقَلْعَ قَلَعَ مَجَّانًا وَلَزِمَهُ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ قَلَعَ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ قَلْعَهُ خُيِّرَ الْمُعِيرُ بَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ مُسْتَحَقَّ الْقَلْعِ حِينَ التَّمَلُّكِ، وَبَيْنَ قَلْعِهِ مَعَ ضَمَانِ نَقْصِهِ، وَهُوَ قَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَتِهِ قَائِمًا وَقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَبَيْنَ تَبْقِيَتِهِ بِأُجْرَةٍ. (28)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْقَلْعَ فِي وَقْتٍ أَوْ عِنْدَ رُجُوعِهِ، ثُمَّ رَجَعَ لَزِمَ الْمُسْتَعِيرَ الْقَلْعُ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْمُعِيرُ النَّقْصَ، فَإِنْ أَبَى الْقَلْعَ فِي الْحَال الَّتِي لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِيهَا، فَبَذَل لَهُ الْمُعِيرُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لِيَمْلِكَهُ أُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُعِيرُ مِنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ وَأَرْشِ النَّقْصِ، وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْقَلْعِ وَدَفْعِ الأَْجْرِ لَمْ يُقْلَعْ، وَإِنْ أَبَيَا الْبَيْعَ تُرِكَ بِحَالِهِ وَلِلْمُعِيرِ التَّصَرُّفُ بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضُرُّ بِالشَّجَرِ. (29)
إِعَارَةُ الأَْرْضِ لِلزَّرْعِ:
11 - لِلْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي إِعَارَةِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ قَبْل تَمَامِ الزَّرْعِ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ الْقَوْل غَيْرُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مُعِيرَ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ إِذَا رَجَعَ قَبْل تَمَامِ الزَّرْعِ وَحَصَادِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، بَل تَبْقَى فِي يَدِهِ بِأَجْرِ الْمِثْل. وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانٌ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْعَارَةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُقَيَّدَةً.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُعِيرُ أَجْرَ مِثْل الأَْرْضِ مِنْ تَارِيخِ رُجُوعِهِ حَتَّى حَصَادِ الزَّرْعِ، فَيَنْتَفِي ضَرَرُهُ بِذَلِكَ، وَيَبْقَى الزَّرْعُ فِي الأَْرْضِ حَتَّى يُحْصَدَ. وَفِي ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الْمُسْتَعِيرِ، فَلاَ يُضَرُّ بِالْقَلْعِ قَبْل الْحَصَادِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الإِْعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ إِنْ نَقَصَ الزَّرْعُ بِالْقَلْعِ، لأَِنَّهُ مُحْتَرَمٌ، وَلَهُ أَمَدٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَتَبْقَى بِأَجْرِ الْمِثْل. وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي الإِْعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ:
أَحَدُهَا: هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الأَْرْضَ تَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ الْمُدَّةَ الَّتِي تُرَادُ الأَْرْضُ لِمِثْلِهَا عَادَةً.
وَالثَّالِثُ: لاَ تَبْقَى، وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ.
أَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ فَلاَ يَرْجِعُ قَبْل انْقِضَاءِ الْعَمَل أَوِ الأَْجَل.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَلاَّ أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، بَل تَبْقَى الأَْرْضُ فِي يَدِهِ حَتَّى الْحَصَادِ بِلاَ أَجْرٍ، لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الأَْرْضِ إِلَى الْحَصَادِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ لِلْمُعِيرِ الْقَلْعَ لاِنْقِطَاعِ الإِْبَاحَةِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يُحْصَدُ قَصِيلاً فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي وَقْتِ إِمْكَانِ حَصَادِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الزَّرْعِ، كَالْبِرْسِيمِ وَالشَّعِيرِ الأَْخْضَرِ. (30)
إِعَارَةُ الدَّوَابِّ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ إِعَارَةَ الدَّوَابِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً، بِأَنْ أَعَارَ دَابَّتَهُ مَثَلاً وَلَمْ يُسَمِّ مَكَانًا وَلاَ زَمَانًا وَلاَ رُكُوبًا وَلاَ حَمْلاً مُعَيَّنًا فَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي أَيِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَحْمِل أَوْ يَرْكَبَ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَقَدْ مَلَّكَهُ مَنَافِعَ الْعَارِيَّةِ مُطْلَقًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهَا. إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَحْمِل عَلَيْهَا مَا يَضُرُّهَا، وَلاَ يَسْتَعْمِلُهَا أَكْثَرَ مِمَّا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، حَتَّى لَوْ فَعَل فَعَطِبَتْ ضَمِنَ، لأَِنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الإِْطْلاَقِ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دَلاَلَةً، كَمَا يَتَقَيَّدُ نَصًّا.
وَلاَ يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ تَأْجِيرَ الْعَارِيَّةِ، فَإِنْ أَجَّرَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ، لَكِنْ إِذَا ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ.
وَإِذَا قَيَّدَ الْمُعِيرُ الإِْعَارَةَ تَقَيَّدَتْ بِمَا قَيَّدَهَا بِهِ.
فَإِنْ خَالَفَ الْمُسْتَعِيرُ، وَعَطِبَتِ الدَّابَّةُ ضَمِنَ بِالاِتِّفَاقِ. وَإِنْ خَالَفَ وَسُلِّمَتْ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَضْمَنُ أَجْرَ مَا زَادَ فِي الْمَسَافَةِ أَوِ الْحَمْل (31) وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا الْفَرْعِ فِي كِتَابِ الإِْعَارَةِ وَلَكِنْ تَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الإِْجَارَةِ فَقَالُوا: " إِذَا زَادَ عَلَى الدَّابَّةِ شَيْئًا غَيْرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَسُلِّمَتْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَحِل لَهُ الزِّيَادَةُ إِلاَّ بِرِضَى الْمُكَارِي ". (32)
وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنَ الإِْعَارَةِ وَالإِْجَارَةِ فِيهِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَكَانَ أَخْذُ الأَْجْرِ فِي الإِْجَارَةِ مُسَلَّمًا وَفِي الإِْعَارَةِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ، لأَِنَّهَا مِنْ بَابِ الإِْحْسَانِ وَالتَّبَرُّعِ، فَإِنَّ عَدَمَ وُجُوبِ أَجْرٍ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ يَكُونُ فِي الإِْعَارَةِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
فَإِذَا أَعَارَ إِنْسَانًا دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا غَيْرَهُ. لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ. وَالاِعْتِبَارُ فِي هَذَا الْقَيْدِ مُمْكِنٌ، لأَِنَّهُ مُقَيَّدٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَال الدَّوَابِّ، فَإِنْ خَالَفَ الْمُسْتَعِيرُ وَأَعَارَ الدَّابَّةَ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ.
تَعْلِيقُهَا وَإِضَافَتُهَا:
13 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - مَا عَدَا الزَّرْكَشِيُّ - وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِضَافَتُهَا، وَلاَ تَعْلِيقُهَا، لأَِنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ إِضَافَتِهَا دُونَ تَعْلِيقِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فُرُوعًا ظَاهِرُهَا أَنَّهَا تَعْلِيقٌ أَوْ إِضَافَةٌ كَقَوْلِهِمْ: أَعِرْنِي دَابَّتَكَ الْيَوْمَ أُعِيرُكَ دَابَّتِي غَدًا، وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا إِجَارَةٌ لاَ إِعَارَةٌ. (33)
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى تَصْرِيحٍ لِلْحَنَابِلَةِ بِحُكْمِ إِضَافَةِ الإِْعَارَةِ أَوْ تَعْلِيقِهَا. وَإِنْ كَانُوا قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الأَْصْل فِي الإِْعَارَةِ عَدَمُ لُزُومِهَا.
حُكْمُ الإِْعَارَةِ وَأَثَرُهَا:
14 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - عَدَا الْكَرْخِيَّ - وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّ الإِْعَارَةَ تُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِيرَ سَلَّطَ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى تَحْصِيل الْمَنَافِعِ، وَصَرَفَهَا إِلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهَا، وَالتَّسْلِيطُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَمْلِيكًا لاَ إِبَاحَةً، كَمَا فِي الأَْعْيَانِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ أَنَّهَا تُفِيدُ إِبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ لِجَوَازِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ لِمَا جَازَ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ كَالإِْجَارَةِ.
وَكَذَلِكَ الإِْعَارَةُ تَصِحُّ بِلَفْظِ الإِْبَاحَةِ، وَالتَّمْلِيكُ لاَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الإِْبَاحَةِ.
وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ أَعَارَ الْمُسْتَعِيرُ الشَّيْءَ الْمُسْتَعَارَ إِلَى مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ كَاسْتِعْمَالِهِ، فَهَل تَصِحُّ إِعَارَتُهُ أَوْ لاَ تَصِحُّ؟ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِعَارَتَهُ صَحِيحَةٌ، حَتَّى وَلَوْ قَيَّدَ الْمُعِيرُ الإِْعَارَةَ بِاسْتِعْمَال الْمُسْتَعِيرِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ التَّقْيِيدَ بِمَا لاَ يَخْتَلِفُ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ.
وَفِي الْبَحْرِ: وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُودِعَ، عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ عَدَمَهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَا لَوْ أَرْسَلَهَا عَلَى يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ عَلَى الْقَوْل الثَّانِي لاَ الأَْوَّل. فَلِلْمُعِيرِ أَجْرُ الْمِثْل.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالإِْبَاحَةِ، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمُسْتَعِيرُ الشَّيْءَ فَلِمَالِكِ الْعَارِيَّةِ أَجْرُ الْمِثْل، وَيُطَالَبُ الْمُسْتَعِيرَ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِيَ أَيُّهُمَا شَاءَ، لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ الأَْوَّل سَلَّطَ غَيْرَهُ عَلَى أَخْذِ مَال الْمُعِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَلأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ الثَّانِي اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا. فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْمُسْتَعِيرَ الأَْوَّل رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الثَّانِي، لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ حَصَل مِنْهُفَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الأَْوَّل. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي لَمْ يَعْلَمْ بِحَقِيقَةِ الْحَال، فَيُحْتَمَل أَنْ يَسْتَقِرَّ الضَّمَانُ عَلَى الأَْوَّل، لأَِنَّهُ غَرَّ الثَّانِيَ وَدَفَعَ الْعَيْنَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنَافِعَهَا بِدُونِ عِوَضٍ. وَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الثَّانِي، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِكُل حَالٍ، لأَِنَّهُ قَبَضَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ. فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الأَْوَّل رَجَعَ الأَْوَّل عَلَى الثَّانِي. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ. (34)
ضَمَانُ الإِْعَارَةِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِنْ تَلِفَتْ بِالتَّعَدِّي مِنَ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ أَمَانَةً كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: فَالأَْمَانَاتُ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ فِيمَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، أَيْ لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، كَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ، بِخِلاَفِ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، إِلاَّ إِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَلِفَ أَوْ ضَاعَ بِلاَ سَبَبٍ مِنْهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ بِهَلاَكِ الشَّيْءِ الْمُعَارِ، وَلَوْ كَانَ الْهَلاَكُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ أَتْلَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَلَوْ بِلاَ تَقْصِيرٍ. وَقَالُوا: إِنْ تَلِفَتْ بِاسْتِعْمَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، لِحُصُول التَّلَفِ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ.
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ حَدِيثُ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ (35) وَالْمُغِل هُوَ الْخَائِنُ. وَلأَِنَّ الضَّمَانَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالإِْذْنِ، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا الْعَقْدُ فَلأَِنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْعَارِيَّةُ لاَ يُنْبِئُ عَنِ الْتِزَامِ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لإِِبَاحَتِهَا عَلَى الاِخْتِلاَفِ. وَمَا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ لاَ يُتَعَرَّضُ فِيهِ لِلْعَيْنِ حَتَّى يُوجِبَ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلاَكِهِ.
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إِذَا وَقَعَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي، وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ. وَأَمَّا الإِْذْنُ فَلأَِنَّ إِضَافَةَ الضَّمَانِ إِلَيْهِ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ، لأَِنَّ إِذْنَ الْمَالِكِ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ يَنْفِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ يُضَافُ إِلَيْهِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ (36) وَبِقَوْلِهِ ﷺ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ. (37) وَلأَِنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا بِنَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلاَ إِذْنٍ فِي الإِْتْلاَفِ، فَكَانَ مَضْمُونًا كَالْغَاصِبِ وَالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَمَا لاَ يُمْكِنُ بِحَمْل أَحَادِيثِ الضَّمَانِ، عَلَى مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، وَالأَْحَادِيثُ الأُْخْرَى عَلَى مَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ. (38)
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْتْلاَفَ يَكُونُ حَقِيقَةً، وَيَكُونُ مَعْنًى. فَالإِْتْلاَفُ حَقِيقَةً بِإِتْلاَفِ الْعَيْنِ، كَعَطَبِ الدَّابَّةِ بِتَحْمِيلِهَا مَا لاَ يَحْمِلُهُ مِثْلُهَا، أَوِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا لاَ يُسْتَعْمَل مِثْلُهَا فِيهِ، وَالإِْتْلاَفُ مَعْنًى بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ بِجُحُودِ الإِْعَارَةِ أَوْ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، أَوْ بِمُخَالَفَةِ الشُّرُوطِ فِي اسْتِعْمَالِهَا، فَلَوْ حَبَسَ الْعَارِيَّةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ الطَّلَبِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَضْمَنُ لأَِنَّهَا وَاجِبَةُ الرَّدِّ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ ﵊: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ (39) وَقَوْلِهِ ﵊ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ. (40) وَلأَِنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ انْتَهَى بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوِ الطَّلَبِ، فَصَارَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ. وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ حَال قِيَامِهِ، وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ حَال هَلاَكِهِ.
وَلَمْ يَنُصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْهَلاَكِ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمُ السَّابِقِ فِي إِعَارَةِ الدَّوَابِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَلَفُ الْعَيْنِ. قَالُوا: وَإِنِ ادَّعَى الْمُسْتَعِيرُ أَنَّ الْهَلاَكَ أَوِ الضَّيَاعَ لَيْسَ بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَوْ قَرِينَةٌ عَلَى كَذِبِهِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يُغَابُ. (41) شَرْطُ نَفْيِ الضَّمَانِ:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ شَرْطَ نَفْيِ الضَّمَانِ فِيمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ لاَ يُسْقِطُهُ، وَقَال أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَسْقُطُ، وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْل قَتَادَةَ وَالْعَنْبَرِيِّ، لأَِنَّهُ لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلاَفِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا أَسْقَطَ عَنْهُ ضَمَانَهَا. وَقِيل: بَل مَذْهَبُ قَتَادَةَ وَالْعَنْبَرِيِّ أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ ضَمَانُهَا، فَيَجِبُ، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ لِصَفْوَانَ بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ (42) .
وَاسْتَدَل لِعَدَمِ سُقُوطِ الضَّمَانِ بِأَنَّ كُل عَقْدٍ اقْتَضَى الضَّمَانَ لَمْ يُغَيِّرْهُ الشَّرْطُ، كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ، وَمَا اقْتَضَى الأَْمَانَةَ فَكَذَلِكَ، كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ بِشَرْطِ السُّقُوطِ، لأَِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْعَارِيَّةُ مَعْرُوفٌ، وَإِسْقَاطُ الضَّمَانِ مَعْرُوفٌ آخَرُ، وَلأَِنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ شَرْطِهِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ بَاطِلٌ كَشَرْطِ عَدَمِهِ، خِلاَفًا لِلْجَوْهَرَةِ، حَيْثُ جَزَمَ فِيهَا بِصَيْرُورَتِهَا مَضْمُونَةً بِشَرْطِ الضَّمَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ عَيْنًا بِشَرْطِ ضَمَانِهَا عِنْدَ تَلَفِهَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ فَسَدَ الشَّرْطُ دُونَ الْعَارِيَّةِ. قَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِيهِ وَقْفَةٌ. (43) وَلاَ يَرِدُ هُنَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا.
كَيْفِيَّةُ التَّضْمِينِ:
17 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَإِلاَّ فَبِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ، مُتَقَوَّمَةً كَانَتْ أَوْ مِثْلِيَّةً، لأَِنَّ رَدَّ مِثْل الْعَيْنِ مَعَ اسْتِعْمَال جُزْءٍ مِنْهَا مُتَعَذِّرٌ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ فَقْدِ الْمِثْل، فَيُرْجَعُ لِلْقِيمَةِ، وَلاَ تُضْمَنُ الْعَارِيَّةُ بِأَقْصَى الْقِيمَةِ، وَلاَ بِيَوْمِ الْقَبْضِ. (44)
الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ:
18 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنَ الأَْمَانَاتِ فَلاَ تُضْمَنُ. وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لاَ يَخْفَى. وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي، وَأَنَّ الأَْمِينَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ بِيَمِينِهِ. وَاعْتِبَارُ الْمَقْبُوضِ عَارِيَّةً أَوْ غَيْرَ عَارِيَّةً، وَأَنَّ هُنَاكَ تَعَدِّيًا أَمْ لاَ، يُرْجَعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَالْمُسْتَعِيرُ فِيمَا أَعَارَهَا لَهُ، وَقَدْ عَقَرَهَا الرُّكُوبُ أَوِ الْحُمُولَةُ، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الدَّابَّةِ. وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقَوْل قَوْل الْمُسْتَعِيرِ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي عَلَى الْمُسْتَعِيرِ سَبَبَ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ فِي الاِسْتِعْمَال، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الإِْذْنَ فِي الاِسْتِعْمَال يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْل الإِْذْنِ كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْكَرَ الإِْذْنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ.
وَفِي الولوالجية: إِذَا جَهَّزَ الأَْبُ ابْنَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَ وَرَثَتُهُ يَطْلُبُونَ قِسْمَةَ الْجِهَازِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الأَْبُ اشْتَرَى لَهَا الْجِهَازَ فِي صِغَرِهَا أَوْ بَعْدَمَا كَبِرَتْ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهَا فِي حَال صِحَّتِهِ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ فِيهِ بَل هُوَ لِلْبِنْتِ خَاصَّةً.
فَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ قَبُول قَوْل الْمَالِكِ أَنَّهَا عَارِيَّةً بِيَمِينِهِ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَل ذَلِكَ إِذَا صَدَّقَهُ الْعُرْفُ.
وَقَالُوا: كُل أَمِينٍ ادَّعَى إِيصَال الأَْمَانَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا قُبِل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، كَالْمُودَعِ إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ وَالْوَكِيل وَالنَّاظِرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ مُسْتَحِقِّهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِلاَّ فِي الْوَكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ، إِذَا ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَكِّل أَنَّهُ قَبَضَهُ وَدَفَعَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. (45)
وَلَوْ جَهَّزَ ابْنَتَهُ بِمَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا، ثُمَّ قَال: كُنْتُ أَعَرْتُهَا الأَْمْتِعَةَ. إِنْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَمِرًّا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الأَْبَ يَدْفَعُ الْجِهَازَ مِلْكًا لاَ إِعَارَةً، لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِنَّهُ إِعَارَةٌ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ كَذَلِكَ أَوْ تَارَةً وَتَارَةً فَالْقَوْل لَهُ فِي جَمِيعِ الْجِهَازِ، لاَ فِي الزَّائِدِ عَلَى جِهَازِ مِثْلِهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْجِهَازُ أَكْثَرَ مِمَّا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا فَالْقَوْل لَهُ اتِّفَاقًا.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، إِذْ قَالُوا: إِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ وَاخْتَلَفَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي سَبَبِ هَلاَكِهَا أَوْ تَعَيُّبِهَا، فَقَال الْمُعِيرُ: هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِكَ، وَقَال الْمُسْتَعِيرُ: مَا فَرَّطْتُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهَا مَا هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ. فَإِنْ نَكَل غَرِمَ بِنُكُولِهِ. وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لأَِنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ.
وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ فِي حَالَةِ الْهَلاَكِ، أَوْ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ قِيمَتِهِ سَلِيمًا وَمُتَعَيَّبًا.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعَارُ غَيْرَ آلَةِ حَرْبٍ كَفَأْسٍ وَنَحْوِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى الْمُعِيرِ مَكْسُورًا فَلاَ يُخْرِجُهُ مِنَ الضَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالاً مَعْهُودًا فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِعَكْسِهِ فَكُسِرَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ. (46)
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْمُنْتَفِعُ فِي كَوْنِ الْعَيْنِ عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، رُدَّتِ الْعَيْنُ إِلَى مَالِكِهَا، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ هُنَا بِتَحْلِيفِ مُدَّعِي الإِْعَارَةِ.
وَإِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَِنَّ الْمُنْتَفِعَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْمَالِكِ مِلْكَ الاِنْتِفَاعِ، وَلأَِنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ فَكَانَ الْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ فِي التَّعْيِينِ، لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ، دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ.
19 - وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهَا عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً بَعْدَ تَلَفِ الْعَيْنِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ وَتَلِفَتِ الْبَهِيمَةُ، وَكَانَ الأَْجْرُ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، أَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ مِنْهُمَا أَقَل مِمَّا يَعْتَرِفُ بِهِ الرَّاكِبُ، فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. سَوَاءٌ ادَّعَى الإِْجَارَةَ أَوِ الإِْعَارَةَ، إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ. وَيُحْتَمَل أَلاَّ يَأْخُذَهُ إِلاَّ بِيَمِينٍ، لأَِنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا لاَ يُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَعْتَرِفُ لَهُ الرَّاكِبُ بِمَا يَدَّعِيهِ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ أَكْثَرَ، مِثْل إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِهَا فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهَا عَارِيَّةً لِتَجِبَ لَهُ الْقِيمَةُ، وَأَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الأُْجْرَةِ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا مُكْتَرَاةٌ، أَوْ كَانَ الْكِرَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهُ أَجَّرَهَا لِيَجِبَ لَهُ الْكِرَاءُ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا عَارِيَّةً، فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
وَقَوَاعِدُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْل حِينَئِذٍ قَوْل مَنْ يَدَّعِي الإِْعَارَةَ، لأَِنَّهُ يَنْفِي الأُْجْرَةَ. وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى كُل حَالٍ فِي الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ.
فَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ قَبْل رَدِّهَا تَلَفًا تُضْمَنُ بِهِ الْعَارِيَّةُ فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الضَّمَانِ لَهَا، لِضَمَانِ كُلٍّ مِنَ الْعَارِيَّةِ وَالْمَغْصُوبِ. (47)
وَإِذَا اخْتَلَفَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ الْغَصْبَ، وَادَّعَى الْمُنْتَفِعُ الإِْعَارَةَ، فَإِنْ كَانَ قَبْل الاِسْتِعْمَال وَالدَّابَّةُ تَالِفَةٌ فَالْقَوْل قَوْل الْمُنْتَفِعِ، لأَِنَّهُ يَنْفِي الضَّمَانَ، وَالأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الاِسْتِعْمَال فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْهَلاَكَ جَاءَ مِنَ الاِسْتِعْمَال. (48)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالدَّابَّةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَتْلَفْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلاَ مَعْنَى لِلاِخْتِلاَفِ، وَيَأْخُذُ الْمَالِكُ بَهِيمَتَهُ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً، لأَِنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْغَاصِبِ.
وَإِنْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ فَالاِخْتِلاَفُ فِي وُجُوبِهِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ يُنْكِرُ انْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ يَدَّعِيهِ وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الاِنْتِقَال، فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ. (49)
نَفَقَةُ الْعَارِيَّةِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - مَا عَدَا الْقَاضِي حُسَيْنٍ - وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْعَارِيَّةِ الَّتِي بِهَا بَقَاؤُهَا كَالطَّعَامِ مُدَّةَ الإِْعَارَةِ عَلَى مَالِكِهَا، لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ فَتَخْرُجُ الْعَارِيَّةُ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى الْكِرَاءِ، وَلأَِنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ فَعَل مَعْرُوفًا فَلاَ يَلِيقُ أَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ، وَعَلَى الْمُعِيرِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ كَمَا فِي الْمَوَّاقِ، وَقَدْ عَكَسَ عَبْدُ الْبَاقِي الزَّرْقَانِيُّ (50) .
مَئُونَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ:
21 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَئُونَةَ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِخَبَرِ عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (51) ، وَلأَِنَّ الإِْعَارَةَ مَكْرُمَةٌ فَلَوْ لَمْ تُجْعَل الْمَئُونَةُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْهَا. وَهَذَا تَطْبِيقٌ لِقَاعِدَةِ " كُل مَا كَانَ مَضْمُونَ الْعَيْنِ فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ ".
وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّهَا إِلَى مَكَانِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ مَا لَزِمَ رَدُّهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ كَالْمَغْصُوبِ (52) .
مَا يَبْرَأُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْهَا. أَمَّا إِنْ رَدَّهَا بِوَاسِطَةِ آخَرِينَ وَإِلَى غَيْرِ الْمَالِكِ وَالْوَكِيل فَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ: قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِحْسَانِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنْ رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ مَعَ خَادِمِهِ أَوْ بَعْضِ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ عَطِبَتْ، لأَِنَّ يَدَ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فِي الرَّدِّ كَيَدِهِ، كَمَا أَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِهِ. وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَلِهَذَا يَعُولُهُمْ، فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا دَلاَلَةً. وَكَذَلِكَ إِنْ رَدَّهَا إِلَى خَادِمِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا، فَهُوَ بَرِيءٌ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَبْرَأَ مَا لَمْ تَصِل إِلَى صَاحِبِهَا، كَالْمُودَعِ إِذَا رَدَّ الْوَدِيعَةَ لاَ يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ مَا لَمْ تَصِل إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ صَاحِبَهَا إِنَّمَا يَحْفَظُ الدَّابَّةَ بِسَائِسِهَا. وَلَوْ دَفَعَ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا فَهَذَا يَدْفَعُهَا إِلَى السَّائِسِ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّهَا عَلَى السَّائِسِ. وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ يَأْمُرُ السَّائِسَ بِدَفْعِهَا إِلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَبِاسْتِرْدَادِهَا مِنْهُ إِذَا فَرَغَتْ، فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ دَلاَلَةً. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُعَارِ النَّفِيسِ، إِذْ فِيهِ لاَ بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْمَالِكِ، وَإِلاَّ لَمْ يَبْرَأْ (53) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّدُّ إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُعِيرِ أَوِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، فَلَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى الإِْسْطَبْل، وَالثَّوْبَ وَنَحْوَهُ لِلْبَيْتِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ لَمْ يَبْرَأْ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْمَالِكُ أَوْ يُخْبِرَهُ بِهِ ثِقَةٌ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَبْرَأُ عِنْدَهُمْ بِالرَّدِّ إِلَى وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَالِكَ أَوْ وَكِيلَهُ، بَل يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالرَّدِّ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَرْسَلاَهَا إِلَى الْمَرْعَى وَتَلِفَتْ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِحُصُول التَّلَفِ فِي يَدِهِمَا، حَتَّى لَوْ غَرِمَا لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَوْ غَرِمَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَيْهِمَا (54) . وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، أَوْ إِلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا لَمْ يَبْرَأْ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا وَلاَ نَائِبِهِ فِيهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ.
وَإِنْ رَدَّهَا إِلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِحُصُول ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، كَزَوْجَتِهِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي مَالِهِ، أَوْ رَدِّ الدَّابَّةِ إِلَى سَائِسِهَا، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَبْرَأُ، قَالَهُ الْقَاضِي. وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِيهَا: إِذَا سَلَّمَهَا الْمُودَعُ إِلَى امْرَأَتِهِ لَمْ يَضْمَنْهَا، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ عُرْفًا أَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ نُطْقًا (55) .
مَا تَنْتَهِي بِهِ الإِْعَارَةُ:
23 - تَنْتَهِي الإِْعَارَةُ بِأَحَدِ الأَْسْبَابِ الآْتِيَةِ:
(55) انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ فِي الإِْعَارَةِ الْمُؤَقَّتَةِ.
(57) رُجُوعُ الْمُعِيرِ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الرُّجُوعُ.
(58) جُنُونُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(59) الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ.
(60) مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(61) هَلاَكُ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ.
(62) اسْتِحْقَاقُهَا لِلْغَيْرِ (57) . اسْتِحْقَاقُ الْعَارِيَّةِ، وَتَلَفُ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ، وَنُقْصَانُهُ:
24 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ تَلَفِ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَفِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: يَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعِيرِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَدْ عَلَّل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، وَلأَِنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَالْمُعِيرُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ السَّلاَمَةَ، وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ (64) .
الثَّانِي: الرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَالرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ لِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلِقَبْضِهِ مَال غَيْرِهِ - وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ - بِغَيْرِ إِذْنِهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَعَارَهُ، لأَِنَّ التَّلَفَ أَوِ النَّقْصَ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَمْ يَغُرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ، وَإِنْ ضَمِنَهُ الْمُعِيرُ فَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةً قَال: لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ لَمْ يَجْعَل لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، لأَِنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الاِسْتِعْمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا بِالْحَال فَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى بَصِيرَةٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْمُعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا، وَإِلاَّ رَجَعَ عَلَيْهِ (1) .
أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الاِنْتِفَاعِ:
25 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعَارَ شَخْصٌ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَلِمَالِكِهِ أَجْرُ مِثْلِهِ، يُطَالِبُ بِهِ الْمُعِيرَ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ. فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، لأَِنَّ الْمُسْتَعِيرَ اسْتَعَارَ عَلَى أَلاَّ أَجْرَ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ (2) . وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى ذَلِكَ.
الْوَصِيَّةُ بِالإِْعَارَةِ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْعَارَةِ إِذَا خَرَجَ مُقَابِل الْمَنْفَعَةِ مِنَ الثُّلُثِ بِاعْتِبَارِهَا وَصِيَّةً بِالْمَنْفَعَةِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ (3) .
__________
(1) تاج العروس مادة (عور) .
(2) ابن عابدين 4 / 502.
(3) الشرح الصغير 3 / 570، والزرقاني 6 / 126.
(4) شرح المنهاج وحواشيه 5 / 115.
(5) المغني 5 / 220 ط الرياض.
(6) الشرح الصغير 3 / 570.
(7) هامش الزرقاني 6 / 132، والشرح الصغير 3 / 570، والدسوقي 3 / 433.
(8) سورة الماعون / 7.
(9) حديث " العارية مؤداة " أخرجه أبو داود (3 / 825 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة، وأخرجه الترمذي مختصرا وقال: حديث أبي أمامة حديث حسن. (تحفة الأحوذي 4 / 481، 482 نشر السلفية) .
(10) حديث " بل عارية مضمونة " أخرجه أبو داود (3 / 823 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد (3 / 401 - ط الميمنية) والبيهقي (6 / 289 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقواه البيهقي بشواهده.
(11) الاختيار 2 / 55، والشرح الصغير 3 / 570، والمغني 5 / 220.
(12) سورة الحج / 77.
(13) حديث " كل معروف صدقة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 447 - ط السلفية) .
(14) حديث " إذا أديت زكاة مالك. . . . " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 3 / 245، 246 نشر السلفية) وابن ماجه (1 / 570 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة ﵁ مرفوعا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(15) حديث " ليس في المال حق سوى الزكاة " أخرجه ابن ماجه (1 / 570 - ط الحلبي) وأعله ابن حجر في التلخيص (2 / 160 - ط دار المحاسن) .
(16) سورة الماعون / 4 - 7.
(17) فتح القدير 7 / 464، والشرح الصغير 3 / 570، ونهاية المحتاج 5 / 117.
(18) الفتاوى الهندية 4 / 372.
(19) الشرح الصغير 3 / 570، ومنح الجليل 3 / 487، وتكملة حاشية ابن عابدين 2 / 269.
(20) حاشية ابن عابدين 4 / 502 وما بعدها، والبدائع 8 / 3897 - 3898 ط الإمام، والشرح الصغير 3 / 571، والمغني 5 / 224، ونهاية المحتاج 5 / 116 - 123.
(21) حديث " استعار أدرعا من صفوان " سبق تخريجه (ف 5) .
(22) ابن عابدين 4 / 767، والمغني 5 / 224 - 225، والشرح الصغير 3 / 572، ونهاية المحتاج 5 / 120.
(23) ابن عابدين 4 / 768، وتحفة المحتاج 5 / 428، ونهاية المحتاج 5 / 130، والمغني 5 / 232 ط الرياض.
(24) حاشية الدسوقي 3 / 439.
(25) نهاية المحتاج شرح المنهاج 5 / 129.
(26) ابن عابدين 4 / 768، والشرح الكبير 3 / 439، والشرح الصغير 3 / 573، ونهاية المحتاج شرح المنهاج 5 / 129، والمغني 5 / 229 - 230.
(27) ابن عابدين 4 / 504 ط بولاق.
(28) الجمل على شرح المنهج 3 / 464.
(29) الشرح الكبير على المقنع 5 / 360 - 361.
(30) البدائع 8 / 3904، وابن عابدين 4 / 372، 5 / 772، والشرح الصغير 3 / 577 ط دار المعارف، والقوانين الفقهية ص 245، 246، ونهاية المحتاج 5 / 139، والمغني 5 / 229، 230.
(31) الزرقاني والبناني 6 / 132، ونهاية المحتاج 5 / 127، 128، والمغني 5 / 232.
(32) ابن عابدين 4 / 770، والبدائع 8 / 3900 - 3901. واللجنة ترى أن هذه الأحكام بما فيها من تفصيلات يمكن أن تجري على السيارات وسائر وسائل النقل الحديثة.
(33) البدائع 8 / 3898 ط الإمام، وابن عابدين 5 / 23، 4 / 233 والشرح الصغير 3 / 573، والرملي هامش الروض 2 / 329.
(34) البدائع 8 / 3898، والاختيار 2 / 118، والشرح الصغير 3 / 570، وحاشية ابن عابدين 4 / 503، ونهاية المحتاج 5 / 119، وأسنى المطالب 2 / 328، والمغني 5 / 227، والإقناع 1 / 305 ط دار المعرفة.
(35) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان " أخرجه الدارقطني (3 / 41 - ط دار المحاسن) وفي إسناده عمرو بن عبد الجبار وعبيدة بن حسان، قال عنهما الدارقطني: ضعيفان، وقال: إنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع.
(36) حديث: " بل عارية مضمونة " سبق تخريجه (ف 5) .
(37) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 482، 483 نشر السلفية) وأبو داود (3 / 822 - ط عزت عبيد دعاس) من حديث سمرة ﵁، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال المباركفوري: وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف مشهور.
(38) العناية شرح الهداية 7 / 469، وتبيين الحقائق للزيلعي 5 / 85، والشرح الكبير 3 / 436، وبداية المجتهد 2 / 342، وأسنى المطالب 2 / 328، والمغني 5 / 221.
(39) حديث " العارية مؤداة " سبق تخريجه (فقرة 5) .
(40) حديث " على اليد ما أخذت. . " سبق تخريجه بهذا المعنى آنفا.
(41) البدائع 8 / 3906 - 3907 ط الإمام، والشرح الصغير 3 / 574.
(42) حديث " بل عارية مضمونة " سبق تخريجه (فقرة 5) .
(43) الشرح الكبير 3 / 436، وأسنى المطالب 2 / 328، والمغني 5 / 221 - 222، وابن عابدين 4 / 769، والجوهرة 1 / 351، والزيلعي 5 / 85.
(44) البدائع 8 / 3907، ونهاية المحتاج 5 / 141، والمغني 5 / 223، ونيل المآرب 1 / 137 ط الأميرية، والخرشي 6 / 123، والشرح الصغير 3 / 574، والقوانين الفقهية / 218.
(45) حاشية ابن عابدين 4 / 506، 507، والمبسوط 11 / 143 ط دار المعرفة.
(46) الشرح الكبير 3 / 436 - 437.
(47) نهاية المحتاج 5 / 140، والمغني 5 / 236.
(48) الفتاوى الهندية 4 / 372، ومجمع الضمانات / 62.
(49) المغني 5 / 234 - 237 ط الرياض، وابن عابدين 4 / 768.
(50) لا يخفى أن هذا الخلاف محله الحيوان الذي يهلك إن لم ينفق عليه. أما إعارة الأشياء التي لا تتلف بعدم الإنفاق عليها، وإنما يتوقف على الإنفاق التمكن من منافعها فذلك على المستعير إن شاء أن ينتفع بها، وإلا ردها (اللجنة) . وانظر أسنى المطالب 2 / 329، والشرح الكبير 3 / 441، ومنتهى الإرادات 1 / 506.
(51) حديث " على اليد ما أخذت. . . " سبق تخريجه (ف 15) .
(52) حاشية ابن عابدين 4 / 505، والشرح الكبير 4 / 441، والزرقاني 6 / 136، ومغني المحتاج 5 / 124، والمغني 5 / 224.
(53) المبسوط 11 / 139 - 140، وابن عابدين 4 / 505، والبناني هامش الزرقاني 6 / 131.
(54) أسنى المطالب 2 / 329.
(55) المغني 5 / 224 ط الرياض. واللجنة ترى أن الخلاف في هذه المسألة مبني على اختلاف العرف، فمن جرى العرف أن يده كيد المستعير في الحفظ والأمانة كالابن الذي في العيال والخدم الخاص يعتبر تسليمه كتسليم المستعير نفسه، ومن جرى العرف أن يده كيد المالك، كالزوجة وال
(56) المغني 5 / 224 ط الرياض. واللجنة ترى أن الخلاف في هذه المسألة مبني على اختلاف العرف، فمن جرى العرف أن يده كيد المستعير في الحفظ والأمانة كالابن الذي في العيال والخدم الخاص يعتبر تسليمه كتسليم المستعير نفسه، ومن جرى العرف أن يده كيد المالك، كالزوجة وال
(57) ابن عابدين 4 / 506، والشرح الكبير 3 / 433، ونهاية المحتاج 5 / 130 - 131، والمغني 5 / 224.
(58)
(59)
(60)
(61)
(62)
(63) ابن عابدين 4 / 506، والشرح الكبير 3 / 433، ونهاية المحتاج 5 / 130 - 131، والمغني 5 / 224.
(64) البحر الرائق 7 / 324، والمدونة 5 / 361 نشر دار صادر.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 181/ 5
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".